كم كانت جنازتي جميلة!

حجم الخط
17

ها أنا في مدينة زيوريخ التي أعرفها جيداً لطول إقامتي ذات عمر في سويسرا مع أسرتي كأنني سليلة قبائل البدو الرحل، وصرت اليوم في عصر «بدو الطائرات».
في زيوريخ، أتفقد أصدقاء الماضي وأمارس هوايتي الأثيرة: التسكع وحيدة. أتوقف طويلاً أمام واجهات المكتبات على الرغم من جهلي باللغة الألمانية… أفرح حين أرى أحد كتبي المترجمة إلى الألمانية حتى في ركن متواضع من واجهة ما، وأكاد أغار منه: سأموت بالتأكيد ولعله سيبقى حياً في مكتبة ما! ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها كتبي المترجمة إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية (أي لغات سويسرا) تغطي الواجهة الأولى لمكتبة كبيرة في قلب زيوريخ بالقرب من محطة القطارات.. دهشت.
دخلت إلى المكتبة وسألت البائع: من هذه الكاتبة التي تدعمونها هكذا؟ قال: عربية توفيت منذ أيام ولها قراء لا بأس بهم.. ولذا أفردنا لها الواجهة الأولى تكريماً بمناسبة رحيلها! إذاً، فأنا الكاتبة المرحومة!.
أسفت قليلاً لنبأ وفاتي فأنا أعمل على كتاب جديد ولما أنجزه بعد!.

للمرة الثانية أتلقى نبأ وفاتي!.

قلت لمسؤول المكتبة:
كيف علمت بموتها؟
أجاب: أعلمني به كاتب عربي هو صاحب كتاب مترجم وكان يريد أن أقوم بإبرازه في واجهة مكتبتي بدلاً من كتب التي ماتت!..
وأضاف: موت أديب ما ينشط كثيراً مبيعات كتبه، ولذا، وبناء على معلوماته، أبعدت كتابه وأبرزت كتبها كما ترين…
وغادرت المكتبة وقد تلقيت، شبه مسرورة، نبأ وفاتي إذ قلما يحظى بذلك الأحياء!.
مشيت صوب نهر ليمات حتى البحيرة وجلست على مقعد رصيف مطل على «بحيرة زيوريخ».. ها قد تلقيت نبأ وفاتي للمرة الثانية، وكانت الأولى في جنيف في حادثة مشابهة بطلتها تتوهم أن موتي سيخلي لها الجو ولم يخطر ببالها أو بباله أن الخالق رد كيده إلى نحره!!

لا تخافي الموت بل الحياة!

وفجأة انهمر المطر.. ولا أدري لماذا.
شعرت بالوحشة.. الوحشة الضارية التي تخترق القلب بنصل بارد.. وفي تلك اللحظة بالذات شاهدت جنازتي تمشي تحت المطر.. بين البحيرة ومقعدي الخشبي شاهدت العشرات يحملون تابوتي.. وميزت فيهم أبطال قصصي ورواياتي.. وكل منهم يرتدي الثياب التي تركتهم فيها بين الصفحات.. ها هو رغيد الزهران صاحب بركة السباحة المذهبة.. وكفى.. ودنيا.. التي كانت تتحاور مع لوحة تمثلها شابة.. وخليل الدرع البيروتي (الآدمي).. والشاميتان ياسمين وماريا.. ها هو الصياد مصطفى و»مطرب الرجولة» الرقيق فرح، وها هو نيشان الثري والعرافة خاتون التي تنبأت بالحرب اللبنانية.. وكثيرون سواهم.. ها هم يمشون في جنازتي، وها هو الفلسطيني غزوان يمشي صوبي قائلاً: لا تخافي.. لقد حدث لي ذلك وفجرني العدو.. لا تخافي من الموت، بل خافي من الحياة.

