«كواليس القدر» وانتصار ماكرون

الانتصار كان ساحقا. التوقعات سارت على هذا الدرب، ومن سار على الدرب وصل. والرحلة بقيت محفوفة بالعقبات والمخاطر.
الطريق إلى الرئاسة كان عمق المسألة في هذه الانتخابات الفرنسية ولا يزال، لكن حتى يسير المرء على الدرب فيصل، لا بد أن يكون الدرب ممهدا.
«كواليس القدر» هو العنوان الذي يلخص ربما وصول ماكرون إلى الرئاسة. أولا لأنه يعكس بجلاء المنعرج الذي أخذه منذ عام وزير الاقتصاد السابق، وهو يستشعر أن فرانسوا أولاند بات قاب قوسين أو أدنى من اعتزال المعترك السياسي وإن لم يصرح بذلك بعد حينذاك. «كواليس القدر» ثانيا لأن ماكرون تفطن إلى أن «المكتوب» ـ (الكلمة العربية الأصل التي دخلت مفردات التداول في فرنسا)ـ إذا أريد له أن يكون مكتوبا فعلا، يستلزم خوض معركة شرسة و فورية لتحطيم الكثير و الكثير من التقاليد و التركات و الصور النمطية و القوالب الجاهزة التي دفعت فرنسا باتجاه الجمود. جمود الخوف، بل الهلع، من التغيير.
«كواليس القدر» ثالثا لأن ما يحدث في فرنسا الآن يذكر بـ« كواليس القدر» وهو عنوان ابتدعته منتجة تلفزيونية لبرنامج لم يعمر طويلا بثته القناة الأولى الفرنسية في نهاية التسعينات.
و»كواليس القدر» رابعا لأن البعد المعنوي للعبارة يتلاءم تماما مع المشهد الخارق الذي بدأ يتشكل من جراء اختراقات ماكرون. اختراقات انطلقت أولا من رغبة في تقريب المجتمع المدني من الشأن السياسي، تجسيدا وعودة إلى التعريف الأصلي والأصيل لكلمة «جمهورية» التي تعني باللاتينية القديمة «الشأن العام».
فكم عريضة هي الآمال المعلقة على «الشأن العام» لمن تخامره فكرة استعادة نبله للعمل السياسي. فالشأن العام يناقض ابتزازات طرف على حساب الجميع، ويرفض أن تُطبخ الطبخات على شكل صفقات تحت الطاولة، ويكرس مبدأ نهاية الامتيازات، وإن بقي معرفة إلى أي حد مشاريع مماثلة قابلة للتحقيق.
انطلقت اختــراقات مــاكرون ثانيا من رغبة في تثبيت أحد دعائم العقيدة السياسية الفرنسية التي بقيت في «المهد»، وهي استقلالية «الوسط».
فقد كنا نتكلم في فرنسا إلى حد بعيد عن «وسط اليمين»، وبصورة أقل، لكن بمغزى أيضا، عن «وسط اليسار»، في تقصير واضح لإفساح المجال لـ»طريق ثالثة» تجعل المشهد السياسي يضع حدا لثنائية الاستقطاب التي ترفض من الأساس أن تمثل الأفكار و الخبرات رغبات في التغيير قبل أن تكون ألوانا و أيديولوجيات.
أما الآن، فقد لاحظ المتابعون إطلاق مصطلح «المترشح الوسطي» للتداول، دون تحديد «جهة» للوسط فيما يعطي الانطباع بتشكل ملامح مشهد جديد يترك المجال أمام ترسيخ مبدأ أن قضايا المجتمع الأساسية «بدون لون»، أكانت متعلقة بمحاربة البطالة أو خلق مناصب شغل أو ضمان تكافؤ الفرص أو مكافحة الإرهاب أو حماية البيئة أو تأمين القطاع الصحي.
اختراق للقوالب الجاهزة بدأ إذن، وهو مبني على طرح يفيد بأن التفكير السياسي ليس ملكا لتيار أو حزب. في هذه المرحلة، لا نزال في طور المشاريع، فسؤال مدى قابلية أن ينهض وسط فرنسي «يعلو ولا يعلى عليه» في القادم من الأيام ما زال قائما. والدليل الأكبر، تجاذبات بدأت تطفو على السطح تعبر عن رغبة غير معلنة من مسؤولي الوسط الفرنسي التقليدي (يمين الوسط) في تكوين «أقلية داخل الأكثرية « تضمن لهم عند الحاجة القدرة على تجميد أي تصويت في البرلمان لا ينال رضاهم.
إن لم تبدأ فترة شحذ السكاكين بالضرورة، فقد انطلقت بوضوح فترة إثبات النفس بالبت والفصل في معسكر ماكرون.
هذه الانطلاقة الجديدة، أراد بها ماكرون أن يرسل رسالة قوية، رسالة طويلة النفس تعطي صبغة جديدة للجمهورية الفرنسية، تكتسي أولا طابع تحديث الطبقة السياسية بإعطاء الكلمة أكثر للمجتمع المدني.
أراد ماكرون أيضا ان يرسل رسالة قوية الرموز، أخذت شكلا متميزا خلال المظاهر الاحتفالية التي أعقبت فوزه بالانتخابات، حينما قطع المسافة التي تفصله عن المنصة الواقعة أمام متحف وهرم اللوفر والتي ألقى منها خطابه الرئيسي. أراد بوضوح أن يضرب موعدا للتاريخ باختزال التاريخ، تاريخ متحف كان ذات يوم قصرا للملك، قبل أن يتحول إلى معبد للثقافة، و ضرب الموعد نفسه أمام المعلم الحداثي التي أراده فرانسوا ميتران «هرم اللوفر» في إشارة واضحة إلى أن الجمهورية الفرنسية ، التي أراد من الآن فصاعدا إلحاقها بتسمية تشكيلته السياسية، لتصبح «الجمهورية إلى الأمام»، قادرة على استيعاب شتى مراحل تاريخ البلد فتنفخ فيه روح الإبداع من أجل مصيرها الآتي.
زمن إطلاق برنامج «كواليس القدر» على القناة الأولى الفرنسية سنة 1994 ، كنا وعدد من الشباب المتابعين، لم نبلغ العشرين ربيعا بعد، وكنا نشاهد هذه الاستعراضات لمسيرات شخصياتنا السياسية الفرنسية فكان بالإمكان الوقوف فعلا على ما صنع «القدر» منها.
أما اليوم فلا مجال للوقوف عند استعراض لكواليس متصلة بماض شكل مراحل مسيرة. كواليس القدر، اليوم، نعيشها.

«كواليس القدر» وانتصار ماكرون

بيار لوي ريمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية