في كل مرة تزور فلسطين، وأعني هنا ما يتاح لك زيارته منها: الضفة الغربية، تجد أن هنالك شيئا مختلفا فيها. كثير من الوقائع تتغير، وكثير من الغيوم تهبط على القلب، بحيث لا تملك إلا أن تقول ما قلته منذ سنوات:
كلّ حرب سنخرج منها أقلْ
كلّ سِلْم سنخرج منه أقلْ
لكنها فلسطين، فلسطين التي لا يمكنك إلا أن تراها مكتملة، وأنت تتلمس روعتها، وتدرك أي وطن رائع ذلك الذي فقدنا.
في فلسطين ستعرف معنى أن تحِبُ، وتعرف معنى أن تحَب، وأنت تقع في الحب برشاقة طائر يصعد الجبل!
تستعيد أياما كنت فيها، تزورها مع والدك، طفلا، متجها إلى بيت لحم، حيث بيت جدك في مخيم (عايدة). كم كانت الطرق سهلة، رغم وعورتها في تلك الأيام! وكم هي مريحة تلك الحافلات البطيئة ذات المقاعد الحديدية التي توجّه لك عددا لا يحصى من الطعنات مع كل حفرة مقيمة في ذلك الطريق! وحين تصل إلى القدس، سيهمس والدك: أي طريق سهل ذاك الذي كان يقطعه من القدس إلى حيفا أو الرملة أو عكا في عربة قطار أو على ظهر حصان، وكم هي مريحة تلك السفوح الهابطة نحو الوديان، والوديان التي لم تفقد الأمل في أن تبلغ القمم.
كثير من المظاهر تسود، وكثير منها تبيد، ويبقى جوهر فلسطين الجميلة في ذلك الحب الذاهب إلى أقصاه وهو يحمل لها شمس اليوم التالي، وخضرة لا تتفتح في الربيع وحده، بل في كل الفصول.
ترى فلسطينَ مختلفة، فلسطين التي تأتيها بدعوة من متحف محمود درويش، تراها بعيني قاسم حداد القادم من البحرين، وبثينة العيسى القادمة من الكويت، وحمور زيادة القادم من السودان، ترى أي فتنة تلك التي تلفح قلوبهم كلما مرت الحافلة بحقل أو صعدت جبلا أو توقفت لأن السائق أدرك بجمال روحه، أن هذا المشهد أو ذاك، لا يجوز أن يمرّ البشر به عابرين، فمثل ذلك الجمال عليك أن تقيم فيه، ولو كانت تلك الإقامة بضع دقائق لا أكثر. هناك، يقفون مندهشين بأعين مشرعة على اتساعها، وتجد نفسك في معادلة غريبة، هم يرون وأنت تبكي.
تلك فلسطين المدهشة رغم كل تلك الحواجز التي تنتشر فيها وجدار العنصريين الممتدّ ممزِّقا أرضها وقلوب أبنائها، فلسطين التي تتجمع، تتّحد في تلك الأمسيات الأدبية الرائعة التي أقيمت في غير مدينة، من رام الله حتى طولكرم مرورا بنابلس.
تأتي القارئات والقراء من الناصرة والنقب وعكا وحيفا والقدس والجليل، كما يأتون من مدن الضفة.
ليس سهلا حضور أمسية هناك، فالقادمون لا يدفعون ثمن التذكرة، أو ثمن الوقود وحسب، بل يدفعون ثمنا باهظا من القلق والخوف من إغلاق الحواجز، واعتداءات قطعان المستوطنين، وعنجهية جنود الاحتلال الفتيان والفتيات الذين جاؤوا لتعزيز سيرهم الذاتية التي سيقدمونها مستقبلا لأماكن عملهم بأول إنجازاتهم: القتل، وإذلال الناس وترويعهم.
لكنك ستلاحظ هذه المرة أن الجنود على الحواجز باتوا يشبهون مستوطناتهم في أعالي الجبال، المستوطنات التي أحاطوها بالأسلاك الشائكة والجدران العالية وأعين الكاميرات والبنادق والكلاب.
في الضفة لن ترى الجنود اليوم إلا خلف حواجز الإسمنت، أو في مربعات من سواتر تشبه الأقفاص. مدهش أن ترى السجان سجينا، خائفا، لا شيء يظلله إلا الخوف، غير قادر على أن يغفَل لحظة، فأن يغفل يعني أن ينتهي.
لقد استطاع أولئك الشبان الفلسطينيون الشجعان، أن ينالوا من عديد القتلة المُحتلين، لكن ما فعلوه أكبر من ذلك، لقد استطاعوا أن يزرعوا الخوف في قلب دولة بأكملها، وقلوب قطعان مستوطنيها وجنودها، دولة لم تستطع بعد أن تفهم سرّ تلك المعادلة الساخرة: حين تبني جدارا كالذي بنَتْه فإنها لا يمكن أن تكون وراء الجدار… إنها مطوَّقة به أيضا.
.. وفي الضفة سترى، وتلمس أوهام نُخب، سياسية وثقافية، لم تزل تعتقد أن الشعب لم يزل منصتا لها، هو الذي أنصت أكثر مما يجب، تسمع نخبا، عاطلة عن العمل والنضال، لم تزل تعتقد أن الجماهير في انتظار إشارة منها لتتحرك، نخبا تُحلل وتُحرِّم وتتوهم أنها من يمنح البشر شهادات الوطنية، وصكوك الغفران وتذاكر الجحيم.
محزن أن تكون المساحة قد اتسعت إلى هذا الحد، بين كثير من هذه النّخب والناس، محزن أن هذا النمط من النّخب لم يعد موجودا أبدا بالنسبة لجيل ولِدَ واكتشف أنه بلا آباء، لأن هؤلاء الآباء تآكلوا بفعل قوة الزمن التي تملك قوة الطبيعة وعبقريتها في عمليتَي الحتِّ والتعرية. جيل قرر أن يكون هو الابن والأب والأم والضمير والقلب؛ جيل لا يمكن تضليله، جيل من أجيال الثورات الشابة المتعاقبة، الجيل الذي سوّر القدس بالكتب والوعي في واحدة من أبهى تظاهراته، حين أحاطها، وكل فتاة تشهر كتابها الذي تحبّه وكل فتى يشهر كتابه الذي رأى فيه حديقة لقلبه ووجهة لوعيه وضميره وسلاحا غير قابل للفناء أمام حملات التضليل.
.. وفي كل تلك المدن، ترى جوهر فلسطين في اندفاع البشر. ترى كيف تستطيع الثقافة والإبداع توحيد فلسطين، وبناء فلسطين التي تشبه نفسها، تلك الثقافة الشجاعة التي فيها من أسطورة سِيزيْف وصخرته الكثير، لأنها كلما بنَتْ حلما جاء سياسي أو سلطة أو تنظيم وشرعوا في هدم ما بنتْه.
وبعد:
… وكنّا على ثقة ليس أقسى
علينا من اليأس إلاّ الأملْ!
ولكننا كلما انطفأت شمعة نشتعلْ.
إبراهيم نصر الله
لا أدري متى ينقشع هذا الغمام…
هذا الليل الطويل….
وتعود فلسطين لأهلها الذين حملوا حبها في قلوبهم وأرواحهم اينما حلوا وارتحلوا…
عشت لحظات مع وصفك الأخاذ…..حتى أني فكرت هل يمكنني زيارة الضفة..؟؟!
اتمنى ذلك….
أتمنى أن يقرأ غاندي هذا المقال ….
شكرالك اديبنا الكبير *ابراهيم نصرالله*…..
* كان الله في عون ( فلسطين ) واهل فلسطين ..لكم الله .
سلام
* احد اهداف اشعال ( الحروب ) في الدول العربية هو
نسيان ( فلسطين ) .. وهذا ما حصل فعلا للأسف الشديد ؟؟؟
سلام
* اذا العالم نسي ( فلسطين ) .. على الشعب الفلسطيني الأبي
وقواه الحية ان لا ينسوها .
* ومن هذا المنطلق : اناشد ( فتح وحماس ) العمل الجاد
على تسريع ( الوحدة ) وشكرا .
سلام
أستاذي المحترم: أحسنت ما كتبت في هذا المقال لرائع عن ذاكرة المكان عن الألم والوجع. مع بالغ الود
يا الله، أقسى ما أحسه هو شوق لا يوصف و لا يقاس لزيارة فلسطين يقابله لا أمل فظيع لتحقيق الحلم .