كرّاس العودة الى أرض الوطن لشاعر الكونغو إيمي سيزير

حجم الخط
3

 

كان ذلك في عام 1987 حين قرأت شاعر الكونغو الكبير إيمي سيزير، في رائعته الشهيرة «كراسة العودة إلى مسقط الرأس»، هكذا تُرجمتْ حينذاك في مجلة «الأقلام» العراقية التي نشرت هذه القصيدة الغنائية الملحمية، بترجمة منيرة، مترعة بالوضوح، أحدثت حركة لافتة في الوسط الثقافي.
كنت مأخوذاً حقاً بمناخات وأجواء ورؤى هذه القصيدة، وأحفظ منها مقاطع ووقفات وجملاً بعينها، كونها تحاكي منفاي وغربتي وبعدي عن بلدي العراق، ومسقط رأسي في القرى الناعمة والغافية على كتف الفرات. كانت هذه القصيدة تعينني على تحمُّل ألم المنافي وقسوتها والتشرد من مدينة إلى أخرى مع عائلة صغيرة، حيث لا مستقر دائم ولا شعور بوميض من مستقبل معلوم، حيث كل شيء في المنفى يكون قلقاً، غير ثابت، ليس ثمة تماهٍ مع البناء والتوكيد على الحاضر، كل شيء كان يشوبه الغموض والتوتر والإبهام الذي يوفره المنفى اليك، كوافد مقيم بين ظهرانيه، فأنت مترحل وبعيد عن مَواطن الأرض الأولى.
لم أقرأ قصيدة تجسِّد غرابة المنفى وإشكالاته وأنسقته الراسخة في عمق النوستالجيا، كما كان في قصيدة ايمي سيزير، هذه البالاد التي اعتمدت النشيد الكورالي العالي، واستجمعت بين تضاعيفها ونسيجها الفني والجمالي واللغوي، كل فنون القول الشعري، معتمدة على المخيلة الجماعية، والأحاسيس والمشاعر الجماعية للزنوج الذين كانوا ضحية الاستعباد، والإقصاء والنخاسة، وكذلك العبودية الجاهلية التي جسّدها الغرب والكولونيالية العالمية في أبشع صورها، تلك المتمثلة بمضامينها العنصرية القادمة من منطق الظلام الذي كان سائداً في العصور الوسطى.
وتأسيساً على ذلك، ها هو ذا مترجم عربي يُعيدني مرة أخرى إلى عوالم ايمي سيزير، وإلى المعمار الكبير الذي تُظهره القصيدة في ترجمة جديدة، تُعيدنا مرة أخرى إلى هذا الشاعر ذي الصوت البوليفوني، البليغ والمتنوع، هذا الصوت الناهل من عمق الأرض الكونغوية، والذي كان صديقاً لأندريه بروتون، رائد السريالية الكبير، والمنخرط في مدرستها وفنها التعبيري، الجانح إلى السريلة، وأيضاً إلى البعد السنتيمنتالي وإلى الشغف المُبطن بعشق القضايا الجميلة والغريبة.
لقد انخرط الشاعر أيمي سيزير في السوريالية كمدرسة وتيار وجماعة، رسمت للفن التشكيلي، والشعري، والمسرحي نسقاً مختلفاً ومغيِّراً، ومتجاوزاً للأنساق الفنية الأخرى، تلك التي كانت تعاني في فترة من فتراتها، من أمراض فنية عديدة، من الابتذال اللغوي والفني، ومن الإعاقة الجمالية، وتفتقد في الوقت عينه، إلى المدهش والصادم والمقلق، والمؤرق وغير المستقر والراسخ والثابت على صيغ مكرورة، تبشِّر بالقبول والعادة والنمطية والمعلوم.
من هنا وإضافة إلى موهبة ايمي سيزير الفذة، وشعره المتميز الموسوم بالمُفارق والمختلف والمبتكر، ثمة بعد آخر ميزه في تلك الفترة المضطربة من فترة الستينيات، ألا وهو حسّ الزنوجة، على أننا ينبغي أن ندرك أن السريالية قد أعطت لشعره مسحة تركيبية أخرى، أوصلته إلى ذرى الفن العالي، هذا الفن الذي يمزج كل الفنون في نسيج واحد، ويجعل منه مادة مختلفة وخامة ثانية مغايرة، لا تشبه السائد، ولذا ستكون قصيدة، أو نشيد أو ملحمة «كراس العودة إلى الوطن» كما ترجمها جمال الجلاصي، والتي هي بين أيدينا، ستكون دون شك، إضافة ترجمية أخرى للمكتبة العربية، وستضيء وتعكس عوالم ومميزات وأحلام هذا الشاعر والمبدع الكونغوي الكبير ايمي سيزير للقارئ العربي.
