لا «شارلي» ولا «كواشي»

نعم، لا أنا مع «شارلي إيبدو»، ولا مع الأخوين «كواشي»، فلست مع الإساءة للنبي الكريم، ونشر الكراهية للإسلام والمسلمين، ولا مع الإرهاب طبعا، فهو فعل إجرامي لا يسنده أي تبرير، ويسيء للنبي الكريم بأكثر مما تفعله صحيفة «شارلي إيبدو» التي تعرضت لهجوم الإرهابيين من «القاعدة» و»داعش» وأخواتهما الضالات.
لا يمكن لمسلم، ولا لغير مسلم، صحيح النفس، أن يقبل إساءة لدينه ولا إهانة لنبيه، والمسلمون بالذات لهم موقف عقيدي متسق، فأصل إيمانهم هو الاعتقاد برسالة النبي الخاتم، وبكل أنبياء السماء، لا نفرق بين أحد منهم، وهم لا يقبلون الإساءة للنبي موسى، ولا للنبي عيسى، ولا لأي نبي من أنبياء التوحيد، وفي قبلتهم إبراهيم أبو الأنبياء، ولا يصح لأحد أن يطعن في الأنبياء بدعوى حرية التعبير، وهو موقف ثقافي صارم يصل به البعض ـ على طريقة علماء الأزهر ـ إلى رفض تجسيد الأنبياء إيجابيا في أعمال درامية، وهذه نقطة مثيرة للجدل، لكنها لا تجور على الأصل في تكريم الأنبياء، ورفعهم فوق غرائز الإساءة تلميحا أو تصريحا. والمحصلة أنه لا يوجد مسلم صحيح الاعتقاد يقبل رسوما كاريكاتيرية مسيئة للرسول الأعظم، وسواء نشرت في الدنمارك وغيرها من دول اسكندنافيا، أو في صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية التي احترفت الإساءة للأنبياء، والنشر العنصري المعادي للإسلام والمسلمين، لكن الرد على الإساءة لا يكون بأعمال الإرهاب الوحشي، بل بوسائل حضارية، كالتظاهر والمسيرات، وقد جرى الاحتجاج المتحضر بطول وعرض العالم الإسلامي، بل وبين جموع المسلمين في أوروبا، وكان للاحتجاج السلمي أثره الطيب، وتقلصت جاذبية «شارلي إيبدو» وأمثالها، وتعرضت لما يشبه الإفلاس، وقد أعلنت «شارلي» نفسها عن أزمتها المالية الطاحنة في نوفمبر الماضي، ودعت مناصريها للتبرع، ولم تحصل في حملة التبرع سوى على ستين ألف يورو، لم تكن كافية لإنقاذها، وإلى أن جاءها المدد بعد شهرين بهجوم منسوب للأخوين «كواشي»، وتبنته جماعة «القاعدة» وعصابة «داعش»، ولم تكن النتيجة نصرا للإسلام، ولا منع الإساءة للرسول، بل لم يستفد من الهجوم الإرهابي سوى «شارلي إيبدو» نفسها، التي حصلت على أكبر حجم من الدعاية العالمية، بما لم يتح لأي صحيفة سواها في التاريخ، فقد تظاهر الملايين في فرنسا وسواها، ورفعوا «شارلي إيبدو» كراية مفضلة، بما أغرى الصحيفة بطبع ستة ملايين نسخة نفدت فور طرحها، بعد أن كانت تطبع ستين ألف نسخة لا غير قبل الهجوم الإرهابي، وبتكرار الإساءة للنبي برسوم كايكاتيرية بذيئة على صدر صفحتها الأولى، وهو ما يعني أن «القاعدة» و»داعش» وأخواتهما عملت في خدمة الصحيفة الأكثر إساءة للنبي في الدنيا كلها.
ولا يصح الاحتجاج بحرية التعبير كأساس لتبرير ما تنشره «شارلي إيبدو» وأمثالها، فليس من حرية تعبير مطلقة، أو بغير سقف في الدنيا كلها، وثمة قوانين تعاقب على جرائم النشر في أكثر الديمقراطيات تقدما، ومفهوم أن تكون الإساءة للأنبياء والأديان محظورة في عالمنا العربي والإسلامي، فهذه قيمة ثقافية سائدة، قبل أن تكون أمرا أو قانونا تصدره السلطات، فثمة موقف عربي وإسلامي متسق ثقافيا في هذا الشأن، وهو ما لا يتوافر بالقدر نفسه في البيئات الغربية، التي لا يحظى فيها الدين عموما بالمكانة ذاتها، خاصة في فرنسا ذات الأغلبية المسيحية الكاثوليكية، التي قامت علمانيتها تاريخيا على موقف مخاصم للأديان، ولا تبالي قوانينها بتحصين الأنبياء، لكن قوانين فرنسا تظهر المفارقة، وتحول الوضعي إلى مقدس، وتحظر ما تسميه معاداة السامية أو معاداة اليهود، أو إجراء أي مناقشة تاريخية عن «الهولوكست» النازي، وما قصص ما جرى لروجيه غارودي وعشرات غيره ببعيدة، فقد عوقبوا بقسوة، ولمجرد مناقشتهم لحدث تاريخي، عوقبوا لأن الصهيونية تعاقب مخالفيها، ولا تقبل المس بأساطيرها الموضوعة، والقصد مفهوم، وهو حماية كيان الاغتصاب الإسرائيلي من النقد، وقوانين فرنسا الحامية للصهيونية متكررة في الدول الغربية عموما، وبدون أن يتحدث المتحذلقون الغربيون عن خطر القوانين المهددة لحرية التعبير، فالسيد المسيح ليست له حصانة ضد الإساءة، بينما الصهيونية صاحبة الحصانة والجلالة، وهي المقدس الذي يعاقب على مسه في إعلام الغرب ودوائره الأكاديمية والسياسية، ويجري نبذ كل معتقد مخالف، ومنعه من حرية التعبير، وهو ما يعني أن إساءات «شارلي إيبدو» لا تدخل في باب تقديس حرية التعبير، فلو كان التقديس في محله، لجرت إتاحة التعبير والنقد والمراجعة لأساطير ومزاعم الصهيونية، وبدون إنكار لجرائم النازي بحق اليهود، وهي الجرائم التي كررتها وتكررها الصهيونية وإسرائيلها بحق الشعب الفلسطيني، فالقصة كلها تدخل في باب انتقاء موضوعات التعبير، وليس الحماية الشاملة لحرية التعبير، والقصة في التفاصيل أقرب إلى القيم الثقافية السائدة والمستقرة، وهو ما يفسر كراهتنا ذات الأصل الاعتقادي للمس بالأنبياء والأديان، ويفسر التفاوتات الظاهرة في البيئات الغربية نفسها، رغم أن العلمانية هي الموقف السائد في الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، فإنك لا تجد شيئا شبيها بتجاوزات «شارلي إيبدو» في دول الثقافة الأنكلو ساكسونية، ولا تتكرر الممارسات ذات الطابع الفرنسي في بريطانيا وأمريكا وأستراليا مثلا، والسبب مفهوم ثقافيا، فالعلمانية الأنكلو ساكسونية لا تتضمن عداء العلمانية الفرنسية للأديان، وتضمن الحريات الدينية، وهو ما يفسر ضعف النفور من الحجاب والنقاب في بريطانيا وأمريكا، بينما يجري العكس في فرنسا، وتصدر القوانين لتقييد الحجاب والنقاب. صحيح أن قوانين الغرب عموما تضمن حرية الاعتقاد، أيا كان لونها، لكن المواقف الثقافية الأصلية تقيد أثر سريان هذه القوانين، وهو ما يفسر سهولة نشر الكراهية ـ المحظورة قانونا ـ في فرنسا قياسا إلى غيرها، وتحول حرية التعبير إلى رأس حرية كراهية ضد المسلمين بالذات، وللثقافة الفرنسية أثر كبير في دول القلب الأوروبي، وبالذات في دول اسكندنافيا وبلجيكا وهولندا، وهو ما يفسر تداعي حرائق الكراهية قولا وفعلا في هذه الدول وغيرها، وهي الموجة التي سرت إلى ألمانيا ذات الاعتزاز الكبير بثقافتها وتاريخها وحاضرها، ووجدنا شيئا قبيحا كالجبهة الوطنية الفرنسية بزعامة مارى لوبن، يجد شبيها له في ألمانيا نفسها، وفي صورة حركة بيجيدا (وطنيون ضد أسلمة أوروبا) النامية في ألمانيا، التي تنظم مظاهرات أسبوعية لطرد المسلمين، وتستدعي فوائض كراهية طافحة ضد دين الإسلام وأهله، لكن الثقافة الألمانية تقاوم هذه النزعة الفرنسية الأصل، وعلى طريقة قيادة المستشارة أنجيلا ميركل لمظاهرة ضخمة في برلين عقب واقعة «شارلي إيبدو»، تندد بكراهية الإسلام، وترفض نعت الإسلام بالإرهاب، وتعترف بكون الإسلام والمسلمين رافدا حيويا في التكوين الألماني المعاصر.
ومعركة على هذا النحو الثقافي عصية على أفهام «داعش» و»القاعدة» وغيرهما، فهؤلاء جهلة ومتنطعون، يسيئون للإسلام بأكثر مما تفعل «شارلي إيبدو»، وأعمالهم الإرهابية أكثر فجاجة من الرسوم المسيئة للنبي، ولا تعود على الإسلام والمسلمين بغير الضرر الفادح، فهي تصور المسلمين كأنهم وحوش الغابة، أو كأنهم جبلوا على سفك الدماء، وتدمر صورة المسلمين في أوروبا، وتقيد دورهم المتزايد في دعم الاتجاهات الأوروبية المعادية للكراهية العنصرية، وتفسح للعنصريين مجالا أوسع، يصولون ويجولون فيه، ويحولون الإساءة للإسلام ونبيه الكريم إلى سلوك شعبي، وليس مجرد سلوك شاذ لصحيفة شاذة مثل «شارلي إيبدو»، وفوق حساب المنافع والمضار، والأولوية الفقهية لدفع الضرر على جلب المنفعة، والضرر هنا ظاهر عقليا وبالعين المـــجردة، ولا يقتصر على تهديد حياة وأوضاع وأمان المسلمين في أوروبا والغرب، بل يشمل المسلمين في أوطـــانهم ذاتها، فقد قتلت «القاعــــدة» و«داعش» من المسلمين والعرب بأكثر مما فعلت أمريكا وإسرائيل، واستحلت سفك الدم، وتصوير شريعة الإسلام كشريعة غاب وناب، وإهدار وصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، التي جعلت حرمة الدم أشد عند الله من حرمة الكعبة ذاتها، فوق اغتيال صورة النبي وتشويهه، وتصويره ـ حاشا لله ـ كسفاك للدماء على طريقة سفاهات «داعش» وبذاءات «شارلي إيبدو».

٭ كاتب مصري

عبد الحليم قنديل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أول مرة أأيد كل الكلام الذي كتبته بمقالك هذا يا أستاذ قنديل
    لكني أذكرك بشيئ هام وهو أن ردة الفعل قد لا تكون عقلانية بكل الأحوال
    فليس كل الناس سواء بتقبل الظلم أو السخرية أو الاضطهاد

    بالنسبة لي لا أستبعد أن يكون ردي عنيفا مقابل من يسخر من مقدساتي
    فلكل منا قدرة تحمل تختلف من انسان لآخر

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عربي يحب الأنسانية كلها:

    لكن الرد على الإساءة لا يكون بأعمال الإرهاب الوحشي، بل بوسائل حضارية، كالتظاهر والمسيرات،
    وماهو الرد المناسب ؟؟ للذين قتلوا النتظاهرين في رابعة ماهو الرد !!!!!!

  3. يقول وهبية محمد الجزائر:

    كما سبق وان ذكر الاخ داود لاول مرة يعجيبني مقاالك تحياتي للاستاذ قنديل تحليل رائع……

إشترك في قائمتنا البريدية