ليته كان انقلابا

حجم الخط
19

حتى لو أصبح قطاع كبير من المصريين بفعل المرار الطافح الذي يعيشونه مشغولين بسؤال «25 يناير كانت مؤامرة ولا ثورة؟»، وحتى لو علا بفعل القمع المتعاظم صوت المشغولين بسؤال «وهي 30 يونيو ثورة ولا انقلاب؟»، سيظل محجوبا عن وسائل الإعلام ـ التي تحولت إلى «أذرع» تتبارى في الرقص في حضرة الشاكم بأمر الله ـ السؤال الأكثر إلحاحا واحتياجا للإجابة الناجزة: «امتى ربنا يتوب على المصريين من الغُلب اللي عايشين فيه؟».
لعلك، إذا نظرت للمشهد المصري من خارجه، تظن أن حرص الكثير من المصريين على تعريف ما جرى في 25 كانون يناير/يناير و30 حزيران/يونيو، ليس إلا رغبة في ممارسة التفكير العلمي من أجل تحليل ما جرى في البلاد للإستفادة من دروسه في قادم الأيام، لكنك إن قضيت بعض الوقت في متابعة المناقشات على وسائل «التشاجر» الإجتماعي، لأدركت أنها تهدف أكثر إلى ممارسة التصبيع الكلامي والتنابز بالثورات واستعراض عضلات المواقف، لعل ذلك يساعد الجميع على الهروب من حقيقة استقرارنا جميعا في قاع بلاعة دموية كريهة، لن يؤدي التحرك فيها بعنف وعصبية إلا إلى المزيد من «الدحدرة» في قاعها السحيق.
بعد الأزمة التي حدثت لمسلسلي «أهل اسكندرية» قبيل شهر رمضان الماضي، كنت أسير مع صديقين في شارع قريب من بيتي في القاهرة نطرطش على بعضنا البعض ما مسّنا من «لغوب» الحياة، حين توقف أمامنا موتوسيكل يقوده رجل يمكن وصفه بأنه «طلعان دينه بزيادة عن المعدلات العادية»، ودون سلام ولا فتح كلام، نظر إليّ زاغرا وسألني بصوت مُفعم بجرّ الشّكَل «هه بقى ثورة ولا انقلاب؟»، بادره صديق مشاغبا «ثورة ثورة حتى النصر»، وأضاف الآخر ساخرا «انت بقى من بتوع الإنقلاب يترنح؟»، فلم يلتفت حتى نحوهما وأعاد السؤال بنبرة أشد حدة «هاه.. طلعت ثورة ولا انقلاب؟»، قلت مجاريا عبث الموقف «ثورة بس بتترنح»، فلم يبتسم وأعاد طرح السؤال ثالثة، فقلت «هي ثورة بس اتقلِّبت زي اللي قبلها»، قفز الرجل من الموتوسيكل فتحفزنا لاشتباك تغلب كثرتنا فيه شجاعته، لكنني فوجئت به يسلم علينا بحرارة شديدة وهو يهلل قائلا «ينصر دينك.. هو بختنا كده دكر.. كل ثورة نعملها لازم تتقلب»، قبل أن يدير الموتوسيكل ويبتعد كأنه لقى «لقيّة» تعينه على توصيف ما جرى، أو ربما تخفف عنه ندم مشاركته في التمرد على حكم سيئ الذكر محمد مرسي.
إذا كنت ممن يرسلون إلي أحيانا بسؤال أخينا راكب الموتوسيكل «ثورة بقى ولّا انقلاب»، رغبة في معرفة موقفي أو «غتاتة» والسلام، فدعني أقل لك أنني لست من الذين يحددون مواقفهم بناء على ما يتعرضون له من خسائر كلها بحمد الله «جاءت في الريش»، ولا تساوي ساعة قهر في معتقل، أو دقيقة حزن على شهيد أو مفقود، سأظل فخورا بأنني شاركت في 25 كانون الثاني/يناير و30 حزيران/يونيو بقلمي وصوتي اللذين لا أملك غيرهما، ومثلما قاومت بهما منذ مليونية النهضة اللعينة سعي جماعة الإخوان لإختطاف 25 كانون الثاني/يناير، قاومت بهما منذ لحظة التفويض اللعينة سعي عبد الفتاح السيسي لاختطاف 30 حزيران/يونيو التي خرج الناس فيها مطالبين بانتخابات رئاسية مبكرة، ومثلما طالبت بمحاكمة مرسي عن مسؤوليته السياسية في قتل المصريين، طالبت بمحاكمة السيسي بنفس التهمة بعد مذبحة المنصة وبعد مذبحة رابعة، وكل ذلك في مقالات منشورة ما زالت موجودة في أرشيف صحيفة «الشروق»، ولذلك كله لا أدعي لنفسي علما بالغيب يجعلها تبني مواقفها على الخوف مما هو قادم، ولا أعرف عنها جهلا يتصور أن الثورات يجدي معها الندم على ما مضى.
أعلم أن عددا متزايدا من ثوار 25 كانون الثاني/يناير الساخطين على ما يجري من ظلم وقمع وهرتلة باتوا يستخدمون تعبير «الإنقلاب العسكري» لتوصيف ما يجري في البلاد منذ تولي السيسي لرئاستها، وما يميز هؤلاء عن أنصار جماعة الإخوان أنهم لا يباتون كل ليلة يُمنّون أنفسهم وأصدقاءهم بانقلاب عسكري مضاد يطيح بالسيسي الذي انتقلوا دون خجل من مرحلة التبشير بصلاحه وتقواه إلى مرحلة الحديث عن أصوله اليهودية المزعومة.
ومع أن رائحة الواقع البرازي لن تختلف لو لطّفتَ وصفه، إلا أنني شخصيا لا أحب أن أخدع نفسي بوصف ما يجري بأنه «انقلاب عسكري»، وأقول لمن يصفه بذلك: ليته كان انقلابا، إذ لربما أصبح ثمن انعداله أقل فداحة ودموية، وأرى أن محاولة لتغيير واقعنا مكتوب عليها بالفشل إذا لم تبدأ بإدراك أن السلطة التي تحكم مصر اليوم سلطة مدعومة برضا شعبي جارف، لست محتاجا إلى استطلاعات رأي لتأكيده، فقد رأيته وسمعته وعشته مع أغلب من أعرفهم، ممن اختلفت طبقاتهم وخلفياتهم الثقافية والإجتماعية والمادية لكنهم اجتمعوا على تبرير القتل الجماعي وقمع الحريات وتسليم البلاد لعبد الفتاح السيسي لكي يفعل بها ما يشاء، قبل حتى أن يخيم شبح داعش على المنطقة، وتزداد كآبة صورة الإقتتال الأهلي في ليبيا خلال الأشهر الماضية، فما بالك بموقفهم بعد أن جرى كل ذلك؟
تريد أن تتحدث عن الشعب البريء الذي خدعه الإعلام المتآمر، حقك، لكن من قال أن أي كلام ـ مهما كان محبا أو صادقا ـ يمكن أن يعفي شعبا من تحمل مسؤوليات انحيازاته غير الإنسانية، خاصة وهو يعيش في عصر أصبح البحث فيه عن الحقيقة متاحا لمن أراد. تريد أن تراهن على أن استمرار فشل السيسي سيؤدي إلى انفجار يفيق بعده الناس من وهم البطل المخلص، لا ألومك خاصة أن الرجل «مش مقصر خالص في الفشل»، لكن من قال لك أن أي انفجار قادم سيستثني أحدا من هوله؟ تريد ألا «تبدأ الحكاية من أولا»، لتقرر بدءها من ثالثا أو «رابعة»، فتغفل جرائم مبارك التي قادت إلى 25 كانون الثاني/يناير، وتتجاوز عن خيانة الإخوان للثورة التي قادت إلى خيانة كثير من الثوريين لإنسانيتهم، وماله، عيش يا برنس، لكن من قال لك أن نسيان الأسباب سيجعل لعنك للنتائج كافيا لإنقاذك؟
ببساطة، أطلق أي تسمية على 25 كانون الثاني/يناير أو 30 حزيران/يونيو، العنهما معا أو العن ما شئت منهما، لن يغير ذلك من حقيقة بسيطة يتناساها الذين استحوذوا على مقاليد الأمور، هي أن الطريقة الوحيدة لكي تنهي ثورة إلى الأبد، أن تنهي كل الأوضاع التي أدت لاندلاعها من قبل، وإلا فإنك ستخلق ثورة أعنف وأقسى، ستكون أنت ربما أول أهدافها. تريد أن تتجاهل كل ذلك، سيكون ذلك مريحا نفسيا بالتأكيد، لكنه لن ينفي حقيقة وجودك في البلاعة، ولن يمنعني من نصحك ألا تقوم بأي حركات عنيفة لأن ذراعك من الممكن أن يؤدي إلى انهيار يقفل منفذ هواء يمكن أن يبقيك وغيرك على قيد الحياة.
وفي ذلك كله قالها محمد سعد فأوجز وأنجز: «ربنا يعدي الستين سبعين سنة دول على خير».
[email protected]

بلال فضل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول jamal -usa:

    اهلا وسهلا بالاستاذ بلال فضل على صفحات القدس العربي ونتمنى ان نقراء لك بمساحه اكبر من الحريه والجرائه السياسيه كما تعودنا عليك ,
    استاذ بلال ورد في مقالك بعض الكلمات لم افهم معناها هي نطرطش …طلعان دينه… يترنح؟…غتاتة…وهرتلة …البرازي …محمد سعد

    1. يقول مواطنه مصريه:

      ٣٠/٦ طبعا ثوره والسيسي أنقذ مصر من مصير مظلم و الغريبه ان بعض الناس مش قادره ولا عايزه تشوف الحقيقة………#تحيا_مصر وعذرا أستاذ بلال مقالك لم ولن يقنعني……

  2. يقول سمير الاسكندرانى ...... لابد لليل ان ينجلى:

    تحية طيبة سيد فضل ؛
    أنا حاكتب بنفس السلوب الساخر اللى كتب بية السيد فضل ، لذا ارجو ان يتسع لى صدر السيد الكاتب وكذلك القدس العربى …
    ثورة دى ولا انقلاب ؟؟
    لأ دة انقلاب اسود ومهبب بستين نيلة ، انا مش عارف لو دة مش انقلاب امال الانقلاب يبقى شكلة اية ؟؟
    وعلى فكرة انقلاب يوليو 2013 بتاع عبفتاح مثلة مثل انقلاب يوليو 1952 بتاع البكباشى اياه!!
    وبالرغم من ان انقلاب عبفتاح ( ابو لمبة منورة اللى بيتعذب وهو بيكلم ) يٌعد الاكثر دموية ووحشية من انقلاب البكباشى إلا ان الاخير يُعد اشد ايلاماً، لانة كان السبب فى كل ما حل بهذة الامة من كوارث ونكبات ونكسات ووكسات .
    فانقلاب البكباشى كان اول انقلاب فى المنطقة العربية والذى استنارت بظلامة كل الانقلابات التى اتت من بعدة فى العراق وليبيا والسودان واليمن والجزائر وموريتانيا وسوريا بلد المقاوم الممانع ابو البراميل السيد برميل الاسد ، والمفارقة هنا ويا للعجب ان كل هذة الانقلابات المهببة اطلق عليها من قاموا بها ( ثورات ) !!
    مما لا شك فية ان بعض من خرجوا فى نكسة 30 يونيو كانت نيتهم حسنة واستخدمهم العسكر ككمبارس او ستارة او ذريعة علشان ينفذوا المرحلة الاخيرة من الانقلاب ، لان الانقلاب كانت بدايتة قبل ذلك ب 6 شهور اى فى نوڤمبر 2012 اى بعد 4 شهور من استلام الرئيس مرسى لمنصبة …
    وهنا لا افهم عن اى خيانة يتحدث السيد فضل ؟؟
    وبعدين ، مفيش حاجة فى النظام الرئاسى اسمها انتخابات رئاسية مبكرة !!! وقال اية بعد 4 شهور !!! ياسلام
    الكلام ده يوجد فى النظام البرلمانى!
    حكاية الانتخابات الرئاسية المبكرة دى ، طلع لينا بيها الاذرع الاعلامية للانقلاب ، واللى مع الاسف الشديد غسلوا ادمغة الكثير من المصريين البسطاء ( نسبة الامية فى مصر حوالى 65% )
    وبعدين ، اية حكاية انك طالبت بمحاكمة مرسى عن مسؤوليتة السياسية عن قتل المصريين ، كما طالبت بمحاكمة السيسى بنفس التهمة!!!
    والسؤال الذى يطرح نفسة مَن مِِِِن المصريين قتل الدكتور مرسى كى تطالب بمحاكمتة؟؟؟
    وعلى فكرة كل الجنود القتلى فى سيناء وغيرها قتلهم جيش الكفتة ومخابراتة البائسة وبلطجية امن الدولة ، واسأل حبيب العادلى وزير البلطجة والتشبيح فى عهد المخلوع حسنى مين اللى كان بيفجر الكنائس!!
    لكن اتفق مع السيد فضل فى اهم مقطع فى كلامة …
    (( حقيقة بسيطة يتناسها الذين استحوذوا على مقاليد الامور ، ان الطريقة الوحيدة لكى تنهى ثورة الى الابد، ان تنهى كل الاوضاع التى ادت الى اندلاعها من قبل، وإلا فإنك ستخلق ثورة اعنف واقسى، وستكون انت اول اهدافها ))
    فانتظروا إنا معكم منتظرين .
    وعلى فكرة انا ماكنتش باغتت عليك، ولا انا من الاخوان.
    كل الشكر للسيد الكاتب وللقدس العربى على رحابة الصدر.

    1. يقول سيد كراوية - مصر:

      الأستاذ الذى يسأل عن القتلى المسئول عنهم مرسى .. يكفى أن تعرف أنه مسئول شخصيا وبأقواله علنا في التليفزيون عن قتل 54 مواطن في بورسعيد وإصراره على أنه من أعطى الأمر وإعلانه الطوارئ وكذبه أمام العالم كله في المانيا عن ضرب البورسعيدية للطيران بالمدافع .. الحقيقه الجريمه دى ثابته وواضحه ولكن يحميه منها أن يده فيها كانت محمد ابراهيم وزير داخليته وهو الآن وزير الداخلية الذى يتمتع بالحماية .. وبالتالى حمى مرسى من جريمة مؤكده ..

    2. يقول مجدي - مصر:

      أحسنت و الله ….
      و ستذهب دماء هؤلاء هدرًا، لأن شريك مرسي في الجريمة مازال في السلطة، و من في السلطة لا تناله يد القانون .. و هذا أوضح دليل على أن مصر بعد يناير لا تختلف كثيرًا عن مصر قبل يناير!!!

    3. يقول رندا جابر:

      مبدئيا احنا كناس من الشعب دة مش هنتبلى على مرسى ولا بنتأثر ببرامج التوك شو ولا الهبل دة ف بكل بساطة الواحد هيتكلم بشكل موضوعى ..وقت اما كان مرسى رئيس مفيش اى تهم كانت بتتوجه لطنطاوى او عنان مع انه رئيس- زى ما الناس بيقولوا- يعرف ربنا والسياسة نجاسة و هما ناس اطهار و الجو القديم دة ..لا و كمان مش بس محولهمش للمسائلة مع انهم مسئولين عن قتل الالاف لا دة كمان اداهم قلادة النيل بيكافئهم على حاجة احنا مش فاهمنها ..طب بالنسبة لجيكا ..و كريستى و الناس اللى اتقتلوا فى بورسعيد و بعدها اتقتل الناس اللى بتشيع الجثث و متقولش انه مكنش مسيطر و لو كان قوى كان اقام العدل ﻷن قبل الانقلاب بتاع السيسى قعد يشكر الداخلية و جنود الامن المركزى برضو بيكافئهم على اجرامهمم

  3. يقول عاطف الصغير - مصر الكنانة:

    انقلاب … نعم انقلاب ..
    وسوف يزول ويحطم بأيدي الأحرار

  4. يقول عبدالقادر ابو صيني/ الاردن:

    بعد الحقائق الدامغة التي كشفت المؤامرة ( الغربية الصهيونية العربية ) التي قضت على ثورة 25 يناير 2011 وعلى الديمقراطية الوليدة التي نتجت عنها ، وبعد عودة النظام العسكري (الذي اهلك الحرث والنسل على مدى 60 سنة ) الى حكم مصر بظلم واجرام وفساد غير مسبوق ، ما زال البعض يتهم الاخوان ( الذين وصلوا للسلطة من خلال انتخابات شهد العالم بنزاهتها ) . اشكر الاخ سمير الاسكندراني واثني على تعليقه المتزن .

  5. يقول صخر الهوارى:

    الاستاذ بلال فضل كاتب ومبدع مستقل

  6. يقول محمد عطية مصر:

    أيتها الحرية ،، الديموقراطية ،، حكوك الانسان ،،
    كم روح أُزهقت باسمك !!!!
    غمض عينيك كدة ،، واتخيل لو الثورات كانت قامت في
    تونس و مصر وسوريا وليبيا واليمن
    بدون ما البلدان دي يكون فيها اخوان ؟؟!!!!
    تخيل مسار كل هذه الثورات دون وجود الاخوان ،،،
    ~
    إن الإخوان إذا دخلوا ثورةً أفسدوها !!!!

  7. يقول ناهد النواوي مصر:

    اروع واصدق توصيف للي عشناه وبنعيشه وهانعيشه وربنا يستر بقي السبعين سنه الجايه

  8. يقول احمد شرف الدين & مصر:

    عوداً حميداً أستاذ بلال
    اتفق معك بأن ماحدث لم يكن انقلاباً منذ البداية ولكن الا تري ان ما آلت اليه الأمور فيما بعد يجعله انقلابا من الدرجة الأولي

  9. يقول احمد بسيونى بشارة مصر دمنهور:

    السؤال هل الاستاذ بلال انضم للقدس العربى وسوف يطل علينا كل اسبوع بمقالة ؟

  10. يقول ashraf america:

    دائما ما يكشف الصح من الخطا في اتخاذ اي موقف هو النتائج فاذا كل هذه النتائج لا تؤكد لك انه انقلاب لا اعرف ماذا اقول لك

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية