لعبة التوريط الأمريكية من صدام إلى أردوغان؟

لا أدري لماذا مازال البعض يسقط بمحض إرادته في الأفخاخ والأشراك الأمريكية، مع العلم أن التاريخ القديم والحديث يقدم لنا الكثير من الأمثلة التي يمكن أن تفيدنا في تجنب الحبائل الأمريكية المفضوحة للإيقاع بالدول ودفعها إلى الهاوية. ومع أن الماضي القريب حافل بالمؤامرات الأمريكية، إلا أن الأمريكيين مازالوا يكررون مكائدهم على الملأ، والبعض يسقط فيها بسهولة.
من منا لا يتذكر المصيدة الكبرى التي نصبها العم سام للنظام العراقي السابق بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين؟ لقد كان الأمريكيون يعرفون ويخططون منذ عشرات السنين أنهم لا يستطيعون التحكم بمنطقة الخليج العربي والسيطرة عليها تماماً من دون لعبة كبرى. صحيح أنهم كانوا موجودين في المنطقة بقوة منذ زمن طويل، لكنهم كانوا يطمحون إلى ما يشبه السيطرة التامة وإخضاع المنطقة بأكملها، ليس بتكريس وجودهم فيها فقط، بل ليستخدموها أيضاً كمركز دولي للتصدي لكل خصومهم في العالم، وخاصة الصينيين والروس، وكل من يطمع بالوصول إلى أهم منطقة استراتيجية في العالم. كيف يمكن أن يحقق الأمريكيون ذلك؟ كان لا بد من مؤامرة كبرى في المنطقة، فوجدوا أن أفضل من يحقق لهم أهدافهم هو النظام العراقي، وكلنا يتذكر كيف اجتمعت السفيرة الأمريكية الشهيرة ايبريل غلاسبي في بغداد مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكيف قالت له: «إن أمريكا لا تمانع أبداً في أن تقوم القوات العراقية بغزو الكويت، لأن الأمر لا يعنيها». ومن سذاجة القيادة العراقية وقتها أنها صدقت الكلام الأمريكي، وقررت غزو الكويت لتكتشف لاحقاً أنه فخ استراتيجي تاريخي بامتياز، فما أن دخلت القوات العراقية إلى الكويت حتى راحت أمريكا تستجمع القوى الدولية والعربية والإقليمية لإخراج القوات العراقية من الكويت. وقد حشدت وقتها أكثر من ثلاثين دولة لتحرير الكويت. وهذا ما حصل فعلاً، لأن النظام العراقي وقتها سقط في الفخ الأمريكي مرتين، الأولى عندما صدق كلام السفيرة، والثانية عندما ركب رأسه، ورفض الخروج من الكويت، وبذلك أعطى الأمريكيين المبررات لكي يسحقوه، ويدمروا جيشه، ومن ثم يحاصروه لثلاثة عشر عاماً، وبعدها قرروا غزو العراق والإطاحة بالنظام، ووضع المنطقة كلها تحت تصرفهم.
ولا ننسى أن أمريكا من قبل ورطت العراق وإيران في حرب دامية دامت لثمان سنوات، كانت تدعم فيها الطرفين بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية كي تستنزف الجهتين. وبالأمس القريب، لعبت أمريكا اللعبة نفسها مع حليف آخر في المنطقة، ألا وهي تركيا، فأعطت الضوء الأخضر للأتراك كي يقوموا بإسقاط طائرة روسية على الحدود مع سوريا. وقد ظن الأتراك أن حلف الناتو وأمريكا سيهبان لنجدة تركيا فيما لو تعرضت لهجوم روسي، أو دخلت في صراع سياسي مع الروس. وعندما بدأت روسيا تضيّق الخناق على تركيا عسكرياً وسياسياً، طلب الرئيس التركي بتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الناتو والتي تنص على أن يقف الحلف صفاً واحداً للدفاع عن أي عضو من أعضائه عندما يتعرض لخطر خارجي. لكن الرئيس الأمريكي رفض تفعيل المادة، لا بل قام بسحب بطاريات صواريخ باتريوت من على الحدود التركية عندما تدخلت روسيا في سوريا، وبدأت تواجه الأتراك. عندئذ شعرت القيادة التركية بأنها تعرضت لخديعة كارثية، فمن الواضح أن الأمريكيين كانوا يخططون لتوريط تركيا في صراع مع الروس لاستنزاف الطرفين، كما فعلوا من قبل مع العراق وإيران. لكن الفرق بين القيادتين العراقية بقيادة صدام حسين والتركية بقيادة أردوغان أن الأخير فهم اللعبة مبكراً، وبدل أن يركب رأسه ويتصرف بعقلية البغال العنيدة الطائشة، التف على اللعبة الأمريكية مبكراً، وأفشلها في مرحلتها الأولى، فقام الرئيس التركي بإعادة العلاقات مع القيادة الروسية دون علم الأمريكيين. وهذا ما كشفته المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية التي أكدت بعد الاتصال بين أردوغان وبوتين أن أمريكا لم تكن على علم مسبق أبداً بهذا الاتصال، وأنها اصيبت بالذهول من هذا التقارب المفاجئ بين الأتراك والروس، وكأنها تريد أن تقول إنها مصدومة من أن لعبتها لم تنجح.
لقد لعب الأمريكيون لعبة الإيقاع بالدول وتوريطها في صراعات قاتلة منذ الحرب العالمية الثانية، حتى أن الأمريكيين تآمروا على حليفهم السوفياتي ستالين ضد النازية، وتركوه يستنزف قواته مع هتلر عدو الأمريكيين والروس في لحظة من اللحظات. والغريب أن الأمريكيين لا يخبئون ألاعيبهم، فقد صرح المفكر الأمريكي الشهير دانيال بايبس أحد أهم العاملين في مراكز التفكير الأمريكية الشهيرة بأنه يوصي الحكومات الغربية بأن تدعم نظام الأسد رغم أنه من المفترض خصمها اللدود. وسبب هذا الاقتراح، حسب بايبس، «أن القوى الشريرة لا تشكل خطراً كبيراً علينا عندما تتقاتل فيما بينها. وثانياً: فإن الاقتتال بين الأسد والجماعات الأخرى سيمنع الحسم العسكري وانتصار فريق على آخر. ولو انتصر أحد الفريقين، فإنه سيشكل خطراً أكبر علينا. لهذا على القوى الغربية أن تقود الأطراف المتقاتلة في سوريا إلى حالة من الجمود، بحيث تقوم بدعم الطرف الخاسر كي يستمر في القتال وذلك من أجل إطالة أمد الصراع واستنزاف كل الأطراف لصالح أمريكا والغرب».
وشهد شاهد من أهله

