القاهرة – «القدس العربي» : لم يكن للدراما البوليسية موقع من الإعراب على الخريطة الرمضانية، منذ عدة أعوام، وأقصى ما تم تقديمه لا يعدو كونه مجرد اشتباك سطحي مع بعض الشخصيات في أعمال قليلة جداً، فقد حلت النوعيات الأخرى، النفسية والعصبية والعشوائية محل حلقات الإثارة والتشويق البوليسي المفضي إلى معلومات وحكايات وتفاصيل إنسانية واجتماعية غاية في الثراء والتنوع، بمقتضى ما تتطلبه الكتابة من ذكاء وحيطة وقدرة على المراوغة والتدشين والنسج الدرامي الحساس والدقيق.
ولأن الكتابة البوليسية لها كل هذه الخصوصية وتحتاج مهارة فائقة ومستوى رفيعا من البحث والتقصي والخبرة، فهي نادرة لا سيما المقنع منها، وربما حمل مسلسل «كلبش» للكاتب باهر دويدار والمخرج بيتر ميمي مزايا فنية ودرامية، جعلته الأجدر بالمتابعة ، ليس لأنه يقدم الوجه الآخر لضابط المباحث كإنسان يحس ويتألم ويعاني ويقع تحت طائلة القانون ظالماً أو مظلوماً، ولكن لأنه لم يتبع الطريقة التقليدية في التناول الحذر المعتاد الذي شاهدناه في مئات القصص والحلقات على الشاشة، وهو في حد ذاته تطور ملحوظ في المعالجة يحسب لصناع العمل، وينبئ بزوال المنهج العقيم في الكتابة والإخراج الذي يغلب الصورة المضيئة على الجانب الواقعي في الشخصية، مهما كانت الملابسات بما يفسد العمل ويحوله إلى دعاية فجة وغير منطقية للأجهزة المعنية ذات السلطة والسيادة.
لقد نجا كاتب السيناريو الموهوب دويدار من هذا المأزق بجدارة، وساعده وعي المخرج الذي يمتلك رؤية ثاقبة وبصيرة نافذة مكنته من تقديم كل الشخصيات كما هي، بما لها وما عليها دون تشويه متعمد أو اتهامات مطلقة، فالضابط سليم الأنصاري (أمير كرارة)، رجل يحمل ثقافة الانضباط والحسم، بحكم تكوينه ونشأته ودراسته البوليسية، ويحاول تطبيق القانون من وجهة نظرة، بمعنى أنه لا يتهاون مع الخارجين عليه، فيصطدم بميلشيات وعصابات وعناصر أمنية أخرى لها ميول انحرافية، كأمين الشرطة القاتل والمبتز، فتكون النتيجة أن يقع هو شخصياً فريسة في يد من لا يرحم، وحين يعجز عن إثبات براءته بالوسائل القانونية، يلجأ إلى الهروب كوسيلة لإنقاذ نفسه، في رد فعل وسريع ومفاجئ للإحساس بالظلم، وتجمع الصدفة بينه وبين مظلوم آخر محمد لطفي، تعددت ضده الأدلة فبات قيد الاتهام ينتظر مصيراً مجهولاً، وهي ثنائية تساوي بين عنصرين مختلفين، أحدهما بوليسي والآخر مدني، في تأكيد على عدم التمييز وانتفاء المحسوبية وإعمال القانون لاستبيان الحقيقة وتحقيق العدالة كهدف أسمى.
وعبر رحلة الضابط ومحنته مع رفيقة في الأزمة يقترب الميكروسكوب من التفاصيل، فنرى نماذج لشخصيات كثيرة خارجة على القانون، تبدو في ظاهرها عناصر صالحة، بينما هي في واقع الحال تمارس حيلا وألاعيب، وترتكب جرائم يحق بموجبها أن تكون خلف الأسوار مع المجرمين والقتلة، ومن هؤلاء تبرز شخصية الحاج التقي الورع، الذي يتستر بالفضيلة كغطاء واق يجعله بمنأى عن الشبهات، وهو دور يقوم به الفنان أحمد صيام ويتقنه تمام الإتقان، وكذلك يجسد طارق النهري في دور جديد عليه شخصية محامي الشيطان، الذي يرسم ويخطط ويلفق التهم ويؤمن كل الثغرات القانونية، لقاء احتفاظه بالعلاقة النفعية مع المستثمر الكبير رجل البر والتقوى، وكلها توريات لصور إجرامية وسقوط مريع لمنظومة القيم والأخلاق، التي أفرزت أسوأ ما في المواطن من مكنون أخلاقي وسلوكي.
وعلى الجانب الآخر تتوهج شخصية مفتش المباحث، التي يجسدها باقتدار الممثل الكبير محمود البزاوي، ذلك الرجل الذي يحمل القيم القانونية ويسعى جاهداً لمطاردة أشباح الجريمة، ويتتبع كل الخيوط الدقيقة لفك طلاسم القضية المعقدة، ولا يقيم وزناً لعلاقة الزمالة مع سليم الأنصاري، بل يزداد حنقاً عليه ويقتفي أثره أملاً في القبض عليه وتسليمه للعدالة، لأن الثابت لديه من واقع أوراق التحقيق هو الإدانة، ومن ثم فالولاء للقانون أولاً وأخيراً، ولكن سنلمح بعض المتغيرات في سياسته مع سليم الأنصاري الضابط الهارب أو كرارة، الذي يتفوق على نفسه، تحتمها أدلة جديدة تظهر تباعاً في الحلقات المقبلة، التي تأخذ منحى مختلفا يكون في صالح الضابط، وتتكشف على أثرة أبعاد المؤامرة، وحينئذ يكون الصوت الأعلى للقانون دون محاباة أو مجاملة، وهي دلالة قوية على ضرورة إرساء القواعد في دولة القانون مهما عظمت التجاوزات وعلا شأن المتورطين فيها، وأتصور أن هذه هي الرسالة الضمنية للمسلسل، باقترابه من الشخصية البوليسية اقتراباً موضوعياً لبيان الأبيض والأسود والرمادي بها وفيها وحولها.
كمال القاضي