■ لم أكن أتصَوَّر أنني سأكون بينكم ذات يوم. وها أنذا أقف، الآن، فوق أرض فلسطين وأنتم تحيطون بي. لقد علَّمنا التاريخ أن ما لا يتصوّره الكائن هو الذي يتحقق غالباً. وهو ما يجعل وجودنا القاسي مليئاً بالأمل. وما هو الأمل إنْ لم يكن تحقيقَ ما لم نكن نجرؤ حتى على تخيّله؟ أخيراً، أنا بين أهلي بعد أكثرَ من ثلاثين عاماً من الحرمان. أن أكون محروماً من سوريا، أو من فلسطين، أيُّ فرق؟
فلسطين، هي اليوم، البلد الوحيد في العالم الذي ما زال يكابد احتلالاً استيطانياً يقوم على تفريغ المكان من تاريخه، وعلى إزاحة كائناته واستبدالها، وهو ما يعدّ جريمة إنسانية بلا حدود. احتلال متوحِّش لم يعد له شبيه على سطح الكرة الأرضية، ولا يعرف له التاريخ المعاصرُ مثيلاً. لكن مقاومة الفلسطينيين الشجاعة والمستمرة، ورغم كل الظروف المناهضة لها، ستحقق، ذات يوم، ما لا نجرؤ، الآن، على تصوّره. في هذا الوضع المأساويّ المرعب، وضعِ العالم العربي، لا فلسطين وحدها، حيث الدمار والتفتُّت يكتسحان بلدان مَنْ أخشى عليهم أن يصيروا «هنود الشرق»، أقصد العرب المستَضْعَفين، مع أنهم يملكون أكبر طاقة على سطح الأرض، وأجمل بقعة فيها، يحق لنا أن نتساءل: ما هو دَورُ الأدب وحدودُه، وما هي جدواه؟
للأدب، كما أعتقد، خاصة، في مثل هذه الحال، دور كبير فيخلق وعي مقاوم للاستسلام، وفي تغيير مصائر الكائنات، وتجديد آمالها. فالأدب الذي يحمل تصوّرَ المبدِع الشخصيّ للعالَم ليس حيادياً حتى في أشد حالاته خصوصية. إنه موقف وسلوك. وهو من هذا المنظور، لا يعني المبدعَ وحدَه، وإنما الوسطَ الذي يُبْدَع فيه قبل كل شيء. وأفضل مثال لدينا، في هذا الشأن، ما أبدعه محمود درويش، شعراً ونثراً.
محمود درويش خير ملهم لنا في هذه الحقبة السوداء من تاريخنا.هو الذي حقَّق تطوُّراً جذرياً في حياته وفي إبداعه. جَسَّده، أولاً، بسَفَره المخطَّطِ له بوعي، وما تلاه من تحوّلات في لغته وفي تصوّره المبدع للعالَم. وفي ما بعد، في الأماكن التي عاش فيها، شرقاً وغرباً، تجلّى ذلك التطوّر في آثار إبداعية عملاقة ذات قيمة فنية عالية. وفي ما يعنيني، أحب التطوُّر الذي يغيِّر مصير الكائن، مهما كان قاسياً، وبالخصوص، إذا استطاع أن يحرره من وَضْع لم يعد يُلْهِمه، ولا يلائمه، وأن يخلِّصه من التبَذُّل والاستيعاب. وفي هذا المجال، لا بد لي من الإشارة إلى أن العالم العربي اليوم، بحاجة أساسية إلى لغة حيّة متطوِّرة تحميه من الفناء. واللغة العربية هي مستقبل العالم العربي بشرط أن نعتني بها ونُثْريها. فالشعوب لا تدافع عن نفسها بالسلاح، فقط، وإنما بالإبداع، أيضاً.
بالإبداع الحر الذي يعبِّر عن رأي مستنير وموقف خلاّق قائمَيْن على الانفتاح والتطوّر والابتكار. ولأن ذلك يتطلَّب جهوداً كبيرة، والسلطات العربية مشغولة بأمور أخرى كما نعرف، على الأدب العربي، الذي هو ضمير الشعب بالمعنى المعرفي، أن يدافع عن ماهيته، وعن فضائه العام، بأسلوبه الخاص. وليس ذلك سهلاً، ولكن،لا بد منه. وهو ما بدأنا ندركه، الآن، بشكل مُلِحّ عبْر تمازج البشر وتخالط العالم اللامحدود.
واليوم، وقع خطواتي القليلة فوق أرض فلسطين، هو صدى حياتي كلها. أيشرح لكم ذلك مدى الرهبة التي أحسّ بها وأنا أتكلم أمامكم، أنتم أهل الأرض، وحُرّاسها؟ كل ما قلته لكم يحرجني لأنه جزء مني. لكنني أحس أن عليَّ أن أقوله. وأن أقوله بهذا الشكل. أن أتكلم معكم على هواي، مع أن فضاء العالم العربي المحافظ عَلَّمنا الحذر. لذلك «يطفح كيلنا»، أحياناً ونتمرّد. وأحياناً أخرى، في مواجهة قسوة الوجود ووحشيته، يملأ الخَرَسُ العميقُ نفوسنا، فيغلقُها فنصمت. لكأن الصمت، وحده، يكفي لمواجهة ما نعانيه.
ولكن لا! الصمت ليس حلاًّ لأنه سكون. والسكون لا أثر له في التاريخ. وهو ما يعيدنا إلى الحركة. والحركة حكاية. والحكاية تاريخ وإبداع. هكذا نصل، مرة أخرى، إلى الأدب الفعّال الذي يمكن أن يدفعنا إلى إعادة النظر في كل شيء. وأول ما يجب أن نعيد النظر فيه هو تاريخنا الشخصي. وإعادة النظر في الوجود، دائماً، ضرورية.
بمناسبة توزيع جائزة
«محمود درويش» ، في رام الله
٭ كاتب سوري
خليل النعيمي