الأشياء التي نستعجل في قولها عادة ما تكون أقل أهمية فيما ندخره للزمن. وقد تكون أيضا الأشواك التي تغطي درب مسيرتنا. أمّا انتزاعها فيصبح مهمة صعبة لتصحيح الطريق التي تؤدي إلى أهدافنا الواضحة والحقيقية.
إلى أي مدى هذا المعطى صح؟ لا أدري في الحقيقة. فالملائكة تنطق على شفاه الأطفال كما تقول جداتنا، ولا شيء صح أو خطأ في المطلق.
هل كنت في حاجة لتقديم «انستغرامياتي» من الكاتب الكبير واسيني الأعرج ؟ سؤال طرحه عليّ كثيرون، لأني بدأت مسيرتي دون أن يقدمني أحد، دون أن يتبناني أحد، رسمت طريقي بهدوء «الفراشات» ثم جاء هذا الكتاب الصاخب ليأخذني إلى مسالك أخرى لم أتوقعها أبدا في حياتي. لم أستعجل أبدا في انتزاع مقدمة أو مباركة أحد لأنطلق بخلفيته، وأبقى ظلا له مدى حياتي، فضلت أن أتحمّل مسؤولية بداياتي لوحدي، لا أحسب على أحد ولا أحد يحسب عليّ. والآن وسط الثقافة الإلكترونية المرعبة تساءلت أين يمكن أن نضع الكتاب؟ أصبح تويتر يختصر كل القنوات الإخبارية في العالم. يوصل إلينا الخبر من قلب الحدث ساعة حدوثه. كاسرا عنجهية التوجهات السياسية بتطرفها واعتدالها. أصبح فيسبوك النافذة التي تطل على كل شخصية نرغب في فتح حوار معها، لا شيء أبقى على بعض دهشته، فالجميع يمارس الثرثرة باللغة التي تكشف أعماقه.
انستغرام تجاوزهما معا، كل شيء يصلك بالصوت والصورة جاهزا. كل شخص منح البطولة لنفسه وأنتج وصور كما تمنى وصنع نجوميته. بعض النجوم في عالم الدراما يحاربون ليبلغوا نجومية مراهقين يصنعون الحدث بسرد يومياتهم. عالم الإنترت صفعة كبيرة للكبار، ولمحتكري الميديا، لكن هل يعني ذلك أننا يجب أن نصمت؟ ونترك الساحة لعفاريت الإنترنت؟ وقد فكرت أنه آن الأوان لنسجل حضورنا وسط هذا الصخب. لا لمزيد من النجومية، إذ أعتقد أني أحظى بالكثير منها، بل للمضي في مشروعنا الثقافي بما يناسب العصر. فكرت أن هذا الجيل المراهق عليه أن يعرف أن العالم لا يكون جميلا بخواء ابتساماته، إذ يجب أن يزينها الشعر ويملأ محتواها الأدب. ولأنه جيل يعشق صور الأثرياء والمشاهير وصرعات الملابس والعطور وقصات الشعر، دخلت إليهم من هذا الباب.
في الطائرة آخذ صورة لكتاب أقرأه وأتقاسم أجمل ما فيه على صفحتي انستغرام. إحدى قارئاتي من الخليج كتبت لي: «لم أعرف أن متعة القراءة في الطائرة لا تضاهيها متعة إلا حين أردت تقليدك فأصبت بالعدوى منك، ثم تورطت، فأصبح رفيقي الدائم كتاب من اختيارك». هل تشعرون بمدى سعادتي وأنا أقرأ هذه الرسالة؟
أمام المتاحف التي أزورها في عواصم العالم آخذ الصورة واستحضر بيتا شعريا أو عبارة لأديب من تلك المدينة وأرفقها بالصورة. فتكتب لي سارة من الكويت: «أرجوك أخبريني كيف تعرفين كل هذه المتاحف» فكتبت لها: «إن واجهات المدن فنانوها وشعراؤها وكتابها» وتلك كانت بداية لحياة مختلفة لها. اقتحمت عالم الإنستغرام وأنا أعرف سلفا أنه ليس فضاء للكتاب والشعر والرواية والمسرح، إنه فضاء للنجوم وأشباه النجوم سواء. لكنني راهنت على ألاّ أفقد الأمل، فقدمت مقتطفات من قراءاتي، وومضات من شعري وأشعار غيري، ثم دخلت مرحلة جادة حين كنت دلفت إلى عوالم كتاب معينين على مدى شهرين أو أكثر مثلما فعلت مع الكاتب إبراهيم نصر الله، وواسيني الأعرج وآخرين، وكنت أقف عند مقولاتهم الحساسة المبهرة وأتقاسمها مع متابعيّ.
واليوم حين يكتب لي واسيني الأعرج كلمة على غلاف كتابي «انستغرامياتي» فليترك بصمة صديق عزيز عليّ بدأت صداقتي به منذ قرأت أول كتاب له وأنا بعد طالبة في الجامعة إلى أن قدمته لجمهوري كقامة من قامات الأدب الجزائري. كلمته لا تعني أبدا أنه يبرر مغامرتي الإنستغرامية، بل إنه شريك فيها، ومشجع على الخوض فيها، لحماية الكتاب من الانقراض في أمة تتهم دوما أنها ليست قارئة.
أما لماذا واسيني؟ فلأنني رأيت فيه ما يشبهني من حبه للأدب وانشغاله بالكتابة حد نسيان نفسه. وأنا في المستشفى على سرير المرض المفاجئ أدركت تجربة الرجل حين دخل في غيبوبة الموت وعاد لينهي مشروعه الروائي. أي كاتب يتمنى تأجيل الموت لا ليعيش أكثر وينعم بالحياة بل لإتمام نصه؟ إن لم يكن واسيني الأعرج بكل حسناته وسيئاته. لقد أحب الكتابة أكثر من أي شيء في الدنيا، وإن كان بعض مقربيه أسروا إليّ أن هذه الكفة اهتزت لأنه أصبح مغروما بحفيدته علياء أكثر من هوس الكتابة.
أما «العصفورة» فقد كتبت لي ذات يوم: «هذا الأندلسي الجميل الشامخ، رجل خطير، لأنه يتقن فنون الكلمة، وهذا ما يجعل منه كزانوفا الرواية العربية» هذا الكلام قالته لي منذ أكثر من عشر سنوات، وها هي روايته الجديدة «نساء كزانوفا» تخرج للحياة وكأنّها دليل على تلك النبوءة.
المسرحي سعد الله ونوس مات وقد دمرته علاجات الكيموثيرابي والقلم في يده، وهو الذي كتب الهزائم العربية بقلم مهادن، يحضرني أيضا، أحببته رغم سوداويته. وأحببت الماغوط وممدوح عدوان وخيري الذهبي وآخرين ولكنهم جميعا انغمسوا في مستنقعات البؤس الاجتماعي الذي صنعته مجتمعاتنا لأسباب كثيرة.
الأعرج كتب الحقبة السوداء في الجزائر ولكنه كتب دوما بأمل. ثمة شيء لم أجده عند كاتب آخر وهو تصويره للمرأة القوية المليئة بالأمل. وأشكر صديقاتي الجزائريات لتواطئهن مع كاتب بلادهن فقدمنه لي على أنه نصير النساء. وليس صدفة أن تنظم لفريق إعدادي الصديقة فتيحة التي تحشر الجزائر في كل حديث نفتحه، وقد استغربت في البداية إلى أن أدركت أنها الصفة المشتركة بين كل الجزائريين، سواء أحبوا بعضهم أو كرهوا بعضهم.
ترك لي واسيني الأعرج إذن كلمة أعتز بها، وقناعة من قناعاته فقد أثبت في حياته أنه لا يجامل المرأة في أدبه، ويقمعها في الكواليس كما يفعل الأكثرية، فهو الكاتب الذي يفخر بشاعرته وزوجته زينب الأعوج التي بدأت معه مشوار حياتهما ولا تزال رفيقته. وكثيرا ما افتخر بابنته ريم التي منحها حرية لا نهاية لها وظل يرعى مواهبها حتى سلكت طريقها نحو السينما، والآن لا نعرف ماذا ستفعل به علياء وماذا سيقدم لها؟ إنه رجل افتخر بوضع كلمته على كتابي، وأن نتعاون معا لجعل الأدب في الواجهة، ليس فقط على انستغرام بل على أي تقنية جديدة تخاطب الأجيال الجديدة. وإن قلت هذا الكلام فليس دفاعا عن تهمة أو انتقاد وجه إليّ، بل اعترافا بمسيرة كاتب كبير، قدم الكثير للأدب ولبلاده وللغة العربية، ولعشاق الرواية وللنساء اللواتي فقدن الأمل في مجتمعنا الرازح تحت أثقال الظلم.
شكرا واسيني الأعرج صديقا وروائيا وراعيا حقيقيا لأدب التغيير نحو الأحسن.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
بروين الجميلة، أذكر متعتي ودهشتي حين شاهدت لقائك التلفزيوني مع واسيني الأعرج، كيف قدمته، وكيف تحدثت عنه كأديب وروائي، وكيف جاءت أسئلتك له جميلة وعميقة.
وهو ككل لقاءاتك وحواراتك مع الأدباء والمفكرين، ليس سطحيا وعابرا ومكرور الأسئلة كمعظم الحوارات التي نراها في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة.
أتابع مقالاتك هنا دوما بشغف، وكمثال يشرف كل امرأة عربية. وأتمنى لك مزيدا من الإبداع والألق.
منى حسن
شاعرة وكاتبة سودانية
good idea and all the best