تمارين على الموت

إنها جنازة جميلة شفافة الحضور كانت تمريناً عذباً على الموت..
أجل! كانت جنازتي الغرائبية جميلة وأنا أرى بطلات وأبطال قصصي جميعاً يحملون تابوتي وله شكل كتاب..
حسنا. أتفهّمُ ان يخترع البعض نبأ موت شخص ما، فالغيرة جزء من الطبيعة البشرية، وليس بيننا من يستطيع تنزيه نفسه عنها في بعض اللحظات، لكن الغيرة أنواع.. هنالك الغيرة العاطفية التي دفعت ببطل شكسبير عطيل إلى قتل الحبيبة البريئة ديدمونة قبل أن يكتشف براءتها. وهنالك الغيرة الأدبية التي تدفع بالبعض إلى المنافسة الابداعية الجمالية الشريفة، وهنالك حقد اللاموهوب الذي يحاول إيذاء الآخر، وذلك كريه، ومن تمارسه/يمارسه ينسى ان «عداوة الكار» تتطلب أن يكون الآخر «ابن الكار» أيضاً لا متطاولاً على حرفة الإبداع..
ولكن من الحكايا الطريفة في هذا الحقل ان «جريدة الأنوار» نشرت ذات يوم نبأ موت الأديب توفيق يوسف عواد في صفحتها الأخيرة، وكان الخبر كاذباً وغضب عواد لنشر نبأ وفاته على هذا النحو، لا في الصفحة الأولى، واتصل بالصحافي الكبير سعيد فريحة غاضباً لأن الخبر لم يتم نشره في الصفحة الأولى!!.
وكثيرة هي حكايا الأدباء الذين طالعوا نبأ وفاتهم وهم أحياء.. ولكنني كنت أكثرهم حظاً إذ شاهدت جنازتي الجميلة وهي تضم أبطال قصصي، كلهم، الذين تعلمت منهم كيف أكتب، ولكن حين نكاد نتعلم كيف نكتب يحين الوقت لنتعلم كيف نموت!.
وشكراً للذين يوزعون نبأ وفاتي، هنا وهناك، وأكثرهم طرافة تلك الكاتبة التي كانت تتوقع موتي، منذ ربع قرن، ووضبت محاضرة جميلة للمناسبة سلفاً، ولكن مشيئة الله قضت برحيلها قبلي وإن لم يفــــتها نشرها قبــــل موتها، بعدما ظلت أعواماً تتصل بي هاتفياً كل شهــــر (للاطمئنان) على صحتي!.. وهنالك أيضاً ذلك الزمـــيل الصحافي الذي كتبت له حواراً مطولاً بناء على إلحاحه، طوال أعوام، ولكنه لم ينشره بانتظار وفاتي!.. وقـــد احتفظت بنسخة عن الحوار لنشره فقد يرحل قبلي!!.. وهنالك «متشاعرة» قررت منذ أكثر من ربع قرن أن تحل محلي (هكذا دفعة واحدة!) حين أموت، وتجاوزت الخمسين وما زالت تنتظر.
وعداوة الكار يستحسن إخراجها من حقل الإفادة من موت الآخر.. فكل نفس ذائقة الموت.. ولا أحد يدري من يسبق الآخــر.. وحرب إطلاق شائعات عن هذا أو ذاك يستحسن أن تتوقف وأن لا تكون من أسلحة «عداوة الكـــار»!.. و»الحاسد والمحسود» ثنائي نجده في حقول العمل كلها كما «عداوات الكار» ولكن لا جدوى من الأذى وحروب النكايات، وهذه نصيحة من «مرحومة» محترفة!!.

غادة السمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي للقدس العربيّ…ياسيدتي المبدعة العربية غادة السمان أنت أميرة فرعونية…
    حتى لوماتت تلك الأميرة ( وكلنا سنموت سبحان الحيّ القيّوم ) ستبقى غادة السمان
    مومياء خالدة ؛ ترفض الرحيل والتهافت كبقية الأجساد العابرة في دنيا الكلمة.
    ليحفظك الله من شرّ كل حاسد إذا حسد.وأقول لك صادقاً غيرحانث…مخطأة هيئة
    جائزة نوبل للآداب لم ترشحك حتى الآن…فلوماتت غادة السمان ؛ ستنقص أحرف الأبجدية العربية وستختل الأرقام.ويتوقف الارسال بين العشاق ؛ لأنّ غادة هي هرمون بل هرم من كبرياء الأحرف التي ما أنحنت إلا للقلم.مع الودّ.

    1. يقول أميمة الإمارات:

      احسنت

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    فلسطين تناديك يا أستاذة غادة
    ماذا لديك لأطفالها الذين يقتلون بدم بارد

    “أنت في جلدي وأحسك مثلما أحس فلسطين: ضياعها كارثه بلا بديل، وحبي شيء في صلب لحمي ودمي، و غيابها دموه تستحيل معها لعبه
    الإحتيال. ”
    من رسائل ‫#‏غسان_كنفاني‬ الى ……..

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول للأسف الشديد ، عربي:

    كانت فنانة في اشعارها الرنانه
    قصائدها جداً جميلة .. كلماتها تعانق القلب والعقل وذات معنى وقيمة
    ايه كّتبها كّر وفر في مكتبات الدول الأوروبية..
    تمت ترجمتها إلى عدة لغات مختلفة..
    وكانت تلك الحالة الشعرية..
    عاشق اشعار صلاح عبدالصبور
    رحمه الله.