المثير في هذا الكتاب هو مقدمة رائد السوريالية أندريه بروتون، إنها مقدمة ضافية، ومنحازة ومُلمَّة بشعر سيزير، ومليئة بحس التفجع على الزنوج في كل مكان، من قبل رجل يعد الأب الروحي للسرياليين العالميين والتي فيها يقول:
«ما يميّز الشعر الأصيل المُناقض للشعر المزيف، للشعر المصطنع من الجنس المسموم الذي يتكاثر حوله، أن تغني أو لا تغني، هذا هو السؤال، ولن يكون هناك سلام في الشعر لمن لا يغني، رغم أنه يُطلب من الشاعر أكثر من الغناء، ولست في حاجة إلى القول، إنّ من لا يحسن الغناء، ويلجأ إلى القوافي والمتر الثابت والتفاهات الأخرى، لا يمكنه سوى ازعاج آذان ميداس، قبل كل شيء ايميه سيزير هو المغني».
لعل هذا ما يؤكد على أن قصيدة سيزير لم تكن سوى مغناة عظيمة، مرفودة بجوهر وإيقاع عالم المارتنيك الحسّي، عالم تلك الجزيرة الخيالية المفعمة بعناصر الطبيعة، ولآلئها التي تضيء عالم المارتنيك، أرض ومسقط رأس الشاعر، ويضيف بروتون قائلاً: «موهبة الغناء والقدرة على الرفض، ومهارة التحويل الاستثنائية التي يعتنقها، سيكون الأمر عبثياً إذا أرجعنا كلّ هذا إلى بعض الأسرار التقنية، ما يمكن استنتاجه هو أن الثلاثة يجمعهم قاسم مشترك، هو الدفق الشديد للدهشة الاستثنائية أمام الحياة».
ولكيلا نبتعد عن عوالم هذه القصيدة الكبرى، فلنتتبع معاً أسرارها الجمالية والفنية، عبر صياغاتها المنسوجة مثل جزيرة من كلمات، والمصوغة كقطعة من طبيعة المارتنيك الباهرة بجمالها، تلك الجزيرة المستنزفة والمستنفدة لثرواتها الطبيعية من قبل الغزاة والمستعمرين، أولئك الذين استعمروا الجمال والطبيعة والإرث الذهبي لهذه الأرض الناهدة بالشموس، والمياه، والغابات، والسحر اليومي الذي يرفدها من جميع الجهات، وها هو سيزير يُنشد تلك الأرض المنكوبة بأصابع الكولونيالية:
«أيها الضوء الصديق
أيها النبع الضوئي الصافي،
هؤلاء الذين لم يخترعوا البارود والبوصلة،
هؤلاء الذين لم يروِّضوا البخار أو الكهرباء،
هؤلاء الذين لم يستكشفوا البحار أو السماء،
لكن هؤلاء الذين دونهم لن تكون الأرض السّنام».
تخرَّج سيزير من جامعات فرنسية، بلد الاستعمار الأم، نال أعلى الشهادات فيها، ليدرس في المآل بجامعاتها، وهو هناك في باريس، كان يتذكر عالمه الزنجي، مُبجِّلا إيّاه، ومُصعِّداً نشيده صوب المارتنيك وجزر الأنتيل، وبذا رأيناه لن يفوته تفصيل ما، مشهد معيّن، رؤية قديمة، صباح بعيد، فجر غائر في البعد والتنائي، انه يستذكر كالجريح تاريخه الشخصي وحياته العائلية ليدوِّن:
«زنوجتي ليست صخرة،
صمّمها المندفع ضد صخب النهار،
زنوجتي ليست لطخة ماء ميت
على عين الأرض الميتة،
زنوجتي ليست برجاً
ولا كاتدرائية،
إنها تنغرس في اللحم الأحمر للتراب،
إنها تنغرس في اللحم المتوقد للسماء».
وحين يخرج من تاريخه المستَعمَر، يتذكر ما تركه هذا التاريخ على البلد والجزر الفقيرة، تلك التي نُهبتْ ثرواتها وذهب أرضها الثمين وكنوزها العلنية، لتُترك هكذا نهباً للأمراض المستوطنة والجوع والفقر المُسيطر والبارز على البلاد المنهكة والمستهلَكة، والجريحة، وهي تئنُّ وحيدة في الليالي العصيبة:
«بُعَيد الفجر، بيت صغير آخر، برائحة شديدة النتانة، في طريق شديد الضيق، بيت صغير يضمّ في أحشائه الخشبية العفنة عشرات الجرذان، وشغب ستة من أخوتي وأخواتي، بيت صغير يجنّن تعنّته نهايات الشهر وأبي غريب الأطوار، يقرضه بؤس وحيد، لم أعرفه قط سوى سحر فجائيٍّ، يغفو في حزن رقيق، أو يتعالى في ألسنة لهب الغضب، وأقدامُ أمي التي تدور من أجل جوعنا الذي لا يعرف التعب، تدور ليلاً نهاراً، حتى أني أفيق ليلاً على أقدامها التي لا تعرف التعب تدور واللدغة المريرة في لحم الليل الطري لماكنة سنجر تديرها أمي ليلاً نهاراً من أجل جوعنا».
لقد أثَّرت قصيدة، أو ديوان «كراس العودة إلى أرض الوطن» بأجيال عالمية عديدة، وحفرتْ عميقاً دلالاتها الاستشرافية في عمق تلك البلاد، كان الحنين الأخ الأوّل للشاعر، وسنده والمرهم الشافي الذي يعالج به أمراض المنفى، وليس عدوَّا كما سمّاه أحد الشعراء العرب، لقد أفرغ كل ما كان في جعبته، من صور واستعارات وأفكار رؤيوية، وإشارات بليغة وتهويمات، ذات نزوع سيميائي في هذا العمل الضخم والبانورامي والمشمول بفنون ميلودية، ذلك أنها تبدو مثل عمل ملحمي شاهق وجامع، لتعابير فنية تبهر السمع والعين والمشاعر والأحاسيس، لقوة البناء المتكامل في هذا النص الحافل بالرؤى والمعاني، وليس عبثاً أن يصف بروتون هذا العمل الشعري الكبير بالقول: «من هذه الناحية يبدو كراس العودة إلى الوطن وثيقة متفرِّدة غير قابلة للاستبدال، العنوان بمفرده، وإن محونا القصيدة، يهدف إلى وضعنا في قلب الصراع الأكثر حساسية بالنسبة إلى الكاتب، الصراع الذي يُعتبر تجاوزه حياتياً بالنسبة إليه، فواقعياً كتبت القصيدة في باريس، بعد أنْ غادر المدرسة العليا وهو يستعد إلى العودة إلى المارتنيك، الوطن الأم».
ومن هنا يمكن اعتبار «كراس العودة إلى الوطن» صرحاً شعرياً، ففيه تجد كل ما هو متضاد ووعر وغير متجانس، خلائط رؤى وأساليب وأشكال وتعابير لغوية، ولفظية وكلامية، يستوطنها القهر والفقر والإذلال الطويل، وكذلك تستوطنها القوة والإرادة الشخصية، بكل تجلياتها الإنسانية.

ايمي سيزير: «كرّاس العودة إلى الوطن»
ترجمة جمال الجلاصي
مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة 2018
149 صفحة.

كرّاس العودة الى أرض الوطن لشاعر الكونغو إيمي سيزير

هاشم شفيق

كلمات مفتاحية

  1. يقول الحسن الحبشي:

    بل إنه شاعر وسياسي فرنسي من مواليد المارتنيك، بجزر الكاراييب، ولا علاقة للرجل بالكونغو! اللهمّ عمله المسرحي “موسم في الكونغو” عن حياة باتريس لومومبا الذي كان بالفعل أول رئيس وزراء لجمهورية الكونغو البلجيكي إلى حين اغتياله.

  2. يقول شريف الموسى الولايات المتحدة الامريكية:

    شكرا على التعليق القيم.
    ربما سقط سهوا ان الشاعر من الكونغو، بينما هو كاريبي من المارتينيك.

  3. يقول سامي المصري:

    جذور هذا الشاعر من الكونغو واشعاره عبرت عن روح افريقيا وعذاباتها ..شكرا للإضاءة الرائعة والاحتفاء بشاعر من شاعر.

إشترك في قائمتنا البريدية