لم يعلم حسين أن شخير أمه سيكون حسرته في ليلة رأى فيها اكتمال القمر، في تلك الليلة حل لغز أحجية أبيه بعد ليال طويلة عندما كان يسأله ولم يكن يهتم ولا يدرك أن نصفه غير طبيعي، وإن نصفه ذاك اكتمل في ليلة قضاها حسين يتحسس أوراق كتاب مقدس ليكون وسادته فقط.
تلك الليلة بظلامها أخفت كل شيء حوله، لكنها لم تستطع أن تخفي أصوات أوجاع الآخرين لتؤنسه في وحشة سجنه وتسكّن آلام التعذيب.
لم تكن ليلته الأولى تحت راية الغربان، ولكنه لم يذكر ذلك لأن أول ليلة كان قد قضاها مرمياً على أرض ساحة القتال التي لا يسمح إلا لطرف واحد أن يحمل سلاحه فيها، والطرف الآخر مخنوق بأكباله، يتلفظ كلمات التوسل والرجاء على كل لحظة بدون معرفة إن كانت سكرات الموت هذه ستطول أم لا؟ لينسى فيها سؤاله طوال النهار «ليش أنا هون وشو عملت حتى تعملوا فيني هيك؟» فكان الجواب من شخص غير متوقع أنه يتقن العربية بلهجة سورية، رجل باكستاني الأصل «كردي ههه انتو ما بتعرفو الله لسه جاي بدك تتعلم بدل ما تكون معنا مارح تنفعك هالدراسة بهالوقت روح قول لأمك تعلمك الطبخ والمسح هههه». كانت قهقهته تصيبه بالغثيان فالقريب من ذاك الرجل الباكستاني لا يعلم إن كانت رائحته النتنة تخرج من بين أسنان أكلت ولم تشبع وتتعفن فيها بقايا أرواح أم ماذا؟
يوم بأكمله يطرحون عليه الأسئلة نفسها، ولكن باختلاف جنسيات الشخصيات تلك الأسئلة المعتادة.. أمك.. أباك، ولكن بشتائم مختلفة كلا منهم حسب جنسيته.
حسين شاب الـ20 عاما القادم من منطقة عفرين ليكمل دراسته الثانوية في مدينة حلب التي وقع طريقها تحت راية الغربان.. فقد كان يستقل باصا بجانب امرأة عجوز عند كل حاجز تجعل منه طفلها النائم، ولكن لم تفلح عندما أحدهم قال «يلا أنت…. يلا انزل» فلم يكن أمامه إلا قول «حاضر.. يلا نازل.. خاطرك حجة» وبلع سكينا بقوله «رح يمشي الباص.. خليني روح». جاءه صوت كأنه خلف جبال «رح تضل عنا… لكن قلتلي كردي؟». وانتظر حسين سيره كالكلاب الشاردة حين تكبل ومشى في غيبوبة الخوف والرعب التي لم يصح منها إلا على صوت الجنازير في يديه وقدميه، كان ذلك ما بقي من ذاكراته لذاك النهار، فضوء نهار الليلة الثانية كان أقوى عندما فتح عينيه وأذنيه اللتين قاربتا على الصمم من أصوات الكلاب الجائعة التي كانت نائمة بقربه ولو أنها كانت تدري أنه بجانبها طوال الليل لما بقي منه شيء. وفي لحظات شهوة الموت تلك فتح باب زنزانته ليحمله رجلان بدلا من قدميه التي لا يشعر بهما، وينقلانه لغرفة التحقيق وبداية أسئلة من نوع آخر «بتعرف تصلي ولاه؟» أي مولانا بعرف «شو الصلوات وكم عدد الركع في كل صلاة؟ بدت له نفسه أنها تهذي ولكن مادام على قيد الحياة فذاك الهذيان هو إجابة صحيحة، ولكن عندما روت المياه وجهه أعادته لعقله وبدأ يتوضأ كما أمر، ومعرفته بأداء الصلاة قد رحمته من عذاب عسير على حد قولهم، وانتهى هذا الامتحان ببضع صفعات، صحيح أنها لا يستهان بها ولكن لا تذكر بالمجمل، وبدون استراحة بدأ الشوط الثاني من اللعبة كما يتداولون فيما بينهم «شلت سلاح من قبل يا عين أمك؟» رد حسين بسرعة الخائف.. «لا والله» فجاءته صفعة ألمعت عينيه، وبدأ النزيف من أنفه الذي كسر وتهشم حتى غاب عن وعيه. وبعد بضع ساعات وجد نفسه بين بركة دم لا يعلم إن كانت دماءه أو دماء من سبقوه، وبين قطع أسلحة عليه تركيبها أو حتى تلقيمها حتى إذا قتلته إحداها… يكون من قتل نفسه وبينما يحاول وفجأة وبلا سابق إنذار ارتبكوا بحملي ونقلي من المكان، ولكن نزيفي المستمر كان منقذي عندما سمعت صوت «هذا هو» فأخذوني ووضعوني في سيارة وضمدوا نزيف أنفي وسلموني كعلبة سلمون إلى أحد حواجز القوى الكردية.
حينها تعرف على جسده تعرف على لونٍ جديدٍ امتزج مع لون جلده، في غرفته لم يسمح لأحد بأن يرى آثار تعذبيه ولا أن يستمع أحد لصوته حينما يتسرب الماء إلى جروحه. وكانت تلك الليلة ليلة اكتمال القمر دافعي للهروب من بلدي مكسوراً إلى اللامكان أي مكان يحميني من الموت حتى لو عشت بدائياً كإنسان قديم.
٭ سورية
إسراء نبهان
من اين لكم هذا