لن يقضى على تنظيم «الدولة» بدون التزام أمريكي طويل الأمد… واستمرار بغداد ودمشق في سياستهما ضد السنة يعني عودة التنظيم في نسخته الثالثة

حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: بات واضحاً للعيان الثمن الذي دفعته مدينة الموصل بسبب الحملة لاستعادتها من سيطرة تنظيم «الدولة» (داعش). فكل ما بقي منها وبعد ثمانية أشهر من الحرب المتواصلة «أرض يباب». وبدا الدمار في أشد حالاته على المدينة القديمة التي قصفت من الجو ومن المفخخات على الأرض.
وسجلت الصور التي التقطت من الفضاء آثار المعركة على المدينة التي كان يعيش فيها أكثر من مليون نسمة قبل وصول جهاديي تنظيم «الدولة» وإعلان أبو بكر البغدادي عن الخلافة من منبر مسجد النوري الذي تحول إلى حطام.
ولأن المدينة القديمة كانت مزدحمة بالسكان وبيوتها ملتصقة فقد جعل من مهمة مطاردة مقاتلي التنظيم بشعة لحد بعيد. وعندما ينظر لها من الجو تبدو البيوت وقد تداخلت فيما بينها. واستخدم برنامج الأمم المتحدة «يو أن- هابيتات» (الموطن) صوراً فضائية وأحصى حوالي 5.000 من بيوت المدينة التي دمرت بشكل كامل، وهذا هو ثلث بيوتها مع أن الإحصاء استبعد البيوت التي تضررت بشكل بسيط. وفي باقي الموصل فقد دمرت الحرب 8.500 بيت. ولا تزيد مساحة المدينة القديمة عن ميل مربع واحد وهي جزء بسيط من مساحة الموصل الكبرى. وعندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن بداية الحملة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) قال إنها ستنتهي مع حلول عيد الميلاد المسيحي إلا أن الجزء الشرقي انتهى في كانون الثاني (يناير) وتكبد فيها الجيش العراقي خسائر فادحة. وعندها قال العسكريون الأمريكيون والبريطانيون وغيرهم من المستشارين الغربيين إن المعركة على الجزء الغربي ستكون أصعب، فهو أكبر وأكثر كثافة سكانية وبيوته ملتصقة. وبدأت الحملة الجوية لاستعادته في شهر شباط (فبراير) وزادت المقاومة من مقاتلي تنظيم «الدولة» بعدما تراجعوا إلى المدينة القديمة. وذكر تقرير لمنظمة «أمنستي» إنترناشونال في الأسبوع الماضي أن مقاتليه قاموا بفتح ثغرات في البيوت للتحرك من بيت لآخر واتخذوا مواقع للقنص من على سطوح المنازل وهددوا المدنيين الذين حاولوا الهرب بالموت. وبحسب «إيروورز» الجماعة التي تقوم برصد الحرب فإن عدد القتلى المدنيين في الجزء الغربي سيصل إلى 5.900 مدني.
ويشعر الكثيرون من أهل الموصل بالغضب لأن التركيز كان على تدمير المدينة القديمة أكثر مما تعرضت له مناطق أخرى في الموصل التي تعافت سريعاً. وبحسب رشا العقيدي، المحللة السياسية من الموصل التي نقلت عنها صحيفة «التايمز» فالمشهد في مدينة الموصل القديمة «معقد جداً» مشيرة إلى أن النقد الذي وجهته منظمة «امنستي» في تقريرها منطقي، خاصة مقتل 100 مدني كانوا يختبئون حيث قصف مكانهم من أجل قتل قناصين من قناصة تنظيم «الدولة». ولا يزال سكان الموصل أو من بقي منهم يحاولون فهم ما جرى لهم ولبلدهم. ففي تقرير نشره موقع «بازفيد» قبل أيام وأعده بورزو دراجي نقل فيه عن زياد سالم الذين كان يعمل حارساً في وزارة النفط وكيف خسر بيته ومدينته وبلده «وعدنا تنظيم الدولة بخلافة تمتد من بغداد إلى الفلبين» و»عوضاً عن ذلك خسرت كل شيء. وفوق كل هذا خسرت مدينتي وبلدي». وعندما أعلن العبادي عن نهاية العملية العسكرية قال إن التركيز سيكون على إعادة إعمار المدينة ولكن لم يقل متى سيبدأ. وهناك مئات الألوف من أبنائها الذين فروا منها ولم يعودوا بعد. ومن بقي منهم فيعيشون بدون ماء أو كهرباء ولا خدمات.
ولا تزال مشاهد العنف تتوالى في المدينة وتتكشف عن مشاهد جديدة ففي تقرير أعده الصحافي باتريك كوكبيرن لصحيفة «إندبندنت» زعم إن قوات الأمن العراقية تقتل أسرى تنظيم «الدولة» لأنهم يعتقدون أنه إذا تم إرسالهم إلى السجون فسيقومون برشوة السلطات في بغداد لإطلاق سراحهم. وقال مصدر عراقي: «هذا هو السبب الذي يجعل الجنود العراقيين يفضلون إطلاق النار عليهم أو إلقاءهم من البنايات العالية».
وقال مسؤول عراقي سابق إنه يستطيع تحديد المبلغ بالضبط الذي يحتاجه المنتمي لتنظيم «الدولة» دفعه ليشتري وثائق تمكنه من التجوال في أنحاء العراق. ويقول إن سبب العثور على جثث في نهر دجلة المشكوك بانتمائهم لتنظيم «الدولة» برصاص في الرأس أو مقيدي الأيدي خلف ظهورهم هو اعتقاد الجنود العراقيين ومقاتلي الميليشيات بأن حكومتهم أكثر فساداً من أن تبقي مقاتلي التنظيم في المعتقلات. ولا ينفي أن يكون وراء عمليات القتل هو حس الانتقام والكراهية التي ولدتها جرائم تنظيم الدولة. وهو ما يدفع الجنود للتصرف خارج إطار القانون الذي تقوم به فرق الموت.