  4. يقول عبد الله/الجزائر:

    لماذا غادة …تموتين وانت المعلمة التى علمتنا القراة والكتابة ….ولحن الحب ..لماذا هل مازلت تسكانك الكوابيس …..ام ان بيروت تقتل كل يوم واحد فينا وتبحث عن ضحية…..غادة /قديسة الشرق ..مازلنا نشم فيك رائحة الشرق بماضيه بكل عنفوانه.بكل إنتصاراته وخيباته كذالك…..غادة هل تذكرين شيئا من الشرق معى زمن الاحلام التى تبددت…هل تذكرين ممرات النضال الفلسطني والحلم السوري والحلم العراقى ….حتى بيروت كانت جميلة عندما كانت تستعد لحربها الاهلية.الوحيدة…كثرت حروبنا يا صد يقتى …فلا اليسار بقى يسار ولا اليمين بقى يمين….وعندما كثرت حروبنا الاهلية والطائفية لم يعد من الشرق إلا الذكريات وماضى القومية…واوراق مشاريعنا الوحدوية هى خراب تحت قصف الطائرات .أو هى تمائم معلقة على صدور دعاة التطرف والوحشية والبربرية ….يا صديقتى مثقل بعروبتى وميراثى ….حافظي على نفسك لانك المرآة التى أرى فيها تاريخى وأتاكد من شهادة ميلادي …لاتموتى يا صديقتى فموتنا كثر ولاجئونا كثر….نموت هكذا ياصديقتى ونجهل لماذا قتلنا …ونجهل أسماء من شيعونا…./غادة/ قديسة الشرق

  5. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    دخلت الأديبة غادة السمان بواسطة ابداعها المتفرد ، الى عقولنا وقلوبنا لتغذي الفكر والروح ، كونها تحمل في كتاباتها رسالة انسانية للعالم . وكم كتبت عن تفاهات المجتمع وآفاته من الحسد والغيرة والنميمة وغيره من السلوك العدوانية . اتمنى ان تُترجم كل كتب الأديبة المتميزة الى اللغات العالمية ليطلع عليها الجيل من الاصول العربية ، ممن لا يجيد اللغة العربية ، وأن تجد طريقها الى المكتبات العامة والخاصة في أمريكا الشمالية .
    رعاك الله سيدتي من كل سوء ، ولك طول العمر ان شاء الله .
    أفانين كبة
    مونتريال

  6. يقول كمال الهردي - اليمن:

    جميلة هي تلك النصيحة يا غادة ! وﻷني روائي فقد أحسست كثيرا” عندما كتبتي ” بقليل من التصريف ” أنه حين تموت سيشيعك أبطال رواياتك بالثياب التي تركتهم فيها على صفحاتك.

  7. يقول ،،ابو سالمUSA:

    أتمنى لحضرتك العمر الطويل والصحة والعافية،ربما لم اقرأ لك اي رواية او كتاب،ولكن اقرأ مقالاتك الجميلة والنبيلة ،والتي تظهر لي كم انت عربية بالرغم من انك عيشتي لسنين طويلة في دول الغرب،فهنيئا لنا ان يكون بيننا كتاب من وزنك وبلغتنا العربية اللتي اعشقها،على الرغم من انني أعيش في دول الغرب لأكثر من أربعين عاما ،وأتقن لغات عديدة،ولكني والحمد لله مع مرور هذه السنين لا زلت احافظ على هذه اللغة الجميلة،وشكرا ،

  8. يقول د. حفيظ (الجزائر):

    تحية صباحية عطرة الى كاتبتنا الخالدة ….اضع عدة أسطر تحت كلمة خالدة…لأن الأدباء لا يموتون,,,,,أمتعتنا و الله يا صاحبة الخيال الخصب و اليراع العذب….

  9. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    أطال الله عمرك
    من تقاليد الصحف البريطانية أنها تحضّر مرثيات الأشخاص المعروفين لتكون جاهزة للنشر حال الوفاة مع إضافة بسيطة ….و يحدث كثيراً أن يموت كاتب المرثية قبل صاحبها
    الأعمار بيد الله ، و
    كل إبن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على ألة حدباء محمول

  10. يقول فرج عبد السلام/ الأردن:

    أعجبتني ثيمة المقال الهادئة المرتدية ثوبا مطرزا بالسخرية والفكاهة. رائع يا محترفة الموت!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية