للتكعيب مئوية… أيضاً!

حجم الخط
2

مئوية الحرب الكونية الأولى، التي يحيي العالم مرورها هذه السنة، ليس دون ويلات وحروب؛ تتصادف، أيضاً، مع مئوية أخرى، يصحّ الافتراض بأنها نقيضة، أو على الأقلّ في ميدان إخصاب وتطوير، وليس ساحات احتراب وتدمير. ففي هذه السنة تكون مئة عام قد مرّت على صعود المدرسة التكعيبية، ذات العمر القصير (فرنسا، 1907 ـ 1914) والنفوذ العريض والواسع والمديد.
وكان الناقد الفرنسي لوي فوسيل، في نصّ كتبه سنة 1908، تعليقاً على معرض مشترك للفنانَين الفرنسيين جورج براك وراؤل دوفي، قد نحت عبارة «الشذوذ التكعيبي»؛ دون أن يدري أنه إنما يطلق اسماً على واحدة من أخطر حركات الفنون التشكيلية الأوروبية، والتي ستصبح في عداد المدارس الأوسع انتشاراً إلى الفنون الأخرى، مثل الموسيقى والأدب والعمارة. لكنّ التكعيبية كانت قد بدأت قبل عام، على يد براك نفسه وبابلو بيكاسو، اللذين امتزجت عندهما تأثيرات الفنون الأفريقية بالأعمال المتأخّرة للمعلّم الكبير بول سيزان، فضلاً عن التطوّرات الأخرى التي عصفت بالمفاهيم التقليدية حول الشكل والكتلة.
وعلاقة التأثير والتأثر بين الحركة والأدب عموماً، ثمّ الشعر بصفة خاصة، تقتضي وقفة موسعة مفصلة ليس هنا مقامها المناسب، بالطبع. ولكن من الثابت، والمثير كذلك، أنّ الشعر الفرنسي لعب آنذاك دوراً حاسماً وبالغ الحيوية في تطوير الحركة على صعيد الفنون التشكيلية، قبل أن يجري تبادل الأدوار فينخرط الشعراء أنفسهم في حال من التأثر العميق بما أنجزته أعمال كبار التكعيبيين على القماش. وإلى جانب غيوم أبولينير، الشاعر الذي كان ناقداً تشكيلياً أيضاً، اقترن بالحركة شعراء من أمثال بليز سيندرار، جان كوكتو، ماكس جاكوب، أندريه سالمون، وبالطبع بيير ريفردي: «كبيرنا وشاعرنا القدوة»، حسب عبارة لوي أراغون.
هذه أسماء نالت حصة عالية من الشهرة في حوليات التأريخ للشعر الفرنسي، المتحالف مع المدارس الفنية الأبرز حينذاك، التكعيبية والبدائية والسوريالة والدادائية؛ الأمر الذي لا يعني أنّ دينامية الانطلاق لم تعتمد على جنود مجهولين لم يُكتب لهم الحظّ ذاته من الشهرة. في طليعة هؤلاء تأتي مجموعة Abbaye de Créteil، نسبة إلى دير يقع في إحدى الضواحي الجنوبية للعاصمة الفرنسية، وتيمّناً بـ «دير تيليم» كما صوّره فرانسوا رابليه في القرون الوسطى، وأعاد اليسار الفرنسي تكريمه مطالع القرن الماضي بوصفه رمز المساواة والعدل الاجتماعي. وهذه المجموعة تأسست سنة 1906، وضمّت الشعراء، أو بالأحرى: الشعراء/ الرسّامين، شارل فيدراك وجورج دوهاميل ورونيه أركوس وألبير غليز وهنري ـ مارتان بارزان وألكسندر مرسيرو؛ وكان لها السبق في التمهيد المؤسساتي لولادة الحركة التكعيبية.
وخارج اللغة الفرنسية، يُشار عادة إلى ثلاثة شعراء أمريكيين، هم كنيث ركسروث وجون أشبري ورون بادجيت، اعتمدوا كثيراً على المجازات التكعيبية في أعمالهم؛ فضلاً عن قصيدة والاس ستيفنز الشهيرة «ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الطائر الأسود». أمّا على صعيد الأدب العربي، المعاصر تحديداً، فإنني أعود هنا إلى استعادة القاصّ والروائي العراقي محمد خضيّر، الذي لمع في أواسط الستينيات من القرن الماضي حين نشرت مجلة «الآداب» اللبنانية قصته القصيرة الشهيرة، «الأرجوحة»؛ والتي أخرجها، في شريط قصير أخاذ، السينمائي السوري المبدع هيثم حقي، كاتب السيناريو أيضاً.
ورغم أنّ تحفته «بصرياثا»، 1993، تنطوي على الكثير من عناصر التصوير التكعيبي، إلا أنّ العمل الأشدّ وضوحاً في هذا الخيار الأسلوبي هو روايته الثانية «كرّاسة كانون»، 2001. في هذا العمل القصير (127 صفحة) سعى خضير إلى تركيب أنساق متعددة من المزج البارع بين السرد الرؤيوي وإعادة استنطاق اللوحة التشكيلية، وتحديداً في أعمال غويا وبيكاسو وهنري مور. ومنذ الصفحة الأولى يعلن الراوي أنه شرع في تخطيط عدد من الوجوه القابعة حول موقد الشتاء، في شهر كانون الثاني 1991، حيث «ليالي التعتيم التي أعقبت الهجوم الجويّ». كذلك يعلن نوع المدينة التي يعيش فيها، بالفعل أو في مستوى التخييل: «كنت على الأرجح أتحرّك على سطح مدينة انتسختُ صورتها من ذاكرة المدن السومرية، مركّبة من خيال بيكاسو المكعّب أو حلم غويا العقلي متعدد السطوح. مكعّب بانورامي لمدينة عراقية، أنتقل من سطح إلى سطح من وجوهه، برفقة شخصياتي التي تحمل الفوانيس وتشاركني حلمي، أو الأرجح أني أشاركها الحياة على مكعب أحلامها المتقلب في تخطيطاتي».
للتكعيب مئويته أيضاً، إذاً؛ ولكن شتان، بالطبع، بين مئوية حرب ومئوية فنّ!

صبحي حديدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ناصر الكيلاني:

    انصفت الكاتب العراقي المبدع محمد خضير من خلال مئوية التكعيبيين .. بورك قلمك استاذنا

  2. يقول tchee:

    فعلا ثقافتك واسعة.ابتعرف لمثل :مهارة لا تفيد احدا……..
    ……..وهي

إشترك في قائمتنا البريدية