للمرة الأولى تتم ترجمة الأعمال الشعرية للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. فلقد مضى زمن على بضع ترجمات لبضعة شعراء وكتاب ومترجمين عرب، كانوا قد قدموا ريتسوس إلى العربية، عبر لغة وسيطة، إما الإنكليزية، أو الفرنسية، مجتهدين، كل حسب رؤيته ومخيلته ولغته وأسلوبه في الترجمة. كل تلك الترجمات ساهمت وأغنت المشهد الشعري الكبير والثري والمتنوع لشاعر اليونان العظيم يانيس ريتسوس.
حقاً إنه شاعر عظيم، باعتراف وشهادات وكتابات أعظم كتاب عصره، من بابلو نيرودا، مروراً بأراغون، إلى شاعر الإغريق العظيم بالماس، هذا الشاعر الذي كان أشهر شاعر يوناني في زمانه، وهو الذي امتدح ريتسوس قائلاً «نرفع القبعات ونتنحى جانباً لكي تمر أنتَ أيها الشاعر «.
ما يلفت ويميز في الترجمة الجديدة للشاعر يانيس ريتسوس، التي قام بها الكاتب والمترجم العراقي جمال حيدر، هي ترجمتها عن اليونانية مباشرة، وبمساعدة الإنكليزية، الأمر الذي يعد الأكثر سحراً، فبهذه الترجمة يقدَّم حيدر، للمكتبة العربية، خدمة جلى واستثنائية ونادرة لم يسبقه إليها أحد، في انتقاء الأمثل والأغنى والمؤثر من شعر يربو على أكثر من مئة مجموعة شعرية، قد صدرت له في اليونانية وحدها، وتكرست في أربعة عشر مجلداً شعرياً، هذا ناهيك عن مجموعاته الشعرية للأطفال، ومسرحياته ورواياته الست، وترجماته التي بلغت اثنتي عشرة ترجمة لأهم شعراء عصره، ويومياته ومذكراته التي جسدها في أكثر من أربعة كتب سيروية، تسرد مسيرة حياته الفنية والجمالية والثقافية والاجتماعية والســياسية في عموم مدن اليونان.
أما العامل الآخر الذي يميز هذه الترجمات فهو معرفة المترجم بالشاعر شخصياً، حيث سبق لحيدر، أن التقى ريتسوس في العاصمة اليونانية أثينا، إبان إقامته، ودراسته فيها، وعيشه تفاصيل منفاه الذي اختاره بعد مغادرته العراق في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم.
من هنا استثمر المترجم تلك العلاقة اليسارية، ليتعرف أكثر على حياة وتفاصيل ريتسوس اليومية، هذا الشاعر الذي شغل العالم بقصائده وأسس لمدرسة وتيار شعري وأسلوب في الكتابة سرعان ما انتشر في العالم، ولا سيما في العالم العربي منذ مطلع السبعينيات، مؤسساً دون أن يعلم، لعالم شعري كبير سيكتسح برؤاه الطازجة، ونهجه الجديد ومخيلته الجامحة كل المدارس الشعرية التي انبثقت في العالم، كونه الأقرب إلى نبض الحياة، وسر وجودها، والأقرب إلى معاناة الإنسان ومحنته اليومية مع التفاصيل والمشاهد والمرئيات والأحزان والصروف والكروب المختلفة والعديدة التي سيصادفها في حياته اليومية، أثناء سيره في هذا الوجود الغامض الذي دفع الإنسان لكي يحياه بكل جوارحه وخطوبه وألوانه، وموج تفاصيله الآنية والواقعية والجوهرية التي تتشابك، في مد شبكي لا نهائي، على تخوم هذا العالم المتداخل في نســيــج كوني مع المجهول والأبدية.
كان ريتسوس بالنسبة لليونانيين، الخلاق الذي لا يضاهى في عالم الشعر وسمائه الاغريقية الزاخرة بالعمالقة منذ هوميروس، وحتى كفافي وسيفريس وبالماس. فهو الشاعر الذي يردد العمال في المصانع أغانيه والطلاب وكذلك التلاميذ في المدارس، والفلاحون في المزارع، والعامة في الباصات والمقاهي وصالات المسارح والموسيقى، تلك الأغاني التي أصبحت بمثابة ايقونات ذهبية، بعد أن لحنها الملحن والمغني اليساري الشهير ثيودوراكس. من هنا تتأتى قيمة ريتسوس الفنية والإبداعية والجمالية، تلك التي كرّسها عبر مسيرة طويلة، من الكتابة الشعرية التي بدأت بالظهور عليه وهو في سن الثامنة. لقد تعلم المزيد من أسرته المتوسطة الحال، وخاصة من أمه التي كان لها ولع بالكتب والموسيقى، واليسار العالمي، كل ذلك ترك أثره على ريتسوس الصغير الذي نشأ بالقرب من البحر وزرقته، وفتنة سفنه، وفناراته، وصيّاديه وبحّارته، وأشرعة السفائن التي تتراءى كل يوم أمام نافذته المنزلية، في ريف مونفاسيا البحرية حيث مولده ونشأته وتدرُّج صباه.
لقد مرّ ريتسوس خلال حياته، التي أحفظها عن ظهر قلب وأنا أكتب هذه السطور، مرّ بمآس لا تحصى، فقدانه الأم باكراً، جنون أخته، مرضه بالسل، سجنه كونه يسارياً، مناصراً للعدالة والقيم الإنسانية حيثما كانت، نضاله ضد الديكتاتوريات، والطغاة والفاشيست، في اليونان أو في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، وفي كل بقعة تتعرّض للظلم والاضطهاد الفكري والعقائدي والإنساني.
لقد دخل الشاعر مصحات كثيرة ومعسكرات اعتقال أكثر، عُذِّب وأضطُهِد ومورس بحقِّه التنكيل والحط من قيمته الإبداعية والأخلاقية من قبل الفاشيست، إبّان حكم العقداء السود لليونان في فترة الستينيات من الألفية الفائتة.
لكن في النهاية أنتصر الشاعر على جلاديه، وانتصرت اليونان على الفاشية، وذاع صيت ريتسوس في بقاع الأرض كشاعر فذ ومناضل لا يلين، أو يهادن، وسجَّل بذلك أسطورة جديدة في مسيرة الإنسانية، أي سجل أسطورة الشاعر في ملحمة الشعر العظيم، الخلاق والمبتكر والمُجدِّد في اجتراح أسطورة يومية، ومختلفة داخل الحياة العامة للإنسان المعاصر في العالم.
بين يدي الآن المجلد الأول الصادر حالياً، بينما ستليه في ما بعد المجلدات الأخرى. ضمن هذا المجلد خمس مجموعات شعرية، وهي آخر ما كتب ريتسوس من أشعار، ومن ضمنها القصيدة الأخيرة له التي حملت عنوان «الصيف الأخير».
عُرف عن ريتسوس، تحيّزه لليسار ولقضايا الإنسان البسيط، وعرف كونه المُلهم الأول للقصيدة اليومية، وللمفردات الأنيسة التي ترافق الإنسان في رحلته مع الحياة والكون والوجود. وتفرد عن كل شعراء العالم برسمه للمشهد الحياتي بتفصيل نادر ومذهل. كتب عن كل شيء في الحياة، بلغة مترعة بالشفافية، ومفعمة بالصفاء البلوري، كتب للعمال أناشيد إيقاعية حفظها الملايين، ولكنّ الشاعر الثائر على المواضعات الاجتماعية والسياسية والفكرية، كان أيضاً ثائراً في مجال التجديد الشعري، ومتمرداً على النسق القديم للحقل اللغوي، والمغامر في تناول الموضوعة الشعرية، محاولاً بذلك الكشف حتى عن ثيمة الجسد، ومعنى الغواية ذات النبع الإيروسي، حيث كمون اللبيدو في غابات من الظلال والعتمة السرية، وبذا أماط ريتسوس اللثام عن ذلك، ليكون أيضاً ثائراً في تجاوزه للخطوط الحمر، وفي كشفه لجماليات الجسد الإنساني، عبر السيرة الحمراء للحب والجسد والرغبة، فهو هنا أيضاً يحمل الراية الحمراء، ولكن هذه المرة، راية الجسد ومشاغله ورغباته وملذاته وشهواته، مُجسِّداً إياه في مجموعة شعرية هي»ايروتيكا» لتكون الأولى في هذا المجلد الضخم، الذي ضم أيضا أربع مجموعات أخرى، هي على التوالي: «سلبيات الصمت ـ الشجرة العارية ـ متأخراً جداً في منتصف الليل ـ الثواني».
من مجموعة «ايروتيكا» نختار:
«من الذي يصرخ في الليل؟
الرجال يُنصتون بصعوبة،
المرايا أيضاً يصعب عليها الإنصات،
أوقدتُ المصباح وأطفأت عود الكبريت،
عارية كنتِ، انصت لهمهمات جسدكِ، شعرك انسدل،
ظلّ الدراجة انطبع على الجدار الرطب،
ظلالُ المسامير امتدت على الباب الموصدة….
لساني في فمكِ، لسانكِ في فمي كغابة معتمة….
جسدكِ فتانٌ، جسدكِ خالدٌ وأنا تائه في الخلود».
ومن مجموعة «سلبيات الصمت»، وهي مجموعة ضمت نتاجه للسنوات الأخيرة، وهو نتاج فيه خلود واضح وآسر للقصائد المكتوبة، خلود يضيء كالجلال هذا النســــيج المتـشــعـب والمـــتــداخل بالرموز والشفرات والمصقول بالأفكار والمعاني:
«ملاحقون عبروا صحارى عديدة، ومخاوف كثيرة، أمضوا ليالي في كهوف برية، مصغين للذئاب، حقائب قماش خاوية، قارورة مياه فارغة، تقاسموا حبوب الخرّوب الجافة والبلوط مع بغالهم، من قمة التل راقبوا القارب الصغير للخط البحريّ المقفر، وهو يغادر حزيناً، ما من مكان ليرسلوا تحياتهم، ذلك الذي أطلقوا عليه اسم المجد، ما هو؟ شفى كثراً من الجروح، وحوَّل الكثير من الحرمان إلى كنوز، وفي نهاية المطاف لم يبق سوى قناع ذهبي، قناع وحيدٌ، ما من وجه خلفه».
بينما نراه في القصيدة الأخيرة «الصيف الأخير» يهجس فيها الشاعر بأنه قد يكون الصيف الأخير من أعوامه التي اختتمت بالثمانين، وها هو ذا يقول : «ألوان الغروب في حالة وداع، أزف الوقت لتجهيزي الحقائب الثلاث، الكتب، الأوراق، القمصان، ولا تنسَي ذلك الفستان الوردي الذي يليق بك كثيراً، مع انك لم ترتديه في الشتاء، أنا في الأيام القليلة المتبقّية، سأراجع الأبيات التي كتبتها في تموز وآب، رغم أني أخشى الا أضيف شيئاً، ربما أحذف الكثير منها، فيما لاحت عبرها الريبة الغامضة، أن هذا الصيف بزيزانه، بأشجاره، وبحره، بصفارات سفنه المبحرة في الغروب البهيّ، برحلات قواربه المرئية من الشرفات، تحت ضوء القمر، وبرحمته المخادعة، سيكون الصيف الأخير».
يانيس ريتسوس: «الأعمال الكاملة»
ترجمة وتقديم: جمال حيدر
أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2017
صفحة237
هاشم شفيق