لندن ـ «القدس العربي»: على عكس كل التوقعات، لم ينجح المدرب الكتالوني بيب غوارديولا في فرض فلسفته وأفكاره المعروفة عنه، على أندية البريميرليغ، منذ وصوله لسدّة حكم قلعة «الاتحاد» مانشستر سيتي الصيف الماضي، خلفا للتشيلي مانويل بيليغريني، بل أُجبر على التنازل عن قناعاته وكل معتقداته القديمة، التي تُنسف يوما بعد يوم، سواء بتكتيكه وإستراتيجيته داخل المستطيل الأخضر، أو بالطريقة السهلة التي بنى بها مشروع الحلم في موسمه الثاني في بلاد الضباب.
قطار لا يرحم
من يعرف بيب منذ ظهوره على الساحة عام 2008، عندما منحه الرئيس الأسبق خوان لابورتا فرصة قيادة برشلونة، بعد عام كامل قضاه مع فريق الرديف، يلعب دائما بأربعة مدافعين في الخط الخلفي، وطوال فترة حكمه «لكامب نو»، لم يتخل عن أسلوب اللعب بأربعة مدافعين، فقط كان يُنوع أفكاره في الوسط والهجوم، لكنه في الأغلب يميل لأسلوب 4-2-3-1، على أن يكون المهاجم الأخير «وهمي»، وليس رقم (9) المعروف بالمهاجم الصندوق. حتى مع بايرن ميونيخ، نقل أفكاره وفلسفته المعروفة بالاستحواذ على الكرة، ووضع الخصم في وسط ملعبه، بالاعتماد على لاعبين يملكون من المرونة ما يكفي لنقل الكرة في مساحات ضيقة، كخافي مارتينيز وألكانتارا وتشابي ألونسو وكروس قبل ذهابه إلى ريال مدريد، وعلى الأطراف الجناحين الطائرين آريين روبن وفرانك ريبيري، مشكلته الوحيدة، كانت تكمن في ضعف مركز قلب الدفاع بسبب كثرة الإصابات، التي لم تُمكنه من الاعتماد على قلبي دفاع ثابتين في أغلب فترات مواسمه الثلاثة التي قضاها في «آليانز آرينا». وبالعودة بالذاكرة قليلا، وتحديدًا لموسمه الأول في إنكلترا، سنُلاحظ أنه لم يُغير قناعاته، وظل يلعب بأربعة في الدفاع، مع الاحتفاظ بأكثر عدد من اللاعبين الموهوبين في منتصف الملعب، يكون منهم اثنان على الأقل لديهم القدرة على التسجيل كدافيد سيلفا وكيفن دي بروين، وأمامها الأرجنتيني سيرخيو أغويرو أو غابرييل جيسوس، الذي يخطف الأضواء من ابن قارته رويدا رويدا، لكن هل شاهدتم ما فعله بيب بداية هذا الموسم؟
اكتشف الحقيقة
طوال الموسم الماضي، عانى الفريق السماوي الأمرين في التعامل مع الهجمات المرتدة، وهذه المشكلة ظهرت بوضوح منذ إصابة القلب النابض إلكاي غندوغان، الذي كان يؤدي دور اللاعب رقم (8) بامتياز، بوضع نفسه في المكان الصحيح، لعمل مثلث برفقة أقرب زميلين، تماما كما يُريد غوارديولا بالضبط، أضف إلى أنه موهوب في عملية افتكاك الكرة في الثلث الأخير من الملعبب دون ارتكاب أخطاء، ولا يفقد الكرة بسهولة في أي مكان في الملعب، وهو تقريبا لاعب الوسط المحوري القادر على قيادة أي فريق للفوز ببطولة، بشرط أن تبتعد عنه لعنة الإصابات. الشاهد، أن غوارديولا فهم متأخرا قيمة أن تُدافع بشكل جيد في بلاد الضباب، فهو لا يُدافع عن شعار اسمه برشلونة، ويلعب أمام منافسين أقصى طموحهم الخروج بأقل عدد من الأهداف أمام ميسي وجواهر عصر تشابي وإيتو وبويول وألفيش الذهبي، أو فريقه بايرن ميونيخ الذي من السهل جدا أن يفوز بلقب البوندسليغا قبل النهاية بخمسة وستة أسابيع كل عام. الواقع يقول أنه يلعب كل سبت أو أحد مباراة لا تقل شراسة عن سهرات الثلاثاء والأربعاء الأوروبية، بل في جُل الأوقات تكون المواجهة المحلية أكثر صعوبة، خاصة عندما يصطدم بأحد الأعداء وما أكثرهم بدون ذكر أسماء. صحيح «السكاي بلوز» بدأ مباراة السبت أمام بورنموث بأربعة مدافعين في الدفاع، لكنه سرعان ما عاد للعب بخمسة، منهم ثلاثة في قلب الدفاع واثنان على الأطراف في صورة ظهيرين متقدمين من منتصف الملعب، والمُدهش أن غوارديولا أظهر إيمانه الكامل بالطريقة المُنتشرة في الدوري الإنكليزي في الآونة الأخيرة، بعد نجاحها المدوري مع تشلسي أنطونيو كونتي وتوتنهام ماوريسو بوتيشينو، قبل أن ينضم إليهما آرسنال وبقية الأندية، وهذا خير دليل على رضوخ المدرب الكاتلوني أمام واقع وعنفوان كرة القدم الإنكليزية السريعة، وأيضا مستوى التنافس الكبير بين جُل الفريق، عكس وضعه عندما كان مع برشلونة أو البايرن، هناك، لم يكن يجد صعوبة بالغة في تحقيق الفوز بثلاثيات ورباعيات خارج القواعد بمنتهى السهولة والأريحية، أما يوم السبت الماضي، كاد يفقد أعصابه بعد إحراز رحيم ستيرلنغ هدف الفوز على بورنموث، الذي فاز عليه السيتي في آخر أربع مباريات بنتيجة 15-1!
الكارثة الأكبر
بعيدا عن الشق التكتيكي، دعنا عزيزي قارئ «القدس العربي» أن نتذكر سياسة غوارديولا مع فرقه السابقة، على سبيل المثال في بداية مشروعه مع برشلونة تَعمد بناء فريق شاق قوامه الرئيسي من شباب الأكاديمية، وفعل ذلك بالموافقة على بيع عناصر خبرة متمثلة في الأسطورة رونالدينيو والساحر البرتغالي الهوية البرازيلي الأصل ديكو، لتشجيع ميسي وإنييستا على تقديم أفضل ما لديهم. المفارقة الحقيقية أنه في موسمه الأول مع ناديه الأصلي، لم يُبرم صفقات باهظة الثمن، الصفقة الأغلى كانت ضم المدافع الأيمن داني ألفيش من كبير الأندس «إشبيلية» مقابل 31 مليون يورو، ومعه أضاف أسماء أخرى مثل ألكسندر هليب، مارتن كاسيريس وسيدو كيتا ومعهم كذلك ابن أكاديمية لاماسيا جيرار بيكيه، الذي استعاده من مانشستر يونايتد بسعر رمزي. ما يُثبت أن غوارديولا لم يأت إلى فريق العاصمة الإنكليزية الثانية لاستنساخ تجربته السابقة مع برشلونة أو حتى البايرن، فطوال ولايته الأسطورية في «كامب نو»، لم يتعاقد إلا مع 10 أسماء كبيرة، وفي المقابل قام بتصعيد 13 لاعبا من أبناء النادي، وبوجه عام لم يُكلف الخزينة أكثر من 385 يورو بين عامي 2008 و2012، الأغرب أنه كرر الأمر ذاته مع البايرن، وأعطى أبناء الأكاديمية فرصة عظيمة للظهور، ولم يُنفق أكثر من 200 مليون يورو على مدار 3 سنوات.
قال وفعل العكس
بالكاد لم تنس جماهير «السيتيزينز» ما قاله غوارديولا بعد أيام قليلة من توليه المهمة، حتى أنه ادعى أن أحد أهم الأشياء التي دفعته لقبول المهمة وجود قطاع ناشئين وشباب عالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهنا اعتقدت الجماهير أن الإدارة عثرت على المُكتشف الأمين القادر على إفراز المواهب الواعدة، على غرار ما فعله مع البارسا والبايرن، والتاريخ الحديث يقول أن أكاديمية مانشستر التي تكتسي باللون السماوي، أظهرت أسماء لا يُستهان بها، لكنها لم تجد من «يحنو» عليها، أو منحها الفرصة مثل «دانيال ستاريدج وكاسبر شمايكل ودينيس سواريز وأدريان رابيو. غوارديولا قال بالنص: «أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت النادي يوقع معي، أنني أتعامل بشكل جيد مع اللاعبين الشباب، وأفهم جيدا أن المشجعين يحتاجون رؤية أبناء الأكاديمية مع الفريق الأول، لأن هذا أمر خاص للجماهير وأيضا أبناء الأكاديمية».
أما خلدون المبارك، فقال في نفس هذه الأيام العام الماضي: «نتوقع أن يكون لدينا في الفريق السنة القادمة ثلاثة أو أربعة لاعبين لديهم فرصة جيدة للظهور مع الفريق الأول، وإذا سألت بيب اليوم، سيقول لك أن فرصة الشباب قادمة لا محالة، وهذا ما نُريده لبناء فريق من روح النادي». أما على أرض الواقع، فلم يُعر اللاعبين الشباب أي اهتمام، رغم أنهم حققوا إنجازا غير مسبوق بالوصول لنهائي كأس الاتحاد الإنكليزي للشباب ثلاث مرات على التوالي، والآن لغة الأرقام تقول أنه أنفق مع السيتي في غضون 14 شهرا، تقريبا ضعف ما أنفقه مع ناديه الكتالوني على مدار 48 شهرا، وهذا في حد ذاته، يكشف التناقض الكبير في فلسفته المعروفة عنه.
صحيح صاحب الـ46 عاما كان محظوظا بجيل شباب قوي في برشلونة، بإخراج وحش كاسر في منتصف الملعب كسيرخيو بوسكيتس مع بيدرو وردريغز وبقية الشباب والمُخضرمين أبناء النادي، وربما مقارنة شباب السيتي حالي بشباب البرسا 2008 ظالمة، لكن الشيء المُحير أنه لم يُكلف نفسه عناء البحث عن موهبة أو موهبتين من باب تصديق كلامه على أقل تقدير. الكارثة التي هبطت فوق رؤوس مشجعي المان سيتي، تكمن في سماح المدرب لخروج أبرز لاعبين الأكاديمية الأنجح في بلاد الضباب، منهم على سبيل المثال بابلو مافيو وأليكس غارسيا اللذان ذهبا إلى فرع النادي الثاني في إسبانيا جيرونا، بالإضافة إلى أنجيلينو المنتقل إلى بريدا، ناهيك عن قتل صانع الألعاب الشاب فيل فودون، الذي انتهت فرصه في الظهور مع الفريق الأول بعد قدوم بيرنارو سيلفا مقابل 45 مليــون إســترليني، ليــكـــون خليفة دافيد سيلفا في مركز صانع الألعاب.
الخلاصة
باختصار شديد، يُمكن القول أن إدارة السيتي أعطت غوارديولا أداة قتل المواهب الشابة، مدافع يافع وصلد كتوسين أدارابيويو، عمره لم يتجاوز 19 ربيعا، ويُنظر له على أنه مستقبل دفاع السيتي، لكن بالنسبة لغوارديولا فهو لا يرى ذلك، بل يرى الحل الأسهل، وهو الإنفاق لسد الحاجة في أسرع وقت ممكن، بدليل أنه يُفكر بجدية في ضم مدافع الأعداء السابق جوني إيفانز، بعد إنفاق أكثر من 150 مليون إسترليني لتدعيم قلب الدفاع، و100 دفعة واحدة هذا الصيف لشراء ثلاثة أظهر. عموما، كل الشواهد والمؤشرات توضح أن فلسفة غوارديولا مع السيتي ليست هي نفسها فلسفته مع برشلونة وبايرن ميونيخ، وكما أشرنا في الوقت الذي يُبدع فيه فريق الشباب ويظهر فيه مواهب واعدة للمستقبل، نجد غوارديولا يُركز فقط على الشراء، والشيء الوحيد الذي يُمكن القول بأنه صدق فيه، أنه تعهد ببناء فريق شاب قوي قادر على إعادة هيبة السيتي. وبالنظر إلى الأسماء المتاحة الآن، سنجد أن مُعدل الأعمار انخفض كثيرا، خاصة بعد رحيل عواجيز الثلاثينات كاباييرو وسانيا وكليشي وزاباليتا وآخرين، وهذا لم يحدث بلمحة عبقرية أو بتخطيط، بل بأموال تم توزيعها بشكل صحيح، والشيء الواضح أنه حتى الآن لم يُظهر جديته في منح الشباب فرصة جيدة، بل يفعل العكس تماما بإرسالهم خارج النادي، آخرهم النيجيري كليتشي إيهاناتشو، الذي كان يُنظر اليه على أنه مُستقبل هجوم الفريق بعد أغويرو، وفي الأخير باعه المدرب لليستر بثمن بخس… والســـؤال الآن: هل سيتذكر غوارديولا ما قاله العام الماضي ويبدأ في ترتيب أوراقه من جديد؟ أم أنه لن يتراجع عن فلسفته الجديدة؟
عادل منصور