الرقعة الترابية التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة» تتقلّص أكثر فأكثر. المدن التي أقام فيها تجربته في الاستخلاف «على منهاج النبوة» تنتزع منه الواحدة بعد الأخرى، أكواماً من ركام، وتهجير قبل الجلاء وبعده. لا يمكن الحديث مع ذلك عن «انهيار الجبهة على طول الخط» بالنسبة إلى التنظيم. تقلّص رقعته يظهر على الأغلب كمسار تتابعي يحاول رجال «الدولة» تأخيره ما استطاعوا. غير أنّه، لا مرجعيتهم النصّية، ولا مسرح خيالهم، ولا الشروط المتاحة، تغريهم بتحشيد العدد الأكبر من المسلّحين للدفاع عن أي مدينة بعينها كما لو أنّها «ستالينغرادهم» لا فكاك عنها. على العكس من ذلك، يعطي التنظيم الأولوية للحفاظ على موارده البشرية، و«يدوزن» ما يصرفه منها في عملية تأخير تقدّم أعداءه من أجل الحفاظ على هذه الموارد. وأكثر، يمكن المجازفة بالافتراض أنّ كل رؤية التنظيم لما يحدث لرقعة سيطرته الآن في سوريا والعراق تكاد تختزل بتراجع ما بات يمكن أن يصله في «مهاجرين» اليوم. يحتاجهم قتالياً، لكن أيضاً رمزياً ومعنوياً، كوقود لـ«الدولة المهاجرة». وبهذا المعنى، وصول بضعة مئات من المقاتلين من مجموعة «متنسبة» للتنظيم في جرود شرق لبنان إلى «الداعشستان» هو نبأ سار بالنسبة لهيكلية التنظيم التي تسعى جهدها حتى الآن، للتفريق بين «التقلّص» و«التضعضع». ليسوا فقط مجرّد مقاتلين جدد للزود عن «الداعشتسان» المتضائلة. هم تثبيت لفكرتها الأثيرة كدولة مهاجرة، ولو أتوها بباصات «حزب الله».
تأخّر التنظيم بعد الاستيلاء على الموصل، وصولاً حتى تكريت، قبل ثلاث سنوات، في إشعال معركة بغداد، بالشكل الذي سمح للأمريكيين في قيادة تحالف الحرب الجوية والصاروخية عليه. لكن الرعب الحقيقي من أن يتواصل الزحف حتى بغداد دفع المرجعية النجفية للإفتاء بوجوب قيام «الحشد الشعبي»، مجموعة من الميليشيات الشيعية المهدوية (مع بعض الموزاييك الأقلوي وبقايا «الصحوات»). استطاع التنظيم مع ذلك أن يتقدم لفترة على جبهة الأنبار، ثم أخذ ميزان القوى يميل ضده منذ انسحابه من تكريت. بالتوازي، لم يستطع التنظيم أن يذهب أبعد من سنجار، وتهجير الإيزيديين، بإتجاه اربيل، أو في سوريا، باتجاه كوباني. وجد التنظيم نفسه في حالة كماشة. استطاع مع ذلك أن يتوصل إلى «سياسة مريحة» له مع النظام السوري، وكثيراً ما يعطى لهذا تفسيرات مخابراتية، تتراوح بين اختزال التنظيم لصناعة النظام وبين التنبيه إلى وقائع التواطؤ أو بينهما. ما يجري اغفاله، أنّ التنظيم، ولما كانت معركته هي مع الأمريكيين وحلفائهم، من الجو، ومع الحشد الشعبي والجيش العراقي والميليشيات الكردية في البر، استحال النظام السوري أقل وطأة عليه، إذ لا أهلية له للمشاركة بشكل حثيث في تطويق التنظيم، سواء لأسباب ترتبط بقدرات النظام نفسه ودائرة المعارك التي يشغلها، أو بالمعطيات الجغرافية الصحراوية.
استطاع التنظيم نقل المعركة، بالشبكات الإرهابية، إلى عدد من المدن الكبيرة حول العالم، وأعطى ذلك لإعلان «الخلافة»، خاصته، بعداً معولماً، بخلاف ما كان يذهب اليه تقدير أمر الجماعة الزرقاوية سابقاً، والتي منها انبثق التنظيم. فقبل أن تصير «دولة العراق الإسلامية» هي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ثم «الدولة الإسلامية» فحسب، كانت تتميز، من ضمن ارتباطها بتنظيم القاعدة، باثنتين: مشروعها الإبادي بالنسبة إلى الشيعة، وحصرها المعركة، ومعها نيّة الدولة، في أرض الرافدين. وتعدّل ذلك مع الحرب السورية، بالإبقاء على المشروع الإبادي نفسه، وربط نيّة الدولة بتحطيم «نظام سايكس بيكو»، وإعادة توحيد مجرى الفرات. لكن، الكماشة التي طوقت التنظيم، بالبر والجو، جعلته عاجزاً عن تحقيق المشروع الإبادي هذا، بعد الشروع فيه في المجازر بحق جنود الجيش العراقي النظامي في حزيران/يونيو 2014.
وفي المقابل، أدّت هذه الكماشة، والوقت الذي قطعه مسار الأمور على الأرض لتقليص رقعة تنظيم «الدولة»، إلى تحوّل «الخلافة الداعشية» إلى فكرة عالمية، تجاوزت بأشواط سمعة تنظيم «القاعدة» على هذا الصعيد. فشل «المشروع الإبادي» في الذهاب أبعد من مجزرة سبايكر (12 حزيران 2014)، والفظائع بحق الإيزيديين، وأستعيض عنه بمشروع «فيلم الرعب الهوليو-داعشي» المتنقل بين مشاهد قطع الرؤوس وبين الهجمات «الإنغماسية» وعمليات الدهس.
مثلما تذهب أكثر الدراسات التاريخية اليوم للقول بأن أدولف هتلر وقادة «الرايخ الثالث» كانوا على دراية منذ خريف 1941 بأنّهم خسروا الحرب، التي استمرت أربع سنوات أكثر تدميراً وفتكاً من بداياتها، كذلك يمكن القول بأن قادة تنظيم «الدولة» يدركون بشكل أو بآخر منذ خسارتهم لمدينة تكريت، في آذار/مارس 2015، بأن الرقعة التي يسيطرون عليها لن تنفك تتقلّص، حتى يغادرون المدن الكبرى جميعها، ثم تتقطع أوصال مناطق سيطرتهم المتبقية.
اغراء بمقارنة: منذ خريف 1941، ودخول الولايات المتحدة في الحرب، في مقابل استفحال أزمة توسّعهم في الشرق، أخذ الألمان يتحضرون لهزيمتهم. إبادة يهود شرق أوروبا اندرجت ضمن هذا السياق، سياق أنّه «النصر» الوحيد الذي يمكن بعد احرازه في هذه الحرب، والذي يمكن اهداؤه للأجيال المقبلة بعد الحرب. أخذ الألمان أيضاً يتحضرون لأمر آخر: التحضير للهزيمة الكاملة، تلك التي لا تبقي مكاناً للأخذ والردّ، الهزيمة المحصّلة بالتقلص المتواصل لمناطق السيطرة وصولاً إلى آخر نقطة في برلين، وليس بانهيار الجبهة نتيجة لتضعضع أو تململ أو خيانات. طبعاً، هناك من ظلّ يعوّل، بين قادة الرايخ، على مشاريع سلام، إلا أنّ كل هذا التعويل لم يثمر بالنهاية إلا اعطاء أولوية للاستبسال على جبهة بروسيا الشرقية ضد السوفييت، لصالح تسهيل تقدم القوات الأمريكية والبريطانية بقصب السباق إلى برلين.
ثمة مطبات كثيرة يفترض أن تجعلنا نتردد قبل المقابلة بين نموذج «الرايخ الثالث» وبين نموذج تنظيم «الدولة». لكن ثمّة مغريات بالمقابلة لا بأس من الانقياد لها جزئياً. منها، أن التنظيم، منذ خسارته لتكريت، يفترض انه يعلم انه ذاهب لتقلص رقعة سيطرته وصولا إلى زوالها، ولو بعد سنوات، وقد قطعنا هذه السنوات. الفارق يبدأ من ان تطويق التنظيم أبعده عن تحقيق «مشروعه الابادي» لشيعة العراق، في حين ان تطويق المانيا الهتلرية مع دخول أمريكا الحرب ضدها وعدم التمكن من الحسم سريعا ضد الروس، دفعها نحو تنفيذ «مشروع ابادي» بحق يهود شرق أوروبا. ورغم التشابه بين حالتي التقلص التدريجي لرقعة السيطرة، إلا ان الفارق يعود فيظهر في النهاية، حيث لعب الألمان بقتالهم العنيف في بروسيا الشرقية ضد السوفييت دوراً أساسياً بتمكين الأمريكيين من الوصول حتى برلين، فلو أنهم حاربوا على الجبهات جميعها بنفس القدر، لما كان للأمريكيين مثل هذا، ولكانت النتيجة العامة للحرب العالمية مختلفة. وليس لـ«داعش» مثل هذه القدرة على تغليب منتصر عليها على منتصر آخر.
بفعل التقلص التدريجي لمناطق سيطرتها، حتى النقطة الأخيرة، جاءت هزيمة ألمانيا النازية كاملة. لا احتمال للتشكيك فيها، أو للقول بعد ذلك بأنّه لو فعل كيت وكيت من الأمور لانعكست الآية وكان الظفر. التقلص التدريجي لمناطق سيطرة «داعش» يدفع بإتجاه مشهد مشابه. فرغم سهولة الكتابات اليوم بأنه بعد «داعش» موجة أخرى من «الجهاد المعولم»، كما كانت قبلها «القاعدة»، تبدو «داعش» كمشروع كارثة شاملة من النوع الذي لا «تنبيت» من بعده. إلا كالفارق بين النازية وبين كاريكاتورها، النازية الجديدة. هناك موارد ايديولوجية أساسية محكوم عليها بالنضوب بعد «داعش»، ذلك أن التنظيم أسرف في استخدامها.
بقي أن التنظيم، وبخلاف الحالة الألمانية النازية، ما زال يركّز على عدم الاستهلاك السريع لموارده البشرية. وما زال يصرّ على الدوزنة بين تأخير عملية تقلّصه الترابية وبين تأخير عملية تقلّصه البشرية. فالتنظيم مسكون بنقد مزدوج، ليس فقط لتجربة «الإخوان» في التحاكم لصناديق الميسر الانتخابي، بل أيضاً لتجربة «الأفغان العرب» الذي تركوا أنفسهم يحصرون في «تورابورا» ويفنى أغلبهم.
لا «داعش» بعد «داعش»، بخلاف القراءات المستهلة لهذا التنبيت. لكن «داعش» هذه، لم نفرغ منها بعد. فهي ما زالت تتقلص، لكنها ما زال لها نخاع شوكي يعمل على «التناسب» بين الخسائر التي يحصدها.
وسام سعادة
داعش عبارة عن خوارج مجرمين مخترقين من عدة مخابرات لا عهد ولا ذمة لهم
القادم بعد داعش قد يكون أسوأ منهم ولكن لن يكون لهم وجود بالمدن !
أي ستكون الصحراء الملاذ لهم – أي قطاع طرق وصعاليك !!
ولا حول ولا قوة الا بالله