من خلال عنوان «مقبرة الكتب المنسية» تأتي رباعية الإسباني كارلوس زافون، وهي كما صدرت بالترتيب، «ظل الريح» 2001، «لعبة الملاك» 2008، «سجين السماء» 2011، و»متاهة الأرواح» 2016. وقام المترجم معاوية عبد المجيد بترجمة العملين الأولين ــ حتى الآن ــ إلى العربية. وعبر تشييد بناء روائي متشعب، يمكن قراءة الروايات منفصلة، رغم كونها في مجملها تصوّر خيالاً جامحاً لمدينة الملاعين (برشلونة) ومخاليقها، كما خطط لها المؤلف، لذا فستكون القراءة في الجزء الثاني.
دروب الرعب
تبدأ القصة مع نهايات عام 1917 وقد وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبدون هدنة بدأ الاستعداد لخوض الحرب العالمية الثانية، تزامن مع ذلك قيام الحرب الأهلية الإسبانية، التي أبادت الكثيرين، وأسست لفترة الحكم الفاشي وتبعاته. وفي هذه الأجواء تبدأ الحكاية وشخوصها، وبطلها الموبوء بخياله دافيد مارتن، الذي من خلاله تبدو شخصيات أكثر تعقيداً وندوباً من المدينة ذاتها، التي يسير في دروبها وأزقتها، ويبدو وكأنه يرتل تفاصيلها المشوّهة، وصولاً إلى سكنه بيتاً ملعوناً من قبل. هنا تتواصل نفسيات الشخصيات وأوهامها مع ما اعترى المدينة من شيخوخة ووهن.
لا يهم أن يكون مارتن في مرحلة الشباب والنضج الفني، والقدرة الحسيّة، لكنه في أوج ذلك يضربه مرض مميت ــ مصادفة ــ فيعقد صفقة الخلود المزعومة منذ بداية التاريخ ــ شجرة المعرفة والإيهام بخلود أبدي ــ فيصبح الرجل ومدينته على استعداد تام لملاقاة فاوست بوجهه الجديد والانصياع لأوامره ونواهيه. هنا يبدو التناص مع أقدم مخطوط معتمد لدى السماء، ويبدو التوافق مع ما يزعم بأنه مقدس. الحكاية نفسها، والتفاعل مع تفاصيلها من خلال الكلمة المكتوبة والمدونة، رغم أن هناك العديد من المؤلفات الأكثر أهمية وجدوى في «مقبرة الكتب المنسية» هذا القصر أو البناء المتاهي، والذي بفضله فقط يعثر مارتن على كتاب حياته الخاص، الشخصي جداً والذي ينقذه في النهاية من الموت.
حكاية مارتن
يأمل مارتن بأن يكون كاتباً، رغم كونه مجرد عامل بسيط في جريدة متواضعة، يعيش وحيداً في نزل رخيص، وقد شهد في طفولته مآس لا تحصى، من أب عائد من الحرب، وقد هجرته زوجته، حتى أن مارتن شهد موت الأب أمام عينه، بمصادفة غاية في التفاهة، وقد افتدى الأب بدون قصد أحد الأثرياء بيدرو فيذال، صاحب الجريدة، ليكتشف مارتن في ما بعد سر اهتمامه به، وبأنه كأب روحي له ولمشروعه الأدبي. فيذال رغم سمو روحه، إلا أنه يغض الطرف عن استغلاله لمارتن، وقد أصبح الأخير يقوم بتنقيح أو إعادة كتابة رواية فيذال، الذي يرى في نفسه كاتباً له قيمته في الوسط الأدبي، رغم اعترافه بأن مثقفي صالونه الأدبي، لا يأتون إلا لكونه من الأثرياء، وكل ما يملكونه ــ كأغلب مثقفي الصالونات ــ هو مديح ربهم وثرثرتهم التي لا تنتهي. فيذال بدوره سجين سلطة أبيه والفئة الأرستقراطية التي ينتمي إليها، لذا كان يرى في مارتن هذا الحر المتشرد، الذي لن ولم يكنه أبداً.
فاوست
بعد نجاح مارتن في كتابة القصص، خاصة السلسلة القصصية المسماة بـ «مدينة الملاعين» وقد أصبح لديه من الجمهور ما يجعله قادرا على خلق فريق آخر من الأعداء كضريبة حتمية للنجاح، يتلقى رسالة من أندرياس كوريالي، صاحب دار نشر «النور» في باريس، لم يأبه مارتن في البداية لهذه الرسالة، لكنه يصاب بمرض مميت في المخ، وقد حدد له الطبيب ميعاد موته، إلا أنه وفي قمة يأسه يلتقي بأندرياس كوريالي، الذي يعده بحل مشكلته مع المرض، بل والموت نفسه، شريطة أن يقوم بتأليف كتاب من أجله. وبعد زيارات لأماكن عدة، وإيواء ابنة خباز، تتراوح علاقتها به ما بين طفلة لم ينجبها وعشيقة مُنتَظَرة، وحب محكوم عليه منذ بداياته بالفشل، يعشق مارتن كريستينا سكرتيرة فيذال وزوجته في ما بعد، يعرف مارتن مهمته جيداً، ويعرف كنه ومهمة صاحب دار «النور» للنشر، فسيهبه الخلود، بينما مارتن يهبه مؤلفاً عن ديانة جديدة ــ زمن الحرب والإبادة ــ ديانة جديدة تخرج الإنسان من هذه المتاهات، وتشعره بأهمية ما، بل وجدوى ما يحياه، فلابد وأن يجد مأوى في نهاية الرحلة، مهما كان مؤلفها، وحياً أو روحاً قدساً، أو حتى ابن غريب الأطوار العائد من الحرب والمقتول بالخطأ، فاقد أمه الهاربة مع عشيقها، وفاقد عشيقته المتزوجة من رب نعمته، المدعو دافيد مارتن.
لعبة الخلود
ومن خلال العديد من المغامرات والضحايا التي يصبح مرتكبها صاحب أشهر الكتابات في المدينة، يصبح كتاب الديانة الجديدة أشبه بلعنة اللعنات، مؤلّف وحيد في مقبرة الكتب المنسية، لرجل تخلص من حياته كأضحية لما قام به، مارتن الذي طالته النجاة من هذا المصير، كان ملاك الملاعين معه أشد قسوة، فقد وهبه الخلود، وعادت حبيبته القديمة (طفلة) أتى بها إليه، وأخيراً اكتشف معنى صورة الطفلة التي تمسك بيد رجل لا تظهر ملامحه، ستكبر الطفلة وتصبح امرأة، وعلى دافيد أن يعيد نشأتها على هواه، كما أوصاه ملاك السماء، لكنه سيشهد أيضاً تقدمها في السن، وموتها ــ فقد يُتهم بقتلها كما حدث سابقاً ــ ولن يتبقى له في نهاية المطاف سوى خلوده المزعوم، حيث لا أحد يعرفه، وعليه اختراع شخوص وعوالم، كمحاولة لمواصلة عذابه الذي لن ينتهي. هكذا الرجل وهكذا المدينة التي لا تمل كل شمس من إعادة اختلاق نفسها وتاريخها، وقد تبدو من بعيد مشرقة ورائعة ومتباهية لأقصى حد، لكنها في الحقيقة عجوز وميتة منذ زمن، لذا فهي كالعاشق الذي تحطم قلبه، وما كل هذه التكرارات سوى خدوش في الروح، لا أكثر ولا أقل.
كارلوس زافون: «لعبة الملاك»
ترجمة: معاوية عبد المجيد
2017دار الجمل، بغداد ـ بيروت
679 صفحة.
محمد عبد الرحيم