القاهرة ـ «القدس العربي»: «السيريالية هي ما سيكون» ربما كان هذا هو اليقين الوحيد الذي تنفسه جورج حنين، رائد السيريالية المصرية، حينما أطلق هذه العبارة. ورغم أن الحركة السيريالية المصرية تفجّرت في وقت مأزوم، إلا أنها فتحت آفاقاً غير مسبوقة على المستوى الفكري والاجتماعي والفني في مصر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الفائت.
وهذا ما يفسر على نحو ما أن يتم اللجوء إلى السيريالية وقت الأزمات، ربما لأنها الحركة الوحيدة التي احتفت بالخيال، ولم تقدّس في رحلاتها المُستمرة إلا الروح الإنسانية في مواجهة مُسميات وأفكار مُضللة، كالواقع واليقين والأيديولوجيا. ومن خلال مؤتمر «السيرياليون المصريون من منظور عالمي»، الذي عُقد مؤخراً في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ونظمته مؤسسة الشارقة للفنون، بالتعاون مع معهد دراسات الحداثة المقارنة في جامعة كورنيل في نيويورك، وبرنامج الثقافات البصرية في الجامعة الأمريكية في القاهرة. ضم المؤتمر ما يُقارب 28 بحثاً في مجالات الفنون والتاريخ والآداب والنقد التشكيلي، إضافة إلى أوراق وشهادات وقراءات في مرحلة السيرياليين المصريين (1938- 1965) ورموزها، والبيئة السياسية والفكرية والاجتماعية، من خلال «جماعة الفن والحرية»، مجلة «التطور» لسان حال الجماعة، التي تعد أهم حركة حداثية حدثت في مصر. والتي شهدت ازدهارها في آواخر الثلاثينيات، وتشتت أصحابها في بداية الستينيات من القرن الفائت، وقد أصبح نظام الحُكم المُطلق لا يستطيع أن يتحمل هؤلاء وأفكارهم الصادمة لكل أشكال السلطة ومفرداتها.
الفن والحرية
لم تنشأ جماعة الفن والحرية من فراغ، بل سبقتها عدة محاولات تتمثل في العديد من البيانات تدعو إلى التحرر من القوالب والقواعد الفنية الجامدة، حتى تأسست الجماعة رسمياً عام 1939، ويرى عماد أبو غازي، أنه لولا انفتاح الحركة على التيارات والأفكار الثقافية العالمية، ما كان لهذه الحركة أن تقوم، وهو ما يدل على المناخ المنفتح في مصر في ذاك الوقت. فالحركة بذلك كانت جزءا من تيار عالمي، وهو ما أكده أندريه بريتون في إحدى رسائله إلى مؤسس السيريالية المصرية جورج حنين قائلاً :»أصبح للشيطان جناحان، أحدهما في باريس والآخر في القاهرة».
يبدو أن التراث السيريالي المصري يقع دوماً في دائرة سوء الفهم، وحالة من التجني إلى حدٍ كبير. هذا ما أوضحته الورقة البحثية المُقدمة من الباحثة أمينة دياب، التي أشارت إلى أن إرث الحركة لم يزل يثير الجدل حول طبيعتها، من حيث كونها تقليداً قاصراً للحال الثقافي في الغرب، خاصة أن معظم المشاركين في الجماعة السيريالية كانوا يتحدثون الفرنسية، وينتمون إلى الفئات العليا في المجتمع. ففكرة المحلية والانشغال بالقضايا المُلحة وقتها، كانت دائماً محل شك.
ولكن مجلة «التطور» على سبيل المثال، التي صدرت باللغة العربية، وتضمنت أفكاراً ثورية لم تزل تثير القلق حتى الآن، بداية من قضايا الوجود الإنساني، والتفكير في تحقيق عدالة اشتراكية ــ فكرة الإصلاح الزراعي أول مَن تطرق إليها كانت مجلة «التطور» وقت العهد الملكي ــ وعن طريق إعادة قراءة (دياب) لبعض البيانات والأعمال الفنية لجماعة الفن والحرية، رأت أنها ــ الحركة ــ طوّرت لغة فنية جديدة، وكذلك لغة تشكيلية بصرية تمردت على الأساليب والنظريات الأكاديمية.
المغضوب عليه
بجانب كامل التلمساني، أنور كامل، فؤاد كامل، رمسيس يونان، يقف جورج حنين دوماً في صدارة الرافضين لما حدث في انقلاب يوليو/تموز 1952، هذا من ناحية الحالة السياسية، أما الحالة النقدية لأجيال الخمسينيات والستينيات، فقد كانوا له أشد معاداة، يسوقون في ذلك حججهم الواهية التي تتساقط بمرور الوقت. فتهميش دور الرجل كان مقصوداً، بداية من فضح ضآلة ثقافتهم من ناحية، والوقوف بحدة في مواجهة مفاهيم قاصرة كالقومية وما شابه، هذه الأفكار الصاخبة التي سقطت عند أول اختبار حقيقي في يونيو/حزيران 1967.
عن هذا التهميش المقصود دارت الورقة البحثية للمترجم والكاتب بشير السباعي، فحنين الذي استعاد دوره وتأثيره بفضل الطليعة المصرية المثقفة من الأجيال الجديدة، وتفاعلوا مع أفكاره ورؤاه، كان في رأي واهمي القومية كاتباً فرانكفونياً! مُتناسين دوه في الفكر والثقافة المصرية، كوجه لهذه الثقافة التي كانت تقف نداً للثقافة الغربية، ومؤصلة للمناخ الفكري المصري في ذلك الوقت، هذا المناخ الذي لم تشهده مصر مرّة أخرى حتى الآن.
دور المثقف
دائماً ما يثور هذا التساؤل عن الفعل الثقافي ودور المثقف على أرض الواقع، ولا داعي لعقد مقارنة بين ما كان وما هو كائن الآن في مصر. وبالنظر إلى هذا الدور يُشير باتريك كين إلى دور جماعة الفن والحرية في الأحداث السياسية والاجتماعية وقتها، أي من الثلاثينيات وحتى ستينيات القرن العشرين. فما أنتجته الجماعة كان مُطلقاً من فكرة النقد الحاد