قضاء فاسد

ويبرر كوكبيرن الأمر بأنه مسألة ثقة بالنظام القضائي العراقي الذي أصبح فاسدًا ومختلًا. ويمضي في تبريره نزعة الانتقام لدى الجيش العراقي والحشد الشعبي بالقول إن الشعور بالاضطهاد في نهاية حرب عنيفة «تشرح جزئيًا» لماذا يعتقد الكثير من العراقيين بأن أعضاء تنظيم «الدولة» الخطيرين يمكنهم دائماً استخدام الرشوة للحصول على الحرية. وهناك عشرات المقالات على مواقع التواصل الاجتماعي من بغداد تدعي بأن العديد من المفجرين الانتحاريين كانوا سجناء سابقين لدى القوات الأمنية العراقية وتم إطلاق سراحهم مقابل مبالغ دفعوها. ويقول أحد هذه المنشورات «نموت في بغداد بسبب الفساد»، وتقول إحدى التغريدات على تويتر: «داعش تدفع للحكومة وتقتلنا في بغداد». وقد تكون هناك مبالغة في هذا الكلام لكن لا يعني فقدان التنظيم القدرة على القيام بهجمات رغم ما تكبده من خسائر في الموصل. وقال مسؤول كردي كبير: «تم اكتشاف ما لا يقل عن 17 انتحارياً مؤخراً في جنازة أحد قيادات قبيلة شمر في ربيعة مما يظهر أن التنظيم لا يزال قادراً على تخطيط وتنفيذ العمليات حتى وإن كان أضعف».
كما أن المعارضين لتنظيم «الدولة» من الموصل يوجهون الاتهام نفسه حيث قال سليم محمد وهو من سكان النبي يونس في شرق الموصل: «أعرف رجلين في منطقتي ويعرفان بانتمائهما لداعش وقامت الحكومة بإطلاق سراحهما. كان أحدهما يشارك في دوريات داعش والترصد لمن يدخنون». وأضاف أن الناس خائفون من المشكوك في تعاونهم، الذين تم إطلاق سراحهم حيث يخشون أن يكونوا تابعين «لخلايا نائمة» أو أنه تم تجنيدهم كعيون للحكومة العراقية. ويقول سليم إن سبباً مهماً من أسباب عدم الثقة بين أولئك الذين عارضوا تنظيم «الدولة» دائماً وأولئك الذين انضموا إليه أو تعاونوا معه هو أن الفريق الأخير تمكن من إنشاء تجارة مزدهرة خلال الثلاث سنوات التي قضاها تنظيم «الدولة» في السلطة. وأضاف أن «كثيراً من أولئك المتعاونين كانت لهم متاجر في الأسواق». وكان هناك رجل فقير قبل وصول تنظيم «الدولة» ولكنه تكسب من خلال العمل في حراسة حواجز تنظيم الدولة حيث يضطر الكثيرون لدفع رشوات كبيرة للمرور عبر الحواجز. وتم احتجازه وإطلاق سراحه ثم انتقل هو وعائلته إلى تركيا. ويقول إن معظم قيادات ومقاتلي تنظيم الدولة ينحدرون من القرى السنية الفقيرة في أطراف الموصل. وكان هناك عداء بينهم وبين أهل المدينة الأصليين. «وما يثير الغضب بالذات في الموصل هو أن أفراد العائلات الداعشية الثرية يتم إطلاق سراحهم ليعودوا ويعيشوا في بيوت فارهة بينما لا يزال يعيش الفقراء في مخيمات اللاجئين».
ويقول الكاتب إن الوضع في شرق الموصل أفضل بكثير منه في غربها لأنه كان دائما أكثر ثراء ولم يشهد الدمار نفسه الذي شهده الغرب وخرج من تحت سيطرة تنظيم «الدولة» منذ ستة أشهر. ورغم مزاعم الحكومة العراقية أنها حققت انتصارًا كاملًا على تنظيم «الدولة» في المدينة القديمة إلا أن أصوات إطلاق نار والغارات الجوية تسمع بشكل يومي. ولم يتوقف النزوح الجماعي للناس من المناطق المدمرة عبر نهر دجلة وباتجاه الشرق حيث تتوفر المياه والكهرباء. كما أن نقص السكن في المدينة أدى إلى ارتفاع أسعار التأجير إلى ثلاثة أضعاف المستوى العادي.
ويقول كوكبيرن إن دفع الحكومة لرواتب الموظفين الحكوميين والتي لم تكن تدفع أثناء حكم التنظيم حسن الظروف بعض الشيء، فقد تلقى الموظفون في سلك التعليم والصحة والبلديات رواتبهم وهو ما حفز النشاط في الأسواق. وبدأ الناس بشراء السيارات والبيوت ثانية كما أن هناك طوابير طويلة من الشاحنات التي تأتي بالبضائع من أربيل والمناطق الكردية الأخرى. وتظل عودة الحياة لطبيعتها رهناً للسياسات الحكومية المقبلة وطريقة معاملتها للسكان، ففي حالة استمرت دوامة العنف والعنف المضاد ولم يعد المهجرون لبيوتهم فستظل الظروف سانحة لعودة شكل جديد للتنظيم المهزوم.

سياسة

وفي هذا السياق علق دويل ماكمانوس في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» قائلاً إن تهديد تنظيم «الدولة» لن يختفي بخروجه من مدينة الموصل. وأشار فيه إلى أن سلطة التنظيم الذي حكم أجزاء كبيرة من سوريا والعراق تنهار بشكل متزايد. ولم ينس الإشارة للثمن الذي دفع من أجل طرده من الموصل التي قتل فيها الآلاف وحل عليها الدمار وفي الوقت نفسه يقوم مقاتلون أكراد بدعم من مستشارين أمريكيين بالتقدم نحو الرقة – عاصمة ما تسمى بـ «الدولة الإسـلامية».
وعلق ماكمانوس أن الولايات المتحدة وحلفاءها يحققون انتصارات في معارك كبيرة ولكنهم يواجهون احتمالات كبيرة لخسارتها. وقال إن سقوط الموصل والرقة لن يحل المشكلة التي أدت أصلاً لصعود تنظيم «الدولة» وهو إساءة حكومتي بغداد ودمشق حكم مناطق السنة. بل ولن تنهي المكاسب العسكرية مخاطر «الدولة الإسلامية» على الغرب. وبدلاً من ذلك فسيؤدي خروج التنظيم لترك فراغ، ولو تعلمنا شيئاً من ماضي الشرق الأوسط فإن هذا الفراغ هو الذي يؤدي لتدهور الأوضاع. وعلى المدى القصير لا يزال التنظيم يسيطر على مساحات لا بأس بها من العراق وسوريا وهو ما اضطر قادته للانتقال إلى دير الزور في شرقي سوريا. في وقت تتضارب فيه الانباء حول مصير زعيمه البغدادي.
ويرى ماكمانوس أن التنظيم الجهادي أضعف ولكنه لم يدمر»وهناك قتال صعب ينتظر الأمريكيين وحلفاءهم كما يقول قائد قوات التحالف الجنرال ستيفن تاونسند. ولم يكن تنظيم الدولة «خلافة» لكنه بدأ كحركة تمرد سرية وكجزء من تنظيم القاعدة في العراق. وكاد الأمريكيون والعراقيون يدمرونه قبل أن ينتقل إلى سوريا حيث نما وتشكل من جديد. وكان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه هو إعلان الدولة في منطقة صحراوية عرضة للغارات الأمريكية. وهو الآن يتجه نحو شكل جديد يطلق عليه خبراء الإرهاب «الدولة الإسلامية رقم 3». فقد عاد معظم مقاتليه إلى أصولهم الأولى وهي العمل من داخل خلايا سرية ومتحركة. وهم يقومون بعمليات صغيرة في العراق وسوريا ولا يزالون يحتفظون بالقدرة على شن هجمات ضد أوروبا.
ويعرف الكثير من رموز إدارة دونالد ترامب هذا التاريخ بشكل جيد خاصة جيمس ماتيس وأتش أر ماكمستر اللذين قادا الجنود الأمريكيين في العراق. وقال ماتيس قبل فترة «شاهدنا نتائج ترك مناطق لا تخضع لسيطرة الحكومة» فليس الأمر هو كالقول «سأستسلم». وقدم ماتيس ومساعدوه خطة يتم من خلالها ملء الفراغ في المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم «الدولة». وتؤكد على أهمية بقاء القوات الأمريكية.

وجود دائم

وفي شهادة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد أمام الكونغرس أنه يتوقع بقاء المستشارين الأمريكيين في العراق «لسنوات مقبلة». وفي التطبيق تعتمد الولايات المتحدة على حيدر العبادي لتحقيق المصالحة بين السنة والشيعة. ولم تتحقق هذه لأن العبادي الذي يلقى معارضة من نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق الموالي لإيران والذي أدت سياساته الطائفية لظهور تنظيم «الدولة».
وتبدو المشكلة في سوريا أكثر تعقيدا حيث تخطط الولايات المتحدة لإنشاء مجالس محلية تدير المناطق التي يطرد منها التنظيم. وتواجه هذه الخطة منافساً آخر وهي حكومة الرئيس السوري بشار الأسد التي تدعمها روسيا. وبحسب تشارلس ليستر من معهد الشرق الأوسط «السيناريو الأكثر احتمالاً هو قيام نظام الأسد بإعادة تأكيد تأثيره بمساعدة من الروس والإيرانيين» بشكل سيقود إلى جولة جديدة من العنف والقمع. وهناك تحديات أخرى تتعلق بإعادة الاعمار وتنمية الاقتصاد. وتريد أمريكا من الدول العربية الثرية بما فيها السعودية تحمل العبء الأكبر، إلا أن هذه الدول لم تتقدم بعد. وبحسب ريتشارد كلارك، المستشار السابق في شؤون مكافحة الإرهاب أثناء إدارة كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش: «لا توجد أموال حقيقية للإعمار سواء من الولايات المتحدة أو الحلفاء الأثرياء في المنطقة». وسيؤدي غياب التنمية وإعادة الإعمار لخلق الجهود المثالية لعودة تنظيم الدولة أو جماعة أخرى متشددة «وكأننا خلقنا أرضية لتفريخ الإرهاب».
ويشير الكاتب إلى أن ترامب قال في أثناء الحملة الانتخابية ان لديه خطة سرية لهزيمة تنظيم «الدولة» «بسرعة كبيرة» وبدلاً من ذلك استمع ترامب لماتيس وصادق على خطة معدلة ورثها من باراك اوباما وتقوم على توسيع التورط الأمريكي في العراق وسوريا. وحتى ينجح فعليه مواصلة العمليات العسكرية. ويضيف إليه بعداً من الاقتصاد والإعمار ولن يكون هذا أمراً سهلاً لرئيس اقترح تخفيض النفقات المخصصة للدبلوماسية بنسبة 30%. وربما منح سقوط الرقة الرئيس فرصة لإعلان النصر ونهاية الحرب على تنظيم «الدولة»، ولكن مكافحة الإرهاب لا تعمل بهذه الطريقة. فالطريقة الوحيدة لإنهاء تهديد تنظيم «الدولة» هو البقاء ولمدة أطول في المعركة.

لن يقضى على تنظيم «الدولة» بدون التزام أمريكي طويل الأمد… واستمرار بغداد ودمشق في سياستهما ضد السنة يعني عودة التنظيم في نسخته الثالثة
يقتلون المشتبه فيهم ويرمون جثثهم في دجلة… حتى لا تطلق الحكومة سراحهم!
إبراهيم درويش

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية