بعد انسحاب طويل من الساحة الليبية في أعقاب مقتل السفير الأمريكي جون كريستوفر ستيفنز في بنغازي العام 2012، تعتزم الولايات المتحدة العودة بقوة إلى ليبيا، في إطار ترتيبات إقليمية جديدة. وكشفت قناة «سي أن أن» النقاب أخيرا عن أن إدارة ترامب ستستكمل في غضون أسابيع وضع اللمسات الأخيرة على «سياسة دبلوماسية وعسكرية جديدة» في ليبيا تشمل معاودة فتح السفارة الأمريكية في طرابلس وإقامة تعاون استخباراتي أوثق مع المشير خليفة حفتر.
يتزامن هذا المُنحنى الجديد في السياسة الأمريكية مع محاولات لإنعاش اتفاق الصخيرات، من خلال عقد لقاءات تمهيدية في الفترة الأخيرة أبرزها اجتماع لاهاي، الذي حاول تحديد مواضع التعديلات المُزمع إدخالها على الوثيقة الأصلية. وتنبع أهمية هذا الاجتماع من كونه ضمَ ممثلي المجلس الرئاسي (طرابلس) ومجلس النواب (طبرق) وكذلك تأكيده على ضرورة إنهاء الفترة الانتقالية، مع استبعاد الحل العسكري.
معاودة هيكلة المجلس الرئاسي
إحدى النقاط المحورية في تعديل اتفاق الصخيرات تتعلق بمعاودة هيكلة المجلس الرئاسي والحد من أعضائه كي يقتصر على رئيس ونائبين، عوضا عن تسعة أعضاء حاليا، وأن يكون منفصلا عن الحكومة ورئيسها، باعتباره سلطة تشريعية مؤقتة. وإذا كان البيان الصادر عن الاجتماع شدد على «ضرورة توحيد الجيش الليبي وضمان خضوعه للسلطة المدنية كجزء من عملية إصلاح جادة»، فإن التصديق على هذا الموقف مُستغربة من ممثلي «مجلس النواب»، الذي يدعم رئيسُهُ بقوة منح سلطات واسعة لقائد الجيش في المنطقة الشرقية المشير حفتر. لكن في جميع الأحوال يمكن القول إن اجتماع لاهاي، الذي تم بدعوة من الحكومة الهولندية، لكن برعاية مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة، حقق تقدما قياسا على اجتماع سابق في القاهرة، لم يتوصل إلى توجُهات بمثل هذا الوضوح.
ظاهريا تبدو الاشتباكات المتكررة في طرابلس والمعارك الدائرة في بنغازي إشارة سلبية تُعاكس هذا الاتجاه العام نحو التخفيف من حدة الصراع والتقريب بين وجهات نظر الفريقين المتقاتلين. لكن تزايُد مظاهر العنف أمرٌ طبيعي كلما اقتربت التسوية من التحقُق في الواقع، خاصة أن الدينامية المُسيطرة على المشهد الليبي في المرحلة الراهنة، هي الميل العام إلى التفاهم، على الرغم من وجود ديناميات سلبية. ومن تلك الديناميات السلبية تمدُد الجماعات الإرهابية في عدة مناطق بعد إخراجها بالقوة من مدينة سرت، وكذلك تعالي الأصوات الداعية إلى فرض دكتاتورية عسكرية بوصفها المخرج الوحيد من الفوضى الراهنة، بالإضافة للتدخلات السلبية لقوى إقليمية تصبُ الزيت على النار للإبقاء على دور لها في المرحلة المقبلة.
على أساس جدلية التقاطع والتنافس بين تلك الأدوار، يمكن أن نستشف ثلاث ديناميات كبرى متضافرة في المشهد الليبي الراهن على النحو التالي:
٭ سعي البلدان الأوروبية المؤثرة في المشهد الحالي إلى تسوية سياسية بُغية تأمين حصصها من العقود النفطية والغازية وصفقات إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الأهلية.
٭ ربط أمريكا دعمها للمصالحة الليبية بإنهاء حال العداء مع الدولة العبرية وفتح خط حوار مباشر معها.
٭ استبعاد «المتشددين» في كلا المعسكرين من أجل تعبيد الطريق إلى «الصخيرات2» أو أي مكان آخر يُتفق عليه، لوضع صيغة مُعدلة من الوثيقة السابقة.
منتدى ليبي إيطالي
وأحرزت إيطاليا تقدما على غرمائها الأوروبيين بدعوتها أخيرا إلى الاجتماع الأول لما أطلقت عليه اسم «المنتدى الاقتصادي الليبي الايطالي الأول» في مدينة أغريجانتي في جزيرة صقلية، بمشاركة نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق ووزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو. وكان المحور الأساسي هو استكشاف فرص الاستثمار المُتاحة للمصارف والمجموعات الصناعية الايطالية في ليبيا، بالاضافة لشركات ومكاتب أمريكية تعمل انطلاقا من إيطاليا، بعد عودة الأمن والاستقرار. والأرجح أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا ستنسج على منوال الطليان وتدرس مع شركاء ليبيين محتملين، آفاق المشاركة في خطط إعادة الإعمار.
والأمريكيون معنيون بهذه المرحلة الجديدة أيضا، وهم يستعدون لها، بالتخطيط لعودة دبلوماسية وسياسية واقتصادية إلى ليبيا. وفي رؤية الإدارة الحالية أن النهج الذي سارت عليه إدارة باراك أوباما- كلينتون، والقائم على التقارب مع جماعات الإسلام السياسي، أخفقت إخفاقا ذريعا. وهذه المراجعة ليست خاصة بليبيا، وإنما تنسحب على مُجمل السياسة الأمريكية في المنطقة. وعليه ينبغي توقع تراجع المراهنة على تلك الجماعات، لكن من دون فك الارتباط معها بالكامل.
ولإدراك التغيير الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه ليبيا ينبغي أن نستحضر ما قاله الرئيس دونالد ترامب نفسه لدى استقباله رئيس الوزراء الإيطالي باولو جانتيلوني في البيت الأبيض في أبريل/نيسان الماضي، عندما أكد أنه لا يرى دورا للولايات المتحدة في ليبيا عدا هزيمة تنظيم «الدولة»، مُعتبرا أن لدى بلده «ما يكفيه من الأدوار». وعلى هذا الأساس أشاد ترامب بدور إيطاليا في الحرب على الارهاب وبـ»جهودها لتحقيق الاستقرار في ليبيا». وبتعبير آخر فإن هذه «الوكالة» التي منحها ترامب للطليان ستُسحب، وإن جزئيا، مع قرار الإدارة الحالية العودة إلى التعاطي مباشرة في الملف الليبي، مع استمرار الاعتماد على الحلفاء الغربيين، خاصة في ظل تضايُق الأمريكيين الشديد من الإطلالة الروسية عبر الشرق الليبي.
علاقات مع الدولة العبرية
في هذا السياق قطعت الإدارة الأمريكية الحالية خطوة جديدة عندما حضت الفرقاء الليبيين على بناء علاقات مع الدولة العبرية، من أجل التدليل على «اعتدالهم» وتعزيز مقبوليتهم لدى العواصم الغربية. لكن لم تستجب لهذه الدعوة حتى الآن سوى الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، المُنبثقة من البرلمان (مقرُهُ في طبرق) إذ أرسلت وزير الإعلام والثقافة عمر القويري على رأس وفد رسمي للاجتماع مع وفد إسرائيلي مؤلف من مسؤولين حكوميين وقادة عسكريين، بينهم وزيران من حزب «ليكود»، هما الوزير بلا حقيبة أيوب قرا ووزيرة المساواة الاجتماعية غيلا غامليئيل. تمت الاجتماعات التي استمرت ثلاثة أيام في جزيرة رودس اليونانية، ووُضعت تحت عنوان «مؤتمر المصالحة الليبية الإسرائيلية». إلا أن مُنظمي الاجتماعات لم يكن لديهم من سعة الخيال ما يجعلهم يستخدمون أوراقا أكثر إقناعا من تلك التي استثمرها معمر القذافي لدى محاولته فتح قناة مع الدولة العبرية، للتخفيف من الحصار الذي ضربته أمريكا عليه في تسعينات القرن الماضي. وقد ذهب القذافي إلى حد إغراء اليهود الليبيين، قبل انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011، بالاستعداد للتعويض لهم عن ممتلكاتهم، التي تركوها في ليبيا بعد هجرتهم إلى فلسطين. وأعيد استخدام هذه المُغريات مُجددا هذه المرة، إذ تقدم المشهد في رودس أيضا روفائيل لوزون الذي يُقدم نفسه على أنه «رئيس اتحاد يهود ليبيا في إسرائيل»، والذي لعب دورا كبيرا في التقريب بين القذافي والدولة العبرية.
هذا التطور غير المسبوق منذ الاطاحة بالنظام السابق في 2011 يُشكل أحد تداعيات قمة الرياض الأمريكية العربية الإسلامية، التي وضعت عناوين جيوستراتيجية جديدة في المنطقة ولها، من ضمنها العودة الأمريكية القوية إلى مسرح الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وفك الارتباط مع جماعات الإسلام السياسي، و«تأهيل» العرب لكي يعاودوا صياغة العلاقة مع إسرائيل تمهيدا لإنهاء القضية الفلسطينية.
صراعات مُعلنة وأخرى خفية
هذا على الصعيد الإقليمي، أما داخليا فبدأت تتبلور في ليبيا بعض المظاهر الاجتماعية التي تطفو على السطح عادة في أعقاب الثورات، ويمكن تلخيصها في عمليتين تتزامنان وتتفاعلان عبر أنماط مختلفة من الصراعات المُعلنة أو الخفية. وأولى هاتين العمليتين الصراع بين القوى الاجتماعية على إعادة توزيع الأصول والموارد، وثانيهما الصراع على إعادة توزيع القوة وتوازناتها الموروثة من مرحلة ما قبل الثورة. مع ذلك فإن هذين الصراعين قابلان للتلجيم إذا ما اتفق الفرقاء على إنشاء جهاز أمن موحد ومهني، أسوة بوكالات الاستخبارات القومية في البلدان الغربية، إضافة إلى توسعة مروحة الخطة الأمنية في طرابلس (2.2 مليوني ساكن) لتشمل المدينة بكاملها، مع توحيد القيادة، واستطرادا تعزيز سلطة المجلس الرئاسي على الميليشيات المسلحة. من هذا المنظور يضعف الدور المُهيمن الذي يسعى المشير حفتر للاستئثار به، من خلال إبراز نصره على الجماعات المسلحة في بنغازي، وهو أمرٌ نسبيٌ، إذ أن المواطنين لم يشعروا أن هذا النصر غيَر شيئا من واقعهم اليومي.
في الجوهر تبقى الإحاطة الدولية بمسار المصالحة بين الأطراف الليبية في مثابة القابلة التي لا مندوحة عن دورها، وربما أصاب مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا الألماني كوبلر حين أكد في إحاطته إلى مجلس الأمن حول الأوضاع في ليبيا، قبل مغادرة منصبه، أن على المجتمع الدولي «تقديم التطمينات والضمانات الضرورية لتنفيذ ما سيتفق عليه الليبيون، إذ لا يمكنهم القيام بذلك وحدهم من دون مساعدة المجتمع الدولي». قُصارى القول إن الوضع الليبي لم يعد يحتمل استمرار الفراغ الحالي وغياب المؤسسات، اللذين شكلا تربة مُلائمة لتمدُد الإرهاب وانتشار العنف والبلطجة، فالليبيون ضجروا من الصراعات الأيديولوجية والمناطقية، وهم يرغبون في الاستقرار والسلم، ومعاودة بناء بلد يؤمن لأطفاله الأمان والمستقبل الكريم، فهل تستمع نُخبهم إلى هذا النداء؟
رشيد خشانة