لا شبـيه له ولا شبـيه لنا

حجم الخط
4

كل القرى ملأى بالرجال الأشداء، ولكن لا أحد منهم يشبه صبري الحجار الذي يعيش في قريتنا مطوقاً بالاحترام والتقدير والإجلال، ومغموراً بالحب والإعجاب والإكبار، تلاحقه أقوال موثوقة وشائعات تجزم أنه رجل الخير والإحسان والنبل والكرم والتواضع الذي يكرس حياته وثرواته لإغاثة كل محتاج، ويخصص كل شهر المساعدات السرية السخية لعائلات فقيرة مجهولة ولا سيما وأن قريتنا بمجملها تحتاج إلى سيول من المساعدات السرية والعلنية، فقد تكاثر المتسولون فيها، ولم يكونوا مستوردين من قرى أخرى، ولكن صبري الحجار اغتاظ منهم، ولم يعطف عليهم، واعتبرهم ليسوا أكثر من كسالى كارهين للعمل، ودعا إلى مكافحتهم ونبذهم وازدرائهم، ولكنه في أحد الأيام ضعف أمام استجداء متسول طاعن في السن، وأعطاه لقمة كان يمضغها ليثبت صدق وبلاغة المحاولة الرامية إلى وصف مختصر لرجل كريم، والقائلة عنه إن اللقمة التي في فمه ليست له..
وتكاثر في قريتنا المرضى الذين ماتوا لعجزهم عن تأمين أجر الطبيب وثمن الدواء، فتعاطف صبري الحجار معهم، ورغب في مساعدتهم وهو موشك على البكاء، ولكنه لم يجرؤ على تقديم أي عون إليهم حتى لا يُتهم بأنه يعصى مشيئة الخالق العظيم الذي حدد لكل مخلوق أجلاً معيناً لا يزيد ولا ينقص، وقال وهو يبتلع حفنة من الفيتامينات إن أبرع طبيب في الكرة الأرضية لا يستطيع أن يؤجل موت مرضاه لحظة واحدة، ومشى في مقدمة جنازات الموتى خلف نعوشهم مطأطيء الرأس حزيناً ملتاعاً كأن الميت ابنه أو أخيه أو أمه أو محاسبه..
وتكاثر في قريتنا الأطفال المطرودون من مدارسهم لأن أهاليهم لم يتمكنوا من أن يشتروا لهم الكتب المدرسية والأقلام والدفاتر والثياب الصالحة لتلاميذ، فاستنكر صبري الحجار فعلة الأهل الجهلاء الذين يفضلون الخبز على العلم، وندد بها بصوت عال غاضب شرس..
وتكاثر في قريتنا المطرودون من البيوت التي يسكنون فيها لعجزهم عن دفع إيجارها، فحسدهم صبري الحجار لأنهم باتوا في كل الأوقات يتمتعون مجاناً بالشمس الصحية والهواء النقي، ولا حيطان من اسمنت وحجر وحديد تفصلهم عن إخوتهم البشر، وتمنى بصوت قانط حياة كحياتهم خالية من المسؤوليات التي توهن الجسم والأعصاب وتبدد المال..
وتكاثر في قريتنا الرجال الذين يرتدون ثياباً عتيــــقة مهتــــــرئة مرقعة من دون مهارة، فأثنى صبري الحجار عليهم، ووصفهم بأنهم رجال حقيقيون يهتمون بالمحتوى، ولا يهتمون بالشكل..
وتكاثرت في قريتنا البيوت القديمة التي تهدمت ليلاً فوق رؤوس أصحابها وهم نيام، فسارع صبري الحجار إلى شرائها من ورثـتها على الرغم من أنها كانت خرائب وأنقاضاً..
وتكاثر في قريتنا الناس ذوو الأعمار القصيرة، فبادر صبري الحجار إلى تنظيف مقبرة القرية وتشجيرها وإضاءتها ليلاً بمصابيح كهربائية ملونة..
وتكاثر في قريتنا العاطلون عن العمل، فاقترح عليهم صبري الحجار كنس دروب القرية يومياً صباحاً ومساء حتى لا تضعف عضلاتهم..
وتكاثر في قريتنا المشاركون في المشاجرات الدامية التي تنشب لأسباب تافهة، فزارهم صبري الحجار في مستشفياتهم وسجونهم، وامتدحهم، ووصف مشاجراتهم أنها مجرد تمارين لا بد منها واستعداد ليوم تحرير الأرض المحتلة..
وتكاثرت في قريتنا الأراضي العطشى، فزارها صبري الحجار، وضرب بعصاه وجهها الترابي عدة ضربات خفيفة مرحة كأنها نائمة يحاول إيقاظها برفق، وبشّرها أنه تعاقد مع سحب سود على أن تمطر بغزارة فوقها وتهمل أراضي القرى الأخرى..
وتكاثر في قريتنا الشهداء، فأعجب صبري الحجار برجولتهم وتضحيتهم بحياتهم في سبيل قريتهم وأمجادها، واتصل بآبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم معزياً، وأعلن أنه سيعمل على تخليدهم بإطلاق أسمائهم على الجديد من أبنائه، وتزوج زوجة رابعة جميلة حتى تزوده بدفعة حديثة متطورة من أبناء بغير أسماء..
وما كان يحدث في قريتنا جعلنا لا نستغرب أن تغار كل القرى الأخرى من قريتنا، ويتحسر أهلها لأنهم لم يولدوا فوق طينها وغبارها، وحضّنا على أن نحمد رب السماوات والأرض ليلاً ونهاراً لأنه كرّم قريتنا أن وهبها ابنها البار صبري الحجار الذي أتاح لرؤوسنا المنكسة أن ترتفع عالياً بين القــــرى الأخرى مزهوة، ولكن رفع الرؤوس يحتاج إلى قوة لا يملكها الخائفون المتضورون جوعاً.

زكريا تامر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بحر قدال:

    تكاثر الكتاب يسودون الصحف، و لكن روعة تامر لم يجارها اروعهم.

  2. يقول فاروق قنديل ـ النمسا:

    شكراً استاذ زكريا !
    هذا ، يشبه كثيراً بشار { الكيماوي } و كثيراً من إخوانه الحكام العرب اللذين نكتوي باستبدادهم المدعوم من الغرب الصهيوامريكي

  3. يقول كمال التونسي ألمانيا:

    صبري الحجار هو شخصية رمزية مثقفة مهمومة بهموم الأمة العربية يريد دفعها من ظيق أفق الموجود لرحاب المنشود بما يعنيه من تحرر و تقدم سبيله التضحية و الصبر و الحكمة و التكافل و التعاون على توحيد الهدف حيث الفرد يذوب في خدمة المجموعة للتوحد …إنه الفرد المهموم بالجهل و الأمية التي تزايدت و تعاظمت حتى (تكاثر في قريتنا الناس ذوو الأعمار القصيرة، فبادر صبري الحجار إلى تنظيف مقبرة القرية وتشجيرها وإضاءتها ليلاً بمصابيح كهربائية ملونة..) فالموت هنا موت معنوي
    للدلالة على ضعف الفعل و التأثير لمجموعة ماتت في رؤوسها العقول من أثر السجود للجهل ….نجح صبري في تغيير حال القرية ( الأمة ) نسبيا و لكنه يقر بأن الطريق مازال طويلا ( رفع الرؤوس يحتاج إلى قوة لا يملكها الخائفون المتضورون جوعاً.) نعم إنه الجوع الكافر الذي ينكس الرؤوس …ليس جوعا ماديا ولكنه جوعا حسيا ( جوع العقول وليس البطون فالعقول تتضور أيضا جوعا من حصافة الفكر و الجهل و عماء البصيرة.. و العلم غذاء العقل و مسدد خطانا على درب المنشود )
    تحية لأستاذنا العزيز فعلا خير البلاغة ما جاء تلميحا و نصك يلمح لحال الأمة …سلام على العقول النيرة من أمثالك
    كلنا صبري في الصبر و كلنا حجارا في نحت حجارة بناء مستقبل إنشاءالله

  4. يقول رامي مجدي:

    مقال جميل ورائع شكرا للكاتب الكبير الاستاذ زكريا تامر

إشترك في قائمتنا البريدية