٭ كاتب وإعلامي سوري

 

لعبة التوريط الأمريكية من صدام إلى أردوغان؟

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيدي سلاك موريتانيا:

    احسنت ايها الكاتب المتألق الناجح انت شاهد من اهل سوريا واصدقت في ماقلت
    لايفهم امريكا احد اكثر منك إعجاب للتدوينه

  2. يقول خليل سليم عباس:

    اليس مصائب قوم عند قوم فوائد ؟
    دع الاتراك يموتون ويعيش اقوام اخري
    وما العيب في سياسة امريكا
    مادام الدكتاتوريون لن يتركو السلطة
    دعهم ليسحق رؤسهم مثل صدام .

  3. يقول صالح بن دادة (نيس) فرانسا:

    تركيا الدولة الوحيدة وخاصة الرئيس اردوغان الذي وقف مع الثورات الشعوب المستضعفة والمظلومة

  4. يقول سامح // الاردن:

    * نعم.. هذه هي ( أمريكا ) المخادعة الانتهازية..؟؟؟
    * ومرة أخرى المثل الشعبي يلخص العلاقة مع أمريكا:
    * ( اللي متغط بأمريكا.. عريان ) .
    سلام

  5. يقول قارئ فلسطيني:

    ماالذي كان يجب ان يدفع الراحل صدام حسين لدخول حروب من عدمه؟ ألا يجب ان تكون المصلحة القوميه للعراق وليس كلمات سفيره امريكيه مهما كانت او مصافحات مسؤولين امريكان !! لااحد غير صدام يتحمل مسؤولية نتائج احتلاله للكويت وفتح الباب للاستعمار ليمارس السيطره من جديد على المنطقه وارجاع العالم العربي ١٠٠ سنه للوراء.
    اما بالنسبه لتركيا فقد كان واضحا ومنذ فترة طويله ان ادارة اوباما تسعى الى تحجيم تركيا ودورها بالمنطقه و خاصه بسوريا..!!!..

  6. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    لم تكن هناك أي مصيدة لصدام ، بل كان الغرور و العنجهية و الجهل بأبجديات السياسة الدولية

  7. يقول عبدالسلام محمد (الأردن):

    لعبة كانت مفهومة لأي مثقف، يقرأ ويدرك ما يجري حوله. الكارثة، أن القيادات السياسية العربية تأبى أن تفهم ذلك!!!. والله، يا عالم المتغطي، بأمريكا عريان بالكامل، مش بردان!.

  8. يقول محمود:

    تحليل جيد كالعاده دكتور فيصل، لكن المدعو دانيال بايبس ليس مشهورا على الإطلاق فقط عند العرب. هو رئيس منتدى الشرق الأوسط المناصر للصهيونيه. هذا الشخص من أسوأ المعادين للعرب والمسلمين وكل همه نشر الإسلاموفوبيا وكل كتبه ضد العرب والمسلمين.ا

  9. يقول ماء مبلول:

    ليست القضية قضية توريط حاكم عربي فقط بل إنها بتآمر عربي غربي على من أراد الإفلات من السيطرة الغربية و القضاء على أي حاكم عربي أو عجمي مسلم أراد أن يستقل إستقلالا تاما من التبعية و الخضوع الغربي ليس إلا .
    الشيء الجميل في حالة أردوغان هو أن تركيا دولة قوية أكثر من أي دولة عربية و ذات كثافة سكانية و أن العجم غير طباع العرب .

  10. يقول Moussalim Ali:

    .
    – لا بدّ أن نتذكر بأن الجيوش الأمريكية خسرت الكثير في حروبها خارج الأراضي الأمريكية ، في آسيا ، أوروبا وإيثيوبيا .
    .
    – والنظام الأمريكي نظام سياسي دمقراطي حيث للشعب كلمته في أغلب المواضيع ، وعبر المؤسسات المنتخبة والإعلامية والجمعيات الغير حكومية وغيرها .
    .
    – فحسب علمي لا يوجد في امريكا موضوع لا يخضع بكفية أو بأخرى للنقاش وللتحري . مثلا ، مناقشة أهداف وصلاحيات المركزية للإستخبارات خلال عهد نيكسون والإخوة كينيدي .
    .
    – طبعا لا يجب حلحلة مشاكلنا على ظهر الشعوب الأخرى وخاصة إن كانت مستضعفة . لكن قوة أمريكا في المشرق العربي مثلا ، هي من ضعف الأنظمة العربية . لو كانت الأنظمة العربية دمقراطية لما وصلت إليه الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من خطورة .
    .
    – تركيا دولة إسلامية معدتلة ومتقدمة اقتصاديا سياسيا وعسكريا ، يقودها زعيم بكل المعنى . حاسبت نفسها وخضعت لمنطقها عوض حدسها . وكان ما كان .
    .

1 2 3 4 6

إشترك في قائمتنا البريدية