لماذا لم يسعد التونسيون بالديمقراطية؟

تتعالى صيحات الشباب ويهتفون معا بصوت واحد «لا لن نسامح». يحتد الحماس بينهم ويقررون بلا إنتظار ولا تردد ان يتحركوا نحو شارع بورقيبة في قلب العاصمة تونس لكن رجال الشرطة الذين حضروا وظلوا يرقبون المشهد بتوجس واستعداد لم يتركوا لهم فرصة أو أملا ولو ضئيلا لتحقيق تلك الرغبة بعد ان سارعوا لتفريقهم بالشكل التقليدي المعروف أي بالضرب بالهراوات. لقد كانت صيحاتهم صرخة مشروعة وممكنة ما داموا بعيدين عن الأضواء والأنظار ولكن انتقالهم إلى الشارع الأكثر جلبة وشهرة صار إثما وجريرة لم تغفرها لهم أبدا قوات الأمن ولا قانون الطوارئ الذي جاء لأجل فرض تطبيقه بحزم وقوة. هل كانوا يظنون ان الديمقراطية سوف تمنحهم صكوكا على بياض تسمح لهم بالاحتجاج المفتوح واللانهائي في كل وقت ومكان؟
من شاهد ملامحهم وحماسهم ثم ردة فعلهم سوف يقفز ذلك الإنطباع إلى ذهنه. ولكن معظم الذين حضروا في الأول من الشهر الجاري إلى ساحة محمد علي غير بعيد عن مقر اتحاد الشغل لم يكونوا مختلفين أو بعيدين عن باقي الشباب الذي لم يدرك أو يعرف معنى الطوارئ ولا خبر هراوات البوليس أو ملاحقات المخبرين زمن بورقيبة وبن علي إلا من خلال الروايات القديمة التي سمعها أو قرأها على شاشات الكمبيوترات. انهم شباب قذفت بهم مواقع التواصل الاجتماعي إلى شواطئ نائية ومهجورة وظلوا مرميين على رمالها دون ان تهب الديمقراطية لنجدتهم وانقاذهم أو يطالب بحر الاستبداد باستعادتهم واسترجاعهم إلى أعماقه المظلمة والكئيبة. شباب معلق في الفراغ أو كما كان يقول المعتزلة مشتت بين منزلتين. لم يشهد بؤس الاستبداد ولا رأى حتى الآن نعيم الحرية ولكنه خرج فقط ليقول انه يرفض ان يسامح الكهول والشيوخ الذين نهبوا وسرقوا عرق البسطاء واستمروا بالسطو على الأحياء والموتى وتخريب وقتل أي أمل بالمستقبل. لماذا استفاقوا الآن على وقع تلك الحقيقة المرة، ولماذا تأخروا كل ذلك الوقت حتى يكتشفوا ما كانت تخطط له عصابات اللصوص في وضح النهار؟ لقد ألهمهم مشروع قانون المصالحة المالية الذي عرضه الرئيس على أنظار البرلمان وفتح عيونهم التي أغلقت وغفت شهورا وأعواما ليصحو المارد الثوري الذي استرخى وانضم إلى صفوف العاطلين عن كل حراك بعد ان صار غريبا ومنبوذا في تونس. هل قرأوا المشروع؟ هل فهموه؟ ليس مهما فالمهم ان رجال السياسة قالوا لهم باختصار وبالحرف انه قانون لتبييض الفساد والمفسدين وذلك يكفي وزيادة حتى يصرخوا ضد التبييض والمفسدين ويعلنوا رفضهم القاطع لعمليات تجميل اللصوص والسراق السابقين والحاليين. لكن صرخات الرفض والاحتجاج لن تكفي لانها لن تلقى ببساطة آذانا تسمعها. فالسادة الكبار المتمترسون وراء أموالهم وثرواتهم لم يعيروا في السابق اهتماما أو يحسبوا حسابا للحالمين بالثورات والتغييرات ولا يبدو انهم يفكرون لا الآن ولا في مقبل الأيام بالتراجع عن مواقفهم والعدول عنها. انهم ينظرون إليهم من فوق عماراتهم ومبانيهم الضخمة والشاهقة على انهم دغمائيون وعاطفيون أكثر من اللازم وانهم لا يفهمون ان مصلحة البلد هي في رجوع رؤوس الأموال التي اختفت أو هربت إلى الخارج بهروب الرئيس المخلوع بن علي خوفا من ان تطالها الملاحقات القضائية، ولأجل تلك المصلحة لن يحزن الكثيرون أو يغتاظ أحد عندما تذهب الشعارات والهتافات الثورية إلى الجحيم، فما يهم البلد بعد ان دخل وفقا لما تقوله الحكومة مرحلة «الانكماش التقني» هو استعادة قدر ولو محدود أو ضئيل مما نهبه اللصوص ولن يجدي أو يفيد نفعا محاكمتهم ووضعهم عن بكرة أبيهم داخل السجون والمعتقلات ما دامت السيولة النقدية التي بحوزتهم خارج سيطرة الدولة وبعيدا عن خزائنها المحتاجة للمزيد من الأموال. ان زمن البطولات انتهى رغم ان وجوها سياسية معروفة طلعت لتجدد استعدادها للدخول إلى السجون مرة أخرى لو كان ذلك الثمن المطلوب لإسقاط مشروع القانون، لكن سقوطه أو بقائه على حاله أو تعديله ليس هو المشكل الأصلي أو الوحيد، فاليافعون الذين لم يشتد لهم عود ولم يملكوا بعد صلابة السياسيين ودهائهم وقدرتهم على التقلب والمناورة بحسب تقلب الريح لن يستفيدوا شيئا ما دامت قواعد اللعبة على حالها وما دام الكبار والشيوخ هم من يحرك ويتحكم في خيوط الحاضر والمستقبل.
لقد قال الرئيس الباجي قائد السبسي وهو واحد من الشيوخ الكبار في اذار/مارس الماضي لمجلة «باري ما تش» الفرنسية «يجب ان نكف عن تصفية حساباتنا مع الماضي وينبغي طي صفحة الملاحقات ودفع التونسيين الذين يملكون الأموال إلى الاستثمار في تونس وان يكونوا مفيدين لها ويجب ان يحصل اتفاق بينهم وبين الدولة لجلب أموالهم واستثمارها داخل البلد». ولانه كان يعني ما يقول فقد قدم في تموز/يوليو الماضي مشروعه المثير للجدل للمصالحة المالية والاقتصادية. وظل الشباب في المقابل ساكنا على حاله لا يفكر بشيء آخر سوى الهروب إلى المجهول والموت أما على تخوم الجنة الأوروبية أو في محارق الشرق. ولكنهم الآن والآن فقط ظهروا في الشوارع التي ظلت خامدة بلا روح وفقدت بريقها وثوريتها مع إستعادة منطق هيبة الدولة لأنفاسه واكتساحه الرهيب والواسع للساحات والميادين تحت دواعي الحفاظ على الأمن وصد الإرهاب. هل كانت عودة متأخرة لوعي مفقود أم مناورة من الكبار لجر الصغار إلى معركة من معارك السلطة التي لا تنتهي؟
من حضر في اليوم الموالي لمظاهرة الشباب قد يعرف بشكل ما جوابا على ذلك السؤال المبهم والمعلق فلم يسلم كهول وشيوخ خرجوا في احتجاجات قادها الفلاحون في يوم غضبهم على السلطة من لعنة الهراوات وبطشها. وكان مثيرا للانتباه ظهور شيخ سبعيني على الأرجح على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة وهو يصيح «لقد ضربوني وأنا في هذه السن… سوف أحمل زوجتي معي وأترك البلد. لم يعد لي مكان هنا بعد سافر ابنائي الثلاثة إلى ايطاليا…». وما لم يعرفه السبعيني رغم طول تجاربه في الحياة هو ان الهراوة لا تفرق أبدا بين الشاب والشيخ والجاهل والمتعلم لانهم يستوون وفقا لمنطقها في مخالفة القوانين وخرق الطوارئ. ولكن الغريب في المقابل هو ان الديمقراطية التي تطلع إليها الصغير والكبير لم تمنح الأمل والسعادة والهدوء لأي أحد منهم بل صارت بلاء وعبئا ثقيلا على أكتاف الناس. كل ما أدركه الشيوخ في السابق هو ضرب الهراوات متى تمردوا على الحاكم أو خرجوا عن طوعه وإرادته أو ضرب الدفوف والطبول تملقا وخوفا من جبروته، أما الشباب فلم يعرفوا بعد ما حملته لهم ديمقراطية لم تجلب معها لا رغيفا ولا مورد عيش ولا حققت حلما واحدا من أحلامهم حتى الساذجة والبسيطة. هل كان العيب في الديمقراطية أم في عدم الجهوزية والاستعداد لها؟ لقد اخطأ شيوخ تونس مرتين، الأولى حين صادروا حريات التونسيين وضمائرهم زمن الاستبداد، والثانية لما رجعوا من بوابات الديمقراطية الوليدة لمصادرة حاضرهم ومستقبلهم معا. والنتيجة كانت انهم لم يتركوا مجالا لغيرهم في الماضي وليسوا مستعدين ولا راغبين الآن بترك مواقعهم والتزحزح عنها ولو قيد انملة للأجيال الجديدة. أما ما يحميهم ويحفظ بقائهم كديناصورات فلتت من الانقراض فهي مجموعات اللصوص التي نهبت البلد واستمرت في خرابه والتي خرج الشباب ليقولوا لها باندفاع وحماس… «لا لن نسامح». تلك الصرخات متى خرجت من قمقمها وصارت أقوى وأشد أدرك التونسيون ان سر شقائهم لم يكن أبدا وجود ديمقراطية لم يكونوا جديرين بها بل فقدان وغياب ديمقراطيين حقيقيين بينهم حتى يمنحوهم فرصة اكتشافها وتعلم مهاراتها قبل التفكير في جني مكاسبها وثمارها الصعبة والنفيسة في أسرع الأوقات وأقربها.

٭ كاتب وصحافي من تونس

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    دمقرطة أي مجتمع لا تسعد عصابات المال العالمية المتمكنة من مال العالم بالفساد وما زيارة ” لاجارد” إلا للإطمئنان على الحالة الصحية لقانون المصالحة. النهضة فهمت اللعبة وسمح لها بهامش تعقبه موافقة دون شروط. المشاكسون يريدون لعب بطولة قصد كسب ” شعبية ” خارج إطار اللعبة. المصالحة هي لا محالة واقعة لأن واقع إقتصاد العالم يتطلب ذلك ولأن الصهيونية العالمية قد نفذت مخططه واالفساد لا يستثنى منه بلد في العالم وإلا وفي حال الرفض فإن هذا البلد يعتبر نشازا وهو ما لا يمكن القبول به لدى من يهمهم الأمر. فعاش من عرف قدره.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    هل توجد فقرة بقانون الطوارئ الذي أقرة البرلمان تمنع التظاهر :

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول أبو أشرف ـ تونس:

    يقول المثل :لاتسأل عن المرء وسل عن قرينه***إن القرين بالمقارن يقتدي.
    من على رأس الدولة الآن ؟،ما هو تاريخه ؟ألم يكن أحد أعمدة وأساطين نظامي بورقيبة وبن علي؟.لذلك فالشيء من مأ تاه لايستغرب.وعلى الشعب أن يتمسك بقول الشاعر:
    وللحرية الحمراء با بــــــــــــــــ ******بكل يد مضرجة يــــــــــــــدق.

  4. يقول منجي المازني تونس:

    لا بدّ للقارئ أن يعرف أنّ الجبهة الشعبية اليسارية التي تقود وتتزعّم هذه المظاهرات ضد قانون المصالحة وتجيّش الشباب، الذي لم يعش سنوات الاستبداد ولم يستوعب بعد فنون السياسة، لا تقود هذه المظاهرات والاحتجاجات من أجل الشعب ومن أجل الشباب الضائع وإنّما تقود هذه الاحتجاجات لأجل إخراج النهضة من الائتلاف الحكومي وإعادة التموقع وافتكاك موقع متقدم في السلطة. والمصيبة لا تتمثّل في الضرب الذي سلّط على هذا الشباب وإنّما في استغفاله من طرف بعض السياسيين الأنانيين الذين جرّوه لمعارك تكتيكية لصالحهم وليس لتمكينه من الحصول على مكاسب لنفسه.
    فهل يعقل أن يتحالف الجبهويون مع حزب النّداء ومع الثورة المضادّة ضدّ الثورة ويأكلون الروز بالفاكية من أيدي من يطالبون اليوم بمحاكمتهم ومحاسبتهم ثمّ ينقلبون عليهم بين عشية وضحاها إنقلابا بمقياس 180 درجة. إنّ هذه الاحتجاجات الاستعراضية لا تعدو أن تكون مسرحية مكشوفة ومفضوحة في نفس الوقت. تصوّروا أحد رموز الجبهة يهدّد بالدخول في مواجهة مع السلطة وهو بصدد مضغ علكة (“يمضغ في الشكلي”).
    إذا أراد الشباب أن يحارب الاستبداد فيجب عليه :
    أولا : أن يصبر لأن الاستبداد لا يقتلع في يوم أو يومين أو بمظاهرة أو مظاهرتين بل يلزمه سنوات وسنوات.
    ثانيا : أن ينخرط في العمل السياسي الفعلي ويقوم بعدّة تربصات في السياسة وفنونها لكي يصبح رقما صعبا يصعب تجاوزه ولكي لا تنطلي عليه ألاعيب السياسيين ولكي يصبح له كلمة في توجيه السياسيين ودفعهم مغرمين إلى النّضال من أجل كل المواطنين وكل المستضعفين بدون تمييز

إشترك في قائمتنا البريدية