■ أنهيت مرافعتي وخرجت مسرعًا من قاعة محكمة «عوفر» العسكرية. مجموعة من المباني الاسمنتية الجـــاهزة تتوسطها ساحة، أصغر من وسط رقّاصـــة خبيرة، تشكّل حيّزًا إليه يهرب المحامون لتفادي ثقل الرمادي الباهت، ورائحة الشقاء المنثورة في كل زاوية من زوايا تلك «البركسات».
مباشرةً، عند اقترابي من زملاء وقفوا في وسط تلك الساحة، يسألني أحدهم في ما إذا كنت سأصوّت في انتخابات الكنيست المقبلة؟ وقبل أن أجيبه يعلن، بحزم مُنجّم، أنه لن يصوّت للقائمة المشتركة لأنها تضم مرشّحًا يهوديًا لا يعجبه ولا يتوافق معه في مواقفه وآرائه.
لم أنجح بالإصغاء لكل ما دار بينهم، حاولت أن أتابع تداعيات المشهد وما رافقه من مؤثّرات، لكنّني سرحت للحظات، كعاشق يستحضر ليلة أضاع فيها قمره على ضفّة نهر يأتيه من بعيد ويروي عن حكايا الندم الشرقية، وعن فجر يموت قبل أن يرى صبحه؛ كانت أيديهم ترتفع وتنزل كأيدي مجموعة من عازفي الكمنجة المبتدئين، وأنا، كمن ضربني البرق، وقفت، بحلقت وانتظرت زملائي، الذين تجمّعوا هناك واختلفوا ثمّ اختلفوا.
كنّا قد دعينا للمشاركة في مؤتمر لمناصرة قضية فلسطين، أعادتني الذاكرة التي بدأت تتدفق كالوجع، كان المشاركون من عدة دول أرسلت وفودًا يمثل أعضاؤها نقابات عمّالية ناشطة في بلادها وفنانين من مجالات مختلفة.
كانت أثينا في تلك السنوات حصنًا فلسطينيًا، القيادة اليونانية تعتبر أهم حليف لفلسطين ولا تبخل بإظهار دعمها المطلق. اليونانيون البسطاء يشعرون بأنهم كفلاء لأيتام فلسطين ومقهوريها، سائقو التاكسي يجنون عندما يكتشف الواحد منهم أن زبونه فلسطيني، فيبدأ السائق بإطلاق يونانيته كالرماح وأقراص الحديد الأوليمبية. لم نفهم عليهم ولكننا كنا نشعر أنهم يحبوننا حتى الدنف، وأن «عرفاتنا» عندهم كسليل من سكنوا الأولمب، وهكذا كانوا يحترمونه ويعشقونه.
في الليل صار الفندق عامرًا، الكل يبادر بالتعرّف على الكلّ، وكنّا، نحن وفد رام الله الفلسطيني، أكثر الوفود المطلوب لقاؤها، فنحن قادمون من هناك، من بلاد الجسور الخشبية التي تسبح فوق النهر ومدن القباب الخضر والحمام. فلسطين كانت الشرف وكانت الهمّ، والآتون منها استُقبلوا كالبركات الراجلة، على أعناقهم تدمع الجميلات، من لهفة وشوق فتهبط «منى واصف»، ومعها صاحبة «أيام معه»، من أحلامهن الدمشقية ليرتحن على رائحة مسافرة من أسوار القدس العتيقة.
في الصباح زحمة، جميع الوفود تتكوّم على باب القاعة، لكن الأبواب تبقى موصدة. بعد أكثر من ساعة، يستدعينا مندوب منظمة التحرير في أثينا ويأخذنا، مع رفاقنا أعضاء وفد الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إلى غرفة جانبية. ما زلت أذكر لون السواد في وجهه وأرى، لليوم، حرجه، وهو يشرح لنا أن رعاة المؤتمر «اكتشفوا» وجود عضو يهودية في الوفد الحيفاوي، وهم يعارضون دخولها للقاعة. قال المندوب الفلسطيني كلامه بارتباك وغضب وأضاف، على ما يبدو، فإن الليبيين هم من موّل جميع أعمال ومصاريف المؤتمر، مع أن الاتحاد العام لنقابات اليونان هو الطرف الداعي لجميع الوفود الحاضرة، وأردف، مؤكدًا، أنّهم أخبروه بحرجهم من هذا الموقف، لكنّهم يخشون، ممّا قد يلحقه هذا الشأن بمكانة الجماهيرية الليبية في العالم العربي، وهي التي تشكل، هكذا برأيهم، رأس حربة في مقاومة إسرائيل والاحتلال. بعد نقل الموقف الليبي استأنف المندوب الفلسطيني كلامه معلنًا أنّهم يقترحون تعويض العضو اليهودية ويعرضون عليها تمويل رحلتها في أسواق أثينا ومشترياتها طيلة أيام المؤتمر، مهما غلت.
رفعت وجهي ونظرت إلى وجه «مريم» اليهودية، التي كانت تجلس وسطنا، فلاحظت أنها تحاول بطرف سبّابتها المرتجفة إخفاء دمعة، وسمعتها تتمتم: «فليخجلوا من أنفسهم .. وليذهبوا إلى الجحيم. ليعطوا هذه القاذورات لعاهراتهم»، وصمتت.
حاولت وأنا أنظر في عينيها، أن أقدّر كيف كان شعورها وهي التي لم تفوّت مظاهرة في شوارع تل أبيب وغيرها، حين كانت تقود فيها العمّال والكادحين وتهتف في وجه الجيش والشرطة، من أجل إسقاط الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية؛ حاولت أن أشعرها بأنني أعرف كيف تتألّم وهي التي عرفت الكفاح والجوع، وتدفع ثمن كونها يهودية مختلفة، وقد تركت ابنها وراءها، سجينًا في سجون جيش الاحتلال الاسرائيلي، لأنه رفض ويرفض الخدمة العسكرية في جيش يحتلّ ويقمع. أشاحت عني، وقد نقلت إليّ بسمة أمل كتلك التي يؤمن بها من صادق الفجر كادحًا وراء لقمة عيش كريمة، وداعيًا لرفعة الإنسان، كل إنسان.
وفود عمّالية كثيرة، من أرجاء العالم، حاولت التدخّل، بعضها هدّد بالانسحاب، وكذلك فعلت القيادة الفلسطينية من تونس. في اللحظات الأخيرة، وبعد أن فهمت مريم أن إسلام القذافي، الذي وصل إلى الفندق لمتابعة هذه الأزمة، لا يملك حق التصرّف وأن مصير انعقاد المؤتمر بات في خطر، وقفت، وبصوت واثق، كقائدة عمّالية لم يغرِها السراب يومًا، طالبت الجميع بأن يكملوا الطريق وينجحوا المؤتمر الذي جاء الجميع من أجله، ففلسطين هي القضية وإنهاء احتلالها هو الهدف، والدولة الفلسطينية هي أقرب من حلم.
انتصف النهار، ازداد عدد المحامين المشاركين في النقاش. فجأةً، تذكّر زميلي أنني ســــئلت، عن مشاركتي في الانتخابات المقبلة، فاستفسر إذا كنت أوافقه رأيه، ومثله لن أشارك في التصويت، لأن في القائمة مرشحًا يهوديًا لا يروق لنا؟
حولنا، بدأ يخرج من المباني الإسمنتية، القضاة العسكريون والمدّعون وطواقم المحكمة، يتّجهون نحو قاعة الطعام، أهالي المعتقلين محاطين بأسلاك تفصلهم عنا بساحة خصّصت لهم، يذرعونها بهدوء من تعوّد على المكان وألفه. الراديو، من غرفة مجاورة، ينقل الأخبار الاقتصادية العالمية، في طليعتها أن دولة اليونان قد تفلس قريبًا وأن حكومتها توطّد علاقاتها العسكرية مع حكومة إسرائيل، ثم ينتقل المذيع ليعلن عن أعداد المذبوحين في ليبيا والمفخّخين في العراق. ألاحظ أن زملائي لا يعيرون الأخبار اهتمامًا، فأنظر باتجاه زميلي، وأجيبه: «أنا متأكد من شيء واحد، يا أخي، لو لم يكن في القائمة المشتركة مرشح يهودي، من رفاق مريم، نوعم، دوف ويهودا، فمن المؤكد أنني كنت لن أصوّت لها». قلت ومضيت وهم لا يعرفون أن: «مطار أثينا يغيّر سكّانه كلّ يوم، ونحن بقينا مقاعد فوق المقاعد، ننتظر البحر، كم سنة يا مطار أثينا؟»
يتبع
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس
في هذا الزمن الصعب لم يبقى كثيرون بامكانهم اعطاء
” بسمة الأمل تلك التي يؤمن بها من صادق الفجر كادحًا وراء لقمة عيش كريمة، وداعيًا لرفعة الإنسان ، كل إنسان ” ، مثل ” النصارى ” العرب امثالك وامثال الاستاذ الكبير الياس خوري واخرون ، وبقدر ماهي تحية وتقديرا بقدر ما هي مسؤولية عليكم لمساعدة االعرب كلهم في الحفاظ على القليل مما تبقى من الهوية و الروح ..