أيا كانت التفسيرات لليلة 4 تشرين الثاني (نوفمبر) في الرياض: ثورة ثقافية أم مكافحة للفساد، إنقلاب أم تطهير فسيتم تذكرها بالليلة التي خرجت فيها السعودية للعلن وقدمت مسلسلا دراميا عرضت حلقاته طوال الأسبوع، وهي التي كانت تخفي خلافاتها وراء الستار ووسط غموض التآمرات التي تجري في القصر وصراع الأجنحة. ولكنها بالتأكيد تعتبر ليلة مهمة في تاريخ المملكة الحديث، حيث أصبحت تحت حكم عائلة واحدة من أبناء الملك عبد العزيز بن سعود بيدها كل مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية والإعلامية والدينية والأمنية والعسكرية. وصار محمد بن سلمان ولي العهد يمثل المرحلة الجديدة التي تتحرك فيها السعودية على جبهتين داخلية وهي فتح المجتمع السعودي: حرية للنساء وقيادتهن السيارات، حفلات موسيقية ودور سينما وحتى منح تأشيرات سياحية للمنتجعات التي ستبنى. وبالمقابل حد من سلطة الدين والشرطة الدينية التي ستضم إلى مؤسسات وزارة الداخلية وسيطرة على هيئة كبار العلماء التي أصبحت مثل الببغاء تردد ما يقوله لها ولي العهد. والأهم من هذا المضي بسياسة تنويع الاقتصاد والعبور إلى رؤية عام 2030 التي تريد تحرير المملكة من الاعتماد وطرح أسهم من شركة النفط العملاقة لتمويل مشاريع التنويع. أما الثانية فخارجية وتقوم على افتعال حروب جديدة باسم محاربة التمدد الإيراني في المنطقة. والملاحظ أن الأمير عندما أطاح بابن عمه محمد بن نايف في حزيران (يونيو) فرض حصارا على قطر باسم تعاطفها مع إيران والإخوان وفي المرحلة الأخيرة من سيطرته على البلاد ومحاولة السيطرة على المؤسسات الإعلامية والاقتصادية المالية احتجز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وأجبره على الاستقالة وطلب من السعوديين مغادرة لبنان في مواجهة مع وكيل إيران هناك حزب الله. وسط تساؤلات اللبنانيين عن مكان رئيس وزرائهم وحملة لإطلاق سراحه تحت عنوان «كلنا سعد» فقد بات رهينة في السجون الفاخرة التي أقامها بن سلمان لأبناء عمه والذين عملوا معه وكبار رجال الأعمال وكل هذا باسم مكافحة الفساد. ويوم الخميس عادت طائرته إلى بيروت بدونه تماما مثلما يعود الفرس بدون فارسه في المعارك.
منذ الأسبوع الماضي كتب الكثير عن التطورات التي بدأت باستقالة الحريري وصاروخ حوثي على الرياض، ليذكر بن سلمان أن الحرب في اليمن لم تنته وان الحوثيين لديهم القدرة على استهداف مدن وعواصم الخليج وانتهت بعزل رئيس الحرس الوطني الأمير متعب بن عبدالله وسجن وعدد آخر من الأمراء الذين وضعوا في سجن/فندق ريتز كارلتون من الدرجة الأولى في الرياض. وتفاوتت التفسيرات حول ما دفع الأمير إلى اتخاذ إجراءات كهذه، فهو يعطي القليل ويأخذ الكثير من شعبه كما تقول «الغارديان» (8/11/2017) وهو أمير متعجل متهور يريد جمع القوة بيده كضرورة لتحقيق حلم التغيير. ونقلت مجلة «إيكونوميست»(10/11/201) عن نائبة في مجلس الشورى قولها «لا بد من اليد الحديدية» لتحقيق الإصلاح. لكن توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» (8/11/2017) قال إنه يسير باتجاه خطير عندما يعتقل كل منافسيه ويستبدل الرؤية التوافقية التي قام عليها أبناء آل سعود برؤية وطنية مركزها العداء للفرس/إيران/ الشيعة ويفتعل حروبا مع جيرانه. ولهذا عبر فريدمان عن «قلقه» وحذر من دول وشخصات مثل ولي العهد الإماراتي وغارد كوشنر صهر ومبعوث دونالد ترامب للشرق الأوسط وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقال إنهم يحاولون جر الأمير الشاب لحرب مع إيران. وهو ما جاء في تحليل ديفيد إغناطيوس في «واشنطن بوست» (9/11/2017) عندما تحدث عن الأزمة مع لبنان وقال إن على أمريكا ترامب الذي أعطته الضوء الأخضر وشجعته على اعتقال الأمراء الحيلولة دون تحول لبنان لبلد فاشل أسوة باليمن وسوريا وليبيا ومنع بن سلمان من تفجير المنطقة ونفسه.
وتسابق المحللون والمعلقون بحماسة للبحث عن أمثلة لما حدث في السعودية وهم الذين رحبوا بإصلاحات بن سلمان وكان بعضهم ضيفا على مؤتمراته ومنحهم لقاءات خاصة لكي يشير إليهم أن مشكلة التطرف ليست سعودية بل إيرانية بدأت فعلا مع الثورة الإيرانية عام 1979 وحان الوقت للعودة إلى «الإسلام المعتدل». ويبدو أن شركات الاستشارات والعلاقات العامة التي دفعت لها السعودية الملايين نجحت للترويج لعدد من الأفكار التي خدمته، وهي فكرة الشعب الشاب الذي يحتاج تغييرا سريعا وليس بطيئا يقوم به ملوك عجزة، فوالد الأمير عمره 81 وعمه الملك عبدالله مات عن عمر 92 عاما وعمه الملك السابق فهد مات عن عمر 83. ومتوسط عمر من حكم السعودية بعد بن سعود يتراوح بين السبعين والتسعين عاما. وشعب نسبة الشباب فيه 70 في المئة يحتاج للترويح عن نفسه، ولا يكفيه المسجد أو مركز التسوق. ولم يتحدث المعلقون عن الحرية وسجن من انتقد بن سلمان على التويتر. وجيل كهذا يمكن من خلاله صناعة مدن المستقبل العملاقة مثل «نيوم» التي ستعيش فيها روبوتات أكثر من البشر وتكون خارجة عن نمط الحياة السعودية، بشكل يذكر بمدن الملك عبدالله الاقتصادية التي قصد منها أن تكون واحات تحرر بعيدا عن سلطة رجال الدين. إلا أن حملات القمع في إيلول (سبتمبر) والتي شملت مفكرين ودعاة وليبراليين وقصص تعذيب المعتقلين في ريتز كارلتون كما ذكر ديفيد هيرست في»ميدل إيست آي» (9/11/2011) ستضع علامات استفهام على حقيقة الإصلاح المنشود ولن تشجع المستثمرين على القدوم إلى السعودية وهم الذين جمعهم في مؤتمر كبير قبل أسابيع من حملة التطهير. ومن هنا لم تفت المعلقين المقاربة بين بن سلمان والرئيس الصيني شي جينبنغ الذي استخدم مكافحة الفساد لتحييد منافسيه في الحزب الشيوعي وتحول الآن إلى شخصية توازي في أهميتها ماوتسي تونغ، وهناك من ذهب للمثال الروسي وفلاديمير بوتين (بلومبيرغ/8 تشرين الثاني 2017) الذي سجن الأثرياء والأوليغارش من أجل تعليم الآخرين درسا ودفعهم لاتباع خطه السياسي والاقتصادي. بل وذهب البعض إلى تشبيهه بلي كوان يو كما ورد في تحليل لمجلة «إيكونوميست». ولي كوان يو هو الحاكم الديكتاتوري الذي صنع معجزة سنغافورة في جنوب شرق آسيا وهندس سكانها بناء على رؤيته. ومن هنا يحاول البعض منح بن سلمان رؤية «شعبوية» تجتاح الكثير من الأنظمة في العالم وتقوم على بيع الناس الشعارات القومية ومكافحة العولمة. والمشكلة هي أن مكافحة الفساد في السعودية كما هي في روسيا والصين انتقائية. وجاءت حملة الاعتقالات بعد مرسوم الملك سلمان بساعات قليلة. والمفارقة أن محمد بن سلمان يحاكم أبناء عمومته في قضايا اختلاس وعباءته ليست نظيفة، فلم يكشف للشعب مثلا عن مصادر ثروته ولا عن شركات إخوانه أو عن مصدر ثمن اليخت الذي اشتراه هو نفسه في جنوب فرنسا عام 2015 أو لماذا أنفق والده 100 مليون دولار في رحلة استجمام إلى المغرب كما كشفت الصحف الغربية ومنها «نيويورك تايمز» (8/11/2017).
على العموم لا يمكن فهم ما أطلق عليه البعض «لعبة العروش» (على اسم مسلسل معروف على نتيفليكس) السعودية إلا من خلال وضعها في سياق التطورات التي شهدتها خلال الأعوام الماضية. فلم يكن وصول بن سلمان ممكنا لو لم يمت عمه الملك عبدالله عام 2015 وكل من ولي العهد سلطان ونايف اللذان شغلا منصب ولي العهد. وهؤلاء الثلاثة تحكموا بمؤسسات الدولة المهمة لمدة 163 عاما فيما بينهم بما فيها 43 عاما قضاها الملك عبدالله قائدا للحرس الوطني. وعندما جاء الملك سلمان عبر بوضوح عن نيته نقل السلطة إلى جيل الأحفاد. ويرى كريستيان كوتس أولرتشنس من جامعة رايس الأمريكية أن وفاتهم أدت لنوع من الميوعة في نظام تعود على وجود اقطاعيات. ويقول إن عزل مقرن بن عبد العزيز ومن ثم محمد بن نايف يعني أن أربعة أمراء شغلوا هذا المنصب فشلوا في تولي الملك، فقط سلمان نجح. ويعتقد الأكاديمي الأمريكي بمقال له بمجلة «ذا أتلانتك» (9/11/2017) أن لعبة السيطرة على العرش انتهت بالنسبة لمحمد بن سلمان في حزيران (يونيو) بعزل بن نايف. ومن هنا فالتحرك الأخير هو الخطوة الأكثر قسوة له في محاولة منه لكتابة قواعد جديدة للملك في السعودية. ويعتقد الكاتب أن ولي العهد السعودي يريد أن يكون عبد العزيز الجديد ويبني الدولة السعودية الرابعة بناء على صورته كما فعل جده الذي أنشأ الدولة السعودية الثالثة عام 1933. وأنهت عملية التطهير رموز العهد الماضي وفتحت الباب أمام جيل جديد من الحكام، فوزير الداخلية عمره 33 عاما وسفيره في واشنطن عمره 28 عاما. وهو ما يذكر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما تولى أبناء الملك عبد العزيز السلطة وهم في سن العشرين والثلاثين وعملوا على توسيع المملكة وبناء بيروقراطيتها. لكن السؤال هل سيتحجر هؤلاء مثل أسلافهم. ففي عام 2015 تناقلت وسائل الإعلام نبأ تعيين بن سلمان كأصغر وزير الدفاع مع أن عمه سلطان تولى المنصب عندما كان 32 عاما وظل فيه لمدة 48 عاما. ويرى الباحث أن التحدي الأكبر للملك القادم هي الجبهة الاقتصادية التي اكتشف صعوبة تطبيقها نظرا لمواقف النخبة الاقتصادية التي تقاوم عادة التغيير. ويحذر ان حملات مكافحة الفساد (الانتقائية) قد تجد دعما شعبيا إلا أنها قد لا تجد ترحيبا من المستثمرين لأن لها علاقة بالمخاطر. وبالنسبة له يجب أن تكون إصلاحاته حقيقية وأن يظهر نجاعة مغامراته في اليمن وقطر التي فشلت حتى الآن. ولن يستطيع بن سلمان تحقيق ما يطمح إليه إلا من خلال فريق ملكي شاب. وهو ما دفع سايمون هندرسون الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى للتكهن بمقال «فورين بوليسي» (10/11/2017) أن عملية التغيير قريبة ولكن بن سلمان بحاجة لفريق ملكي شاب ولهذا عين عددا من الأمراء الشباب ولاحظ غيابا لأحفاد الملك عبدالله وتعيين حفيد واحد من أحفاد الملك فهد واستبعاد أحفاد الأمير أحمد بن عبد العزيز أحد السديريين السبعة الذي يقال إنه رفض التصويت في هيئة البيعة لتعيينه وليا للعهد.
وفي الوقت الحالي لا يمكن التكهن بما سيحدث لاحقا وعلى صعيد العلاقة مع أمريكا يرى أرون ديفيد ميللر وريتشارد شوكلوسكي بمقال بمجلة «ناشونال إنترست»(10/11/2017) أن وضع الثقة الأمريكية بولي العهد السعودي مضر لمصالحها في الشرق الأوسط. وقالا إن فترة بن سلمان القصيرة في قيادة السياسة الخارجية لا تدعو للثقة. والطريقة التي قاد فيها حملة التطهير الأخيرة تعني أنه لن يهتم بالضوابط عندما يصبح ملكا. ولهذا فيجب على الولايات المتحدة أن تشد أحزمتها وتحضر لركوب صعب معه إلا إذا قررت أن تقيم أفعالها على المصالح الأمريكية لا السعودية. ويعتقد الباحثان أن العلاقة الرومانسية بين ترامب وبن سلمان تجعل من فكرة «أمريكا أولا» مثارا للسخرية. وستؤدي إلى جر أمريكا في حروب بالمنطقة. وحتى الآن فكل ما فعله محمد بن سلمان في سوريا واليمن ولبنان وقطر لم يخدم المصالح الأمريكية بل على العكس أدت مغامراته لتقوية تنظيم الدولة والقاعدة وإيران وقسمت مجلس التعاون الخليجي. بل وأدت أفعاله إلى زعزعة استقرار اليمن ولبنان وجعلت أمريكا متورطة في جرائم الحرب باليمن وبالتالي خرب علاقاتها مع المنطقة. وسواء نجح بن سلمان أم لم ينجح في طموحاته وأمامه الكثير من المشاكل في الداخل وسجله فاشل في السياسة الخارجية، فمن الحكمة ان لا تضع أمريكا كل ثقتها برجل شاب متعجل لعمل الأشياء الكبيرة. وإن فشل فستتذكر الرياض ليلة السكاكين الطويلة التي ضرب فيها واحد من أبناء العائلة أبناء عمومته ورجال قبائل كانوا الصخرة التي قامت عليها الدولة السعودية وفشلت.
إبراهيم درويش
الثورة هذه هي بداية السقوط لانهم يلعبون على حبال اكبر منهم ولن يخرجوا منها الا وهم منكسرين