■ لم يكن عقدا عاديا مرَ على العراق، عقد الثمانينيات الطاحن في تاريخ العراق المعاصر، عقد الحرب التي أكلت مئات الالاف من شباب العراق في حرب عبثية مع ايران، ومن الذكريات المهمة في هذا العقد سيطرة نشاطات الرئيس على البث التلفزيوني المكون من قناتين يتيمتين فقط حينها، اذ يتوحد البث في نشرة اخبار الثامنة مساء ليطل الرئيس على المشاهدين وهو يلتقي أو يكرم عسكريين ويستمر اللقاء لمدة ساعتين فتلتصق النشرة الاولى بالنشرة الثانية نشرة الساعة العاشرة ليستمر التعذيب حتى منتصف الليل، فاذا كان قسم التنسيق رحيما بالمشاهدين فانه يختم البث عند هذا الحد، وفي بعض الاحيان تعاد الكرة مرة ثالثة في فقرة آخر الاخبار، كل هذه الساعات الممتدة والمحشوة اما بهذر لا يسمعه المشاهد واذا سمعه لايفقه منه شيئا، او ساعات صامتة ومركزة على وجه الرئيس تصاحبها مقطوعة موسيقية واحدة، كرهها بل تعذب بها الشعب العراقي، المفارقة ان هذه القطعة الموسيقية هي اهم واجمل ما كتب الموسيقار النمساوي ولفغانغ أماديوس موزارت (1756 م- 1791م) ، المقطوعة اسمها (Eine kleine Nachtmusik ).
في فيلم أماديوس ( 1984 م) للمخرج الكبير ميلوش فورمان، الذي يسرد حياة موزارت على لسان الموسيقار الايطالي انطونيو ساليري الذي كان موسيقارا لبلاط امبراطور النمسا جوزف الثاني (1741 – 1790) ، وقد كان ساليري منافسا لموزارت وقد اتهم نفسه بانه كان السبب في وفاة موزارت شابا (كان عمره 35 عاما عندما توفى) ، في المشهد الافتتاحي للفيلم وبعد محاولة انتحار فاشلة قام بها ساليري العجوز، ينقذ منها ويوضع في مصح للامراض العقلية، يزوره قس ليسمع اعترافه ويمنحه البركة قبل الوفاة، فيدور بينهما حديث فيوجه ساليري السؤال للقس، هل تعرفني؟ فيجيب القس بالنفي، فيقول له ساليري انه كان اعظم موسيقار في اوروبا وان موسيقاه كانت تهز المسارح، فقد الف اكثر من اربعين اوبرا، ويسمع القس بعض مقطوعاته الشهيرة فلا يظهر عليه اي تأثر او معرفة، ثم يسمعه نقرات صغيرة فيسارع القس للدندنة معها ويقول له نعم هذه اعرفها انها ساحرة، انا آسف لم اكن اعلم انك مؤلفها، فيخبره ساليري في مشهد مؤثر انها ليست موسيقاه انها موسيقى موزارت، التي ستظل حية لمئات السنين، المفارقة ان هذه القطعة هي موسيقى اخبار الرئيس في تلفزيون العراق!!
هذا الالم والكراهية المنبعثة من ثنايا مقطوعة موسيقية جميلة يحيلنا الى مسرحية الكاتب والروائي والناشط في مجال حقوق الانسان الارجنتيني اريل دورفمان (ولد 1942) (Death and the Maiden ) «الموت والبتول» التي كتبها عام 1991 والتي ترجمت الى العديد من اللغات وقدمت على مسارح العالم، وقد ترجمت الى العربية وتم تعريقها وقدمت في مهرجان المسرح العربي في القاهرة عام 2008، كما تم تحويلها الى فيلم امريكي عام 1994 قام بإخرجه المخرج الكبير رومان بولانسكي، والفيلم والمسرحية تحكيان قصة امرأة اعتقلت في سجون احدى دكتاتوريات امريكا اللاتينية حيث يتم تعذيبها واغتاصبها بشكل متكرر وهي معصوبة العينين من قبل طبيب السجن المشرف على صحة المعتقلات، وفي كل عملية اغتصاب كان الطبيب يستمع الى مقطوعة «الموت والبتول» للموسيقار النمساوي فرانز شوبرت (1797م – 1828م) ، وهي مقطوعة جميلة كتبها شوبرت وهومريض ويشعر باقتراب الموت منه، فكتب هذه المقطوعة لما يسمى موسيقى الغرفة على شكل رباعية وترية حزينة، واستخدم الروائي اريل دورفمان هذه الثيمة في مسرحيته لوصف مدى التمزق الذي تعانيه الضحية في كل مرة تستمع فيها لهذه المقطوعة وتتذكر ما ارتبط بها من الم واضطهاد، حتى تعثر بالصدفة على الطبيب المتهم وتبدأ بالضغط عليه وتهديده بالسلاح، لينهار في النهاية ويعترف اخيرا بجرمه عندما يشعر ان البطلة موشكة على قتله وعندها فقط يطلب منها المغفرة، وهنا تفترق المسرحية الاصلية عن الفيلم، فالمسرحية تترك النهاية مفتوحة بينما فيلم بولانسكي ينهي الفيلم بقبول الاعتذار ومنح المغفرة والتخلص من الالم في مشهد جميل ومعبر كخاتمة للفيلم، حيث تجلس البطلة وزوجها في مكان في قاعة عزف موسيقية تنظر الى الطبيب وعائلته والجميع يحضرون حفلة موسيقية تعزف فيها مقطوعة «الموت والبتول» لشوبرت.
كنت دائما احاول ان أتخيل الشخص الذي كان مسؤولا في التلفزيون عن اخراج وبث افلام واخبار الرئيس، واحاول ان اتخيل كيف اختار هذه المعزوفة الجميلة بل ربما الاجمل من اعمال موزارت، حيث انك اليوم اذا كتبت في شريط البحث في يوتيوب (Best Of Mozart ) – اهم اعمال موزارت – ستجد هذه المقطوعة الموسيقية وضعت في التسلسل الاول في التشكيلة المجمعة عبر ساعتين لاهم اعمال موزارت، واقول، اذن ربما كان هذا الشخص يريد ان يقلل من حجم المأساة على المتفرج العراقي فوضع له تحفة كلاسيكية مصاحبة لصورة اكثر شخصية كرهها وارتعب منها العراقيون في تاريخهم المعاصر، اقول ربما، وربما جاء الامر مصادفة محضا لقسم التنسيق او قسم الموسيقى في تلفزيون العراق، ليلتصق طعم المرارة في افواه العراقيين كلما سمعوا هذه التحفة.
وبينما كره العراقيون استعارة موزارت تلك، لم يعرف الكثير منهم الاستعارة الرحبانية الجميلة لموسيقى موزارت في اغنية فيروز الشهيرة (يا أنا .. انا وياك) ، فقد استعار الرحابنة الحركة السريعة الاولى من السمفونية الاربعين لموزارت التي كتبها على السلم الصغير G Minor ، والتي مثلت حالة نادرة في مؤلفاته هي والسمفونية الخامسة والعشرون، هاتان الســــمفونيتان فقط من بين كل اعماله هما اللتان كتبهما موزارت على السلم الصغير، وهو سلم موســـيقي قريب من روح السلالم الشرقية، ألتقطها ذكاء الاخوين رحباني ووظفاها في اغنية جميلة، فهل يتمكن العراقيون من استبدال مرارة موســـيقى موزارت التي صاحبت اخبار الرئيس بحلاوة موسيقاه التي وظفها الاخوان رحباني في اغنية فيروز؟؟ ام ان الامر مازال طويلا لنصل الى المغفرة والتخلص من الالم .
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
المقطوعة التي كانت ترافق بث لقاءات الرئيس الراحل في نشرات أخبار التلفزيون العراقي
مقال جميل
نعم تلك كانت أيامٌ قاسية وحزينة ، وولّلدت اخري كثيرة أسوء منها ، حتي غدت ان نظرت ليومنا هذا ، أياما ذهبية
ورب يومٍ بكيت منه …فلما صرت في غيره بكيت عليه
المقطوعة التي كانت ترافق بث لقاءات الرئيس السابق في نشرات أخبار التلفزيون العراقي
هي ليست Eine kleine Nachtmusik لموتزارت وانما هي الحركة الثانية من السمفونية الاولى للموسيقار يوهانس برامز.الرجاء التاكد والعودة لسماع تلك السمفونية الرائعة والتي كانت تسمع ايضاً في سبعينيات القرن الماضي ايام الرئيس الراحل البكر.
أسعدنا مقالكم أستاذ. شكراً
بالفعل اشك ان المقطوعة لموزارت .. لكني اعتقد انها ربما لباخ من موسيقى الالعاب النارية لبراندنبرغ .. لكن المقال رائع ومشكور الكاتب صديقنا من المتنبي
مقال مبنية على اساس خاطيء .. و هكذا نحن العراقيون دائما نمووت على ” حجي الكهاوي” و قال و قلت و البهارات .
كان من واجب كاتب المقال التأكد من المعلومة قبل ان يصيب موزارت ما اصابه من كراهية و لعن .
الموسيقى الاصلية لـ باخ و هذا اسمها
Bach – Brandenburg Concerto No. 4 in G major BWV 1049 – 2. Andante – 3. Presto