كمال داود يعيد كتابة رواية «الغريب» من اليمين إلى اليسار

مُعارضة الغريب، هكذا جاءت الترجمة العربية لرواية كمال داود «مورسو – تحقيق مضاد» الصادرة عن داري البرزخ الجزائرية، والجديد اللبنانية.
أما «الغريب» فهو عنوان رواية البير كامو الشهيرة، بمعنى أنها رواية على رواية، أراد مؤلفها سرد واقعة القتل التي حدثت في الرواية من منظور القتيل وأهله، بعد سبعين عاماً من التغييب لصوت وشخصية المقتول، والاحتفاء بأشهر قاتل في الأدب «مورسو»، أي مساءلة «اللاوعي الكولونيالي» الذي يختزنه البير كامو، بتصور إدوارد سعيد، حيث يتجلى الاستعلاء الإمبريالي في عدم تسمية القتيل، وهو منحى يمكن ملاحظته لتمثيلات العربي في رواية «الآخر» فهو في الغالب أخرس، بل بدون لسان.
ولأن الرواية منسوجة على قاعدة المعارضة والتضاد، كان لا بد لكمال داود من استخدام الأدوات والمفاهيم ذاتها، التي أدى بها البير كامو فروضه السردية، فيما يبدو استئناساً بلعبة المرايا، فإذا كانت الجملة الافتتاحية التي تشكل عتبة نص «الغريب» تبدأ بموت ورثاء أم مورسو «ماتت أمي اليوم، وربما أمس، لا أدري»، فإن الجُملة الرّحمية التي يتناسل منها نص رواية «معارضة الغريب» تبدأ بلسان أخ القتيل، بعبارة مشابهة ومضادة في آن، على المستوى المفهومي والبنائي واللغوي والشعوري «أمي اليوم ما زالت على قيد الحياة، صامتة، لا تنبس ببنت شفة، علماً أن في جعبتها الكثير لتقوله». هكذا نطق هارون بمزيج من الأسى والتحدي ليتحدث بالنيابة عن أخيه المقتول، ويعيده إلى الوجود بالأدب، تماماً كما تمت تصفيته بالأدب، احتجاجاً على تخليد القاتل الذي أتقن «فنّ السرد حتى إنّه نجح في التعتيم على جريمته»، وانتصاراً للمقتول الأمّي البائس الذي «بدا أن الله خلقه فقط لكي ترديه رصاصة ويعود إلى التراب»، وعلى هذا الأساس قرر كمال داود عبر بطله هارون معارضة القاتل، أو تقليده «كتب الكاتب بلغته، ولذلك قررت أن أحذو حذو الناس في هذا البلد بعد استقلاله: أعني استعادة حجارة منازل المستوطنين سابقاً لأبني بها منزلاً لي، لغة لي، أن كلمات القاتل وعباراته هي ملكي السائب»، وكأنه هنا يرمي في قاع روايته مفاهيم كاتب ياسين المربكة حول كون «اللغة الفرنسية غنيمة».
المهمة ليست سهلة لا لكمال دواد ولا لهارون الذي يمثله داخل النص، فهو في مواجهة نص خالد، متجذر في الوجدان الإنساني «منقوش بصفاء صباحي، دقيق، نقي، عابق بالنكهات والآفاق»، فقد تم تشييده ببراعة وحرفية، وبرصيد قوة مادية على الأرض «لا شك أنك قرأت القصة كما رواها الرجل الذي كتبها؛ يكتب ويكيد، تبدو كلماته حجارة نُحتت بإزميل الدّقة.. أرأيت أسلوبه؟ لكأنه يتوسل فنون الشعر للحديث عن طلقة نارية»، حيث تكشف هذه العبارات عن وعورة مهمة المعارضة، وعن حيرته وأوجاعه وهو يروي للطالب الفرنسي الذي يعد أطروحة عن «العربي» الذي تواطأ على قتله البير كامو وبطله مورسو.
لم يكلف البير كامو نفسه إعطاء القتيل العربي الذي عاش ساعتين وظل ميتاً طوال سبعين عاماً أي إسم، أو ربما لم يخطر بباله أنه يحتاج إلى أن يُسمى، فكل سكان الجزائر، الحديقة الخلفية لفرنسا، لا أسماء لهم، حيث حمل القاتل اسم «مورسو»، بينما تم تجهيل المقتول «من البداية يُفهم كل شيء، فهو حمل اسم رجل، وأخي اسم حادث»، وبما يشبه الصرخة الاحتجاجية ينتفض بمتوالية من العبارات الاستنكارية «كان بإمكانه أن يسميه، الثانية بعد الظهر، كما سمّى الآخرُ زنجيَّة، جمعة، أحد آونة النهار بدلاً من أحد أيام الأسبوع»، على الأقل لو سمّاه «لكانت أمّي قد حصلت على تعويض أرملة شهيد، وأنا على أخ معروف ومعترف به يمكنني المفاخرة به، لكن لا، هو لم يسمِّه لأنه لو فعل لكان أخي قد تسبب للقاتل بأزمة ضمير، ليس من السهل قتل رجل إذا ما حمل اسمًا».
وهنا ترتفع نبرة الغضب في صوت كمال داود عندما يصرخ «كنّا أشباح هذا البلد فيما كان المستوطنون يفرطون في استغلال الخيرات»، ليعيد مواضعات نصه على قاعدة الثنائيات فيما اعتبره قصة «عربي وحسب» مقابل «الفرنسي الذي يلعب لعبة الموت»، فهذا الفرنسي الذي سهر عند جثمان أمه، سلب أخاه حتى موته، حيث بلغت سطوة ذلك القاتل منع الناس من محاولة التعرّف على القتيل «لم يسعَ أحدٌ، حتى بعد الاستقلال إلى معرفة اسم الضحية ولا عنوانه ولا أسلافه، ولا أولاده المحتملين، لا أحد، وقف الجميع مشدوهين أمام تلك اللغة المكتملة التي تمنح السماء بريقاً ألماسياً، وعبّر الجميع عن تماهيهم وجدانياً مع عزلة القاتل مقدمين إليه أبلغ التعازي، من يمكنه أن يعطيني اليوم الاسم الحقيقي لموسى؟»، حيث يُلاحظ التقاطع والتناظر ما بين اسمي مورسو وموسى.
ما لم يتسنَّ لموسى أن يرويه صار هارون يدلقه بلوعة في أذن الباحث «كقصة مكتوبة بقلم جثة»، وذلك في لحظة منادمة في الحانة «حفظت الكتاب عن ظهر قلب، وأستطيع أن أتلوه عليك كالقرآن» لكأنه يحاول ألاّ ينسى قصة الجزائر وليس حكاية أخيه الفردية «أنت تعرف أن في جريمته عدم اكتراث مهيب، حالَ، فيما بعد دون أي محاولة لاعتبار أخي شهيداً، كلمة الشهيد وردت بعد مضي زمنٍ طويل على الاغتيال؛ وما بين الزمنين كان أخي قد تحلّل والكتاب لاقى النجاح الذي نعرفه، ثم بعد ذلك راح الجميع يجهدون لكي يبرهنوا أنّه لم تقع جريمة بل مجرد ضربة شمس».
بهذه العبارات الفائرة من خزانه الشعوري، المقدودة من حرقة التجربة والخبرة التاريخية يرتفع منسوب الصوغ اللغوي عنده لدرجة الإقناع بأن من يتحدث عنه هو أخيه بالفعل، وأن رثاءه اللاشخصي المتأخر هو ما يبرر كل تلك الغضبة المحمولة على المطالبة بشيء من العدالة والإنصاف «إفهمني جيداً، فأنا لا أصدر لا عن حزن ولا عن غضب، حتى أنني لا أتلبَّس الحداد، إنما فقط … فقط ماذا؟ لا أعرف، أعتقد أنني أريد إحقاق العدالة»، فما يحاوله ليس على تلك الدرجة من التعقيد، فهو لا يراود نفسه ويمنيها إلا «بإعادة كتابة هذه القصّة، باللغة نفسها، لكن من اليمين إلى اليسار»، ولذلك تعلم لغة الآخر ليروي القصّة نيابة عن أخيه، وهذا هو ما يفسر مكوث كمال داود في المكوّن اللغوي، وكثرة الطرق على تداعياته وظلاله «اللغة تُشرب ويُنطق بها إلى أن تتملكك يوماً». إن معارضة ما سرده البير كامو يستلزم مباراته بعالم مغاير لما تم تزييفه في رواية «الغريب»، وعليه صار هارون يرسم معالم الأسرة المغدورة «فلنوضح بداية أننا كنّا شقيقين وحيدين، ليس لنا أخت لعوب كما أوحى بطلك»، ثم يأتي على الوصف الجسماني لأخيه «كان موسى أخي البكر، فارع الطول، كبير القامة نعم، إنما جسمه نحيل أعقد بسبب الجوع والقوّة المتولّدة من الغضب، كان وجهه حاد التقاطيع، ويداه طويلتين تدافعان عنّي ونظراته قاسية بسبب الأرض التي فقدها الأجداد»، حيث يتضح أن تلك المتوالية من الأوصاف ذات طابع موضوعي يحيل إلى الأشجار البشرية المنغرسة بعمق في الأرض الجزائرية لا إلى مجرد كائن بشري عابر، على الرغم من الاستطرادات اللاحقة في تفصيل مكوّنه العضلي والمزاجي.
