شهد عدد من المدن العثمانية في الفترة ما بين القرن السابع عشر ونهاية القرن التاسع عشر مجموعة من الأعمال التي كتبت بطريقة تجمع بين اللغتين الفصحى والعامية؛ وقد أخذت هذه الأعمال تقدّم صورا جديدة عن الحياة اليومية، عبر نقلها لصور من حياة الناس العاديين، بدل التركيز على أخبار السلاطين والولاة وحسب.
غير أن هذا التطور، لم يحظ بالاهتمام والقراءة الكافية من قبل الباحثين في تاريخ اللغة العربية؛ فغالبا ما نظروا لهذا التحول بوصفه نتاجا لحالة التدهور التي لحقت بالمجتمع العثماني في تلك الفترة. ولذلك ظن بعضهم، خاصة مع بدايات القرن العشرين، أن الحل الأمثل للحد أو للرد على حالة العامية السابقة، لا يتم إلا من خلال إعادة تحقيق بعض الأعمال التي كتبت بأسلوب يجمع بين الفصحى والعامية، بشكل يتفق مع اللغة الفصحى، ما أدى إلى أن تفقد العديد من هذه النصوص العديد من الإشارات الأنثروبولوجية المتضمنة لغتها الشفاهية، كما في يوميات البديري التي كتبها في القرن الثامن عشر. فمخطوطة الكتاب كما بيّن المؤرخ السوري سامر عكاش/أستاذ التاريخ في جامعة أدلايد الأسترالية، الموجودة في مكتبة تشيتر بيتي في دبلن، مكتوبة باللغة العامية؛ وبذلك فهي تختلف عن النسخة التي حققها الشيخ محمد سعيد القاسمي، كونه قد عمل على إدخال العديد من التعديلات والإضافات على المخطوطة. ومما يلاحظه عكاش على ترجمة القاسمي أن الأخير غالبا ما عمل على حذف بعض الكلمات والعبارات العامية التي تحتوي على مضامين وشتائم جنسية، عبر استبدالها بكلمات فصحى (بائعات الهوى، بدلا من كلمة «شلكة» بالعامية)، وهو ما ساهم في تحوير النص الأصلي، وعزله عن محطيه الثقافي والاجتماعي، بالإضافة إلى إخفاء التحولات في القيم والمعايير الأخلاقية التي كانت تشهدها المدينة في تلك الفترة.
بيد أنه في السنوات الماضية، قرر بعض المؤرخين الخوض في غمار دراسة هذا الموضوع، عبر الدعوة لدراسة أسباب هذا التغيير الذي طرأ على استخدام اللغة في حقبة بعينها؛ ذلك أن التوسع في استخدام العامية، وربطه بالتدهور، ما عاد سببا كافيا وفقا لهؤلاء المؤرخين، لتفسير الأسلوب الجديد بالكتابة. وفي هذا السياق، أخذوا يبحثون في هذا التحول من خلال دراسة التغيرات الثقافية والسياسية لتلك الفترة، التي لم تشمل لغة النصوص فقط، بل تجاوزتها إلى بنية هذه النصوص ومضمونها.
لماذا حدث تغير في لغة الكتابة
من بين المحاولات الرائدة، التي حاولت الحفر في عوالم نصوص العامية، وأسباب انتشارها في الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، يمكن أن نشير هنا إلى كتاب المؤرخة المصرية نيللي حنا «مصر العثمانية والتحولات العالمية: 1500 ـ 1800» ترجمة مجدي جرجس. إذ ترى حنا، أن هناك مجموعة من العوامل، بعضها يتمثل بعلاقة الدولة والمجتمع؛ طبيعة بنية السلطة؛ وبعضها محلية؛ وأخرى مرتبطة بظروف عالمية؛ وأن هذه العوامل تقف وراء هذا التحول الملحوظ في استخدام اللغة العامية مع بدايات عام 1600. فبداية، نتج عن سقوط الدولة العباسية في عام 1258، ظهور دويلات وكيانات سياسية أصغر توزعت عبر المناطق التي كانت خاضعة للدولة العباسية. وقد بدا هذا الأمر واضحا في رؤية المؤرخين، وبصورة أوضح في بلاد الشام. فقد أصبحت رؤيتهم وتركيزهم أكثر انشغالا بالمحلية، وظهرت كتابات تاريخية وحوليات تختص بأقاليم أو مدن بعينها، منها كتاب «تاريخ حمص» يوميات محمد المكي (ت1722)، و»بغية الطلب في تاريخ حلب» لابن النديم.
ومن جانب آخر، ترى حنا أن هناك علاقة أخرى لاختراق اللغة العامية للنصوص، ترتبط بنظام الدولة والتحولات التي شهدتها؛ والمقصود هنا بالتحديد الدولة المملوكية ولغتها، التي لم تكن فقط لغة سلطة، بل كانت نموذجا لثقافة رفيعة. ولعل النموذج المعتبر لتلك اللغة يتمثل في كتاب (القلقشندي ت 1418) «صبح الاعشى في صناعة الإنشا»، الذي ألف ليكون دليلا تدريبيا للمرشحين للعمل في ديوان الإنشاء. إذ يشترط هذا الكتاب على من يعملون في الديوان أن يتحلوا بمهارات أهمها التمكن من ناصية اللغة وحسن الخط. ولكن عندما بدأت الدولة المملوكية طور التحول والزوال، أخذت فئة رجال القلم تتآكل بدورها، بعد أن انخرط فيها أشخاص أقل كفاءة. وبعد سقوط الحكم المملوكي عام 1517، صعدت ثقافة امبراطورية عثمانية جديدة مع انتقال الجهاز الإداري للدولة من القاهرة مع نهاية القرن الخامس عشر. فقد كان انتقال مركز الامبراطورية من القاهرة إلى إسطنبول، يعني وفقا لحنا، تحول القاهرة من عاصمة الامبراطورية إلى عاصمة إقليمية. وقد نتج عن هذا التغير نتائج عديدة، في مجال كتابة الحوليات التي كانت في السابق وفقا لوصف طريف الخالدي عبارة عن «حوليات امبراطورية بيروقراطية» تجمع بين المعرفة التاريخية والسلطة. فعلى سبيل المثال كانت الحوليات السابقة تبدأ بذكر قائمة أصحاب المقامات الرفيعة في الامبراطورية (اسم السلطان، كبار رجال الدولة في ترتيب تنازلي).
في المقابل أدى الانهيار، كما نجد في حوليات المؤرخ ابن إياس التي شملت أواخر العصر المملوكي وبداية العصر العثماني، إلى إحداث تغير في اللغة، بدا مرتبطا بالتآكل الذي لحق ببنية السلطة المملوكية؛ فقد صار الحديث المباشر واللغة العامية أكثر استخداما، وستظهر آثار انفصال تلك الحوليات في السياق الامبراطوري مضمونها ولغتها، إذ ستتخذ رؤية كتاب الحوليات اتجاها آخر، بعد أن توارت مكانة الامبراطورية. ومن ثم لم تعد تلك الحوليات التي كتبت في مصر وبلاد الشام في القرنين السابع عشر والثامن عشر حوليات امبراطورية، وجرى اتجاه للتركيز على الأحداث اليومية العادية للناس العاديين، وهو ما يتضح بالأكثر في الحوليات الشامية. ففي يوميات شهاب الدين بن طوق (ت 1509) نعثر على شجارات عائلية وعن أوقات زيارة الحمام؛ كما نعثر في هذه اليوميات على أخبار تتعلق بأصدقائه، وجيرانه، وأسرته بلغة أقرب إلى لغة الكلام اليومية. هذا الأمر ظهر بشكل أوسع مع مذكرات البديري (ت1762) الذي سجل قسمها الأخير أحداثا تتعلق بمهنة الحلاقة وطائفة الحلاقين في دمشق.
علامة أخرى بارزة: اللغة والتجارة
والعامل الثالث، الذي لعب دورا بارزا وفقا لحنا في كتابة النصوص بالعامية، تعلق باتساع وازدهار التجارة المحلية والدولية، خاصة التجارة بين المناطق المتباعدة جغرافيا. وفي ما يتعلق بمصر، كانت هناك زيادة ملحوظة في تجارة الترانزيت الخاصة بالبضائع الشرقية، وبالتحديد البن الذي صار بضاعة شهيرة في كل المناطق. وكذلك المنسوجات الهندية، التي تزايد الطلب عليها في الامبراطورية العثمانية وأوروبا. كل ذلك أخذ يعني أن الظروف باتت متاحة لأناس كثيرين لأن تكون لهم علاقة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع التجارة. كما أخذ يعني أيضا تزايد أهمية تنظيم السجلات التجارية والمالية، وأهمية مهنة مسك الدفاتر والكتبة المؤهلين لهذه المهنة. واعتمادا على رؤية بيتر جران، ترى حنا أن التطور الذي شهدته القاهرة في القرن الثامن عشر في مجال الثقافة التجارية، قد ساهم في زيادة استخدام لغة عملية، وهو ما أثر لاحقا في الثقافة وبنية المجتمع ولغة الكتابة.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو