أرأيتم كيف قدّم زوج عمته حيا وعاريا لمئة وستين كلبا شرسا وجائعا فالتهمته في خمس ساعات على مرأى ومسمع من أكثر من أربعمئة شخص من كبار المسؤولين في الدولة؟
وكيف أجبر عمته في الشهور التي تلت مقتل بعلها على أن تشرب زجاجة من السم أمامه بعد اتهامها بالخيانة لشكواها المستمرة وضجرها من الطريقة التي أعدم بها زوجها، الذي كان حتى عهد قريب الرجل الثاني في النظام؟ وهل سمعتم بما فعله بمغنية كانت واحدة من عشيقاته لما استبد به الغضب من تصرفاتها فأعدمها بتعلة أنها صورت أفلاما إباحية؟ وهل لا زلتم تذكرون كيف جلب وزير دفاعه إلى ساحة عامة وضربه بنيران مدفع مضاد للطائرات لأنه غفا بعض الثواني في عرض عسكري؟ أو كيف رمى نائب قائد جيشه بقذيفة صاروخ «آر بي جي» لأنه خرق بروتوكولا يقضي بحظر شرب الخمر في فترة الحداد على وفاة والده؟ بحماسة واندهاش يردد بعض الشباب وحتى الكهول في تونس صولات المارد الأصفر القصير وجولاته، ويصورونه على أنه غول أسطوري بمجرد أن يذكر اسمه حتى يدب الرعب والفزع في النفوس.
لكن ولسوء حظهم فلا احد منهم يملك حتى الآن صورا أو فيديوهات توثق أيا من تلك الروايات المرعبة والفظيعة التي يكاد لا يصدقها عقل. فكل ما يعرفونه عن ذلك الوحش البشري الخارق هو ما جاد به عليهم «يوتيوب» من أفلام وثائقية سطحية ودعائية في الغالب لا تظهر شيئا كبيرا مما يجري بالفعل في بلده المعزول. إنها مجرد سرديات تتشابه إلى حد كبير مع سرديات عصور هولاكو ونيرون رغم الفارق الزمني الشاسع بين الاثنين. وما يثلج الصدور العربية قليلا هنا هو أنها لم تنسب بعد لعربي أو مسلم، ولم تدع الجهة التي قامت بنشرها أو وكالات الأنباء العالمية التي روجت لها أن مرتكبها هو شاب أصولي متطرف ينتمي لتلك الجماعات والتنظيمات التي اعتاد الناس على سماع اسمائها في نشرات الاخبار اكثر من مرة في اليوم الواحد. والسبب هو أن المتهم الذي لم تقدم حجة أو دليل على إدانته بشكل قطعي، وواضح هو هذه المرة رئيس دولة غامضة ومعزولة في أطراف آسيا تسمى كوريا الشمالية، وتقاد منذ ستين عاما بيد من حديد بسلالة واحدة وحزب واحد وشخص واحد هو كيم جونغ أون. أما من يعادون نظامها ويهاجمونه بين الحين والآخر، وهم بالاساس غرماؤه في الشطر الجنوبي من كوريا وحلفائهم في الغرب فيكتفون منذ سنوات طويلة بشن حرب نفسية وإعلامية ضده، بدون المرور إلى محاولة ضربه وتغييره من الخارج مثلما حصل ويحصل في معظم الدول العربية.
وبالطبع فإن عدة اعتبارات سياسية واستراتيجية تجعلهم يختارون ذلك الأسلوب الهادئ والناعم ولا يستنفرون قواهم ويحشدون أساطيلهم ويعقدون أحلافا عسكرية، مأخوذين بدوافع انسانية لانقاذ الكوريين الشماليين من جور الديكتاتورية وفظاعاتها، ونجدة الديمقراطية والدفاع عنها، كما فعلوا في العراق وسوريا وأكثر من موضع آخر. وهو ما يعطي الدليل القطعي لمن كان في قلبه مقدار ذرة من الشك على أن تدخلاتهم لا تتم بعيدا عن منطق الحسابات والمصالح والتوازنات الدولية قبل وبعد أي شيء اخر. لكن ما يهمنا في النموذج الكوري الشمالي وباقي النماذج الشبيهة له هو قابلية الدول التي بدأت حديثا تجارب انتقال ديمقراطي على الارتداد السريع عنها والوصول في وقت ما إلى استنساخ بعض أو كل تلك النماذج التسلطية، ربما يأسا وقنوطا من ديمقراطية مهزوزة ليس فيها أمن ولا استقرار أو حتى ولع وانجذاب إلى الحزم والصرامة والقبضة الحديدية للمستبدين الذين يشهرون العصا الغليظة في وجوه شعوبهم، ثم يقدمون لهم بعد ذلك رغيف الخبز المر على طبق المذلة والطاعة.
إن ما يلفت الانتباه هو أن ينساق قسم واسع من الناس في بلد مثل تونس، ظل يوصف على أنه الشمعة الوحيدة التي بقيت مضيئة وسط العتمة التي اصابت ما كان معروفا بالربيع العربي، إلى الاهتمام الزائد وحتى الانبهار والإعجاب في بعض الاحيان بقصص ومغامرات ديكتاتور في أقصى الشرق لا يعرفون عنه وعن شعبه أو بلده سوى النزر القليل من المعلومات والأخبار المنقولة عن مصدر واحد، ولا يربطهم به أو بنظامه أي شيء، ويغفلون في المقابل جهلا أو سهوا عن تجارب تحررية عالمية جمعت بين الكفاح من أجل التحرر الوطني وتحقيق القفزة الاقتصادية المنشودة، تحت مبرر انهم لا يرغبون باستنساخ تجارب الغير، وليست لهم حاجة لرموز من الخارج يقتدون بسيرها ويستلهمون منها للوصول إلى اهدافهم؟ هل يمكن أن يكون ذلك مؤشرا خطيرا يدل على انه بالامكان أن يحصل الانتقال وبسهولة من النقيض إلى النقيض؟ وأن يتم التخلي بسرعة وبساطة بعد مسيرة سنوات قليلة عن الانفتاح والحريات والسقوط في انغلاق واستبداد أقوى وأشد من الذي عرفته تونس في السابق؟ قد تبدو مثل تلك التساؤلات بلا معنى أو مجرد خيالات واوهام أمام التأكيدات الرسمية التي تتالى كل مرة للتذكير بانه لا سبيل ابدا للرجوع إلى الوراء، بعد كل الخطوات السياسية المهمة التي قطعت لطي الصفحة والاقتراب من نادي الديمقراطية الغربية. ولكن المشكل هو أن المناعة الذاتية والقدرة على الثبات والصمود وعدم الانجرار إلى الخلف تظل إلى الان محدودة وضعيفة بالقياس إلى عدة اعتبارات. فما يتصوره معظم التونسيين هو انهم باتوا يدورون بالفعل وسط حلقة مفرغة من المشاكل والازمات التي لا تنتهي، وأن الكرنفال الديمقراطي الذي يعيشونه هو أشبه بحفلة صاخبة ومجنونة تسبق هبوب عاصفة مدمرة وقوية يرونها قريبة على الابواب.
وما يعزز لديهم تلك المخاوف ويقويها هو انهم يلحظون بانفسهم حالة الفراغ والفوضى والغموض التي تجعلهم يدركون انهم يقفون على ارض متحركة لا يعرفون متى وأين ستستقر بهم. كما انهم لا يفهمون ايضا إن كانت الديمقراطية التي حطت عليهم بدون سابق إشعار أو استعداد سوف تقودهم إلى حتفهم وستجعلهم مثل ريشة في مهب الريح لا يقدرون على تقرير مصيرهم بانفسهم وبمعزل عن الارادات الخارجية. انهم يتساءلون بينهم وبين انفسهم عما كسبوه من تلك الديمقراطية بعد أن تفاقم الفساد والخراب وبات البلد على شفا الافلاس؟ وهل أن صبرهم وقتا اطول على الاستبداد كان اجدى من خوض مغامرة مجهولة العواقب؟ وليس معروفا إن كانوا سيقدمون جوابا مطابقا لما قاله رئيسهم السابق الدكتور المنصف المرزوقي حين سألته مجلة «لوبوان» الفرنسية في مقابلة نشرتها في الرابع من الشهر الجاري عن رأيه فيما يقال من أن الديمقراطية جلبت أحزانا وآلاما اكثر من منافع فرد بأنه «يفضل أن يكون مواطنا تعيسا على أن يكون تابعا سعيدا». فهم يرون المرزوقي شخصا حالما ومثاليا لا هم له سوى التعلق بقشة الديمقراطية للوصول إلى الحكم، فيما لا يبدي معظمهم أي إحساس أو جاذبية نحوها ماداموا لا يتصورون انها تغير شيئا من واقعهم أو تكفل لهم عدلا وانصافا ومساواة صارت تبعد عنهم يوما بعد آخر، وما دام هو وغيره من الديمقراطيين لم يستطيعوا أن يفرضوا حدا أدنى من الأمن والاستقرار في البلد خلال الفترة القصيرة التي وصلوا فيها للحكم وأن يثبتوا أن للديمقراطية مخالب وانيابا تستطيع أن تدافع بها عن نفسها أمام الفوضى والتخريب. وقد يكون هنا مربط الفرس وسر الانجذاب الواضح في تونس إلى المستبدين بدءا بزعيم كوريا ووصولا إلى حاكم دمشق وجنرال مصر. فما يجعلهم يبدون بنظر الكثيرين رجال دولة لا سفاحين وقتلة هو انهم يجيدون تسويق انفسهم والدعاية الجيدة لنظامهم ويعرفون كيف يبيعون الوهم لشعوبهم، فيما تعجز الديمقراطية حتى الان عن فعل ذلك.هم يجدون مساحة شاغرة عجزت الديمقراطية عن ملئها حتى الان، وربما لو طردتهم شعوبهم يوما فسيجدون من يستقبلهم في تونس كمضطهدين وضحايا للمؤامرات الكونية. ولا يبدو أن الحل سيكون في منع الاعجاب بالمستبدين أو تمجيد الاستبداد بقدرما سيكون في اظهار الفرق بينه وبين ديمقراطية تقدر بالفعل على فرض العدل والانصاف. وساعتها فقط سوف يحسن الشباب والكهول قراءة ما وراء سطور القصص الدموية المريعة لرئيس كوريا الشمالية ولباقي نظرائه المستبدين في المشرق والمغرب، الذين قد لا يختلفون عنه كثيرا رغم كل ضغوط الجغرافيا وتأثيراتها.
كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
الحكم يستوجب ولو قليلا من الإستبداد. فلقد استبدت النهضة إلى حد ما وتعسفت على الشعب بتمرير ما شاءت لمصلحتها دون شك في ذلك رغم أنها حافظت على السلم كي لا تنجر البلاد على غرار بلدان أخرى. بحقوقي سامتت النهضة الشعب واستدرجته إلى الصندوق لينتخبها في الأولى والثانية. أما النداء فقد تعسف على بقايا النظام القديم من قواعد رأت فيه الحل حيث صعد على تلك القواعد فتنكر لها وبذلك حقق التعسف على من كانوا سلما لصعوده فقد نقمت عليه بعد أن أدار النداء ظهره لها وهو اليوم من دون قواعد حيث تحولت لأن تدعم الحزب الدستوري الحر. وهكذا دواليك ليتغير من يعتلي سدة الحكم. والتوانسة كلما تغير باي، ملك، قالوا الله يُنصر من صُبح.
هناك وجه الشبه واضحة بين كوريا الشمالية التي تفرض على الشعب التعلق المبالغ فيه بالشيوعية و الكره الشديد بالرأسمالية و بين تونس التي تعود شعبها خلال نصف قرن على التعلق الشديد بالفاسقين و الظلمة و كره الشديد للاسلاميين كرها لا مبرر له… عاد النظام السابق رغم فسقه و فجوره الى الحكم و تلك غلطة الشعب التونسي يستحق الويل و العذاب على سوء اختياره.. وسيعيد نفس الغلطة لا حبا في النظام القائم و لكن كرها في الاسلاميين وهو ما يعبر عنه بالانتخاب المفيد..فالايديولوجيا تعمل عملها الخبيث في تونس و كوريا..