المهم أن كمال داود، يقتحم نص البير كامو، ليجري تعديلات بنيوية لدحض مروية الآخر «لا تبدأ قصة هذه الجريمة إذن بالجملة الشهيرة: اليوم ماتت أمي، بل بما لم يسمعه أحد قطّ، أي بما قاله أخي موسى لأمّي قبل أن يخرج في ذلك النهار: سأعود أبكر من العادة»، وهذا التدخل يشير إلى أسلوب ما بعد حداثي يسمح بالاستحواذ على النص الأصلي وإعادة إنتاجه بمرئيات ومقاربات مختلفة، لها ما يبررها فنياً وموضوعياً، وكل ذلك من أجل تجذير الوعي بالمأساة الجزائرية، التي تلقي بظلالها بكثافة على السرد، وإنعاش الذاكرة المطمورة بالمغالطات والنسيانات، وهنا مكمن إصرار هارون على الكتابة «أريد منك أن تدون اسم أخي، لأنه هو أول من قُتل ولا زال يُقتل، أُصر على ذلك وإلاّ فمن الأفضل أن نفترق هنا، إحمل كتابك وأنا أحمل جثتي، وكلٌّ في طريقه»، فاسترداد الاسم يعني التأكيد على الانزراع في المكان وعلى الهوياتية التي يُراد لها أن تغيب «موسى، موسى، موسى… أحبّ أحياناً أن أكرر هذا الاسم كي لا يختفي من الأبجديات، وأنا أشدد على ذلك وأريد منك أن تكتبه بالخط العريض».
في الفصل الثاني يستأنف هارون الحديث عن أخيه ولكن من واقع مرويات أمّه «حكاية أخي القتيل موسى، التي اتخذت في كلّ مرة، صِيَغًا مختلفة بحسب مزاج أمّي»، حيث برعت في تفاصل ذلك النهار الذي غاب فيه «حتّى جعلته مذهلاً نابضاً بالحياة، لم تصف لي جريمة وموتًا وحسب، بل أيضاً عملية تحوّل خارقة، تحوُّل شاب بسيط من أحياء مدينة الجزائر الفقيرة بطلاً لا يُقهر تُنتَظر عودته كمخلص»، بمعنى أنها لم تكن تروي موسى تماماً، بل سيرة أسلافها، فهي ليست مجرد «جريمة ارتكبت في كتاب»، وما يحاوله هنا كمال داود وهارون والأم ليس سوى البحث عن قصة لتكفين موسى بها، ولذلك تم ابتكار صورة موسى العاشق الذي كان يدافع عن شرف بنت عربية على الشاطئ، كتصعيد لبطولة مقابل بطولة داخل النص. معارضة الغريب شكل مغاير ومتقدم من أشكال «الردّ بالكتابة» الذي استعرضه الثلاثي بيل أشكروفت، وغاريث غريفيث، وهيلين تيفن، حول آداب المستعمرات القديمة، فكمال داود هنا لا يواجه نص المستعمر بضجيج نضالي من خارجه، بل يندس بين شقوقه لينسف دعاواه الفكرية ويبدد ركائز وعيه ولاوعيه، مع إجلال واضح إزاء أدبية النص الماثل كأسطورة غير قابلة للخدش، بمعنى أنه يمارس تصديع النص الأصلي ليقيم نصه بين تلك الصدوع، ولذلك صار يسمي كل من يصادفه «موسى» بما في ذلك الحانة، فمن لا اسم له يستحق هذا الاسم، فهم من سلالة البشر الذين نجوا من رصاصة أطلقت في حرارة الشمس، لأنهم لم يصادفوا البير كامو، ولذلك بقوا خارج عداد الموتى.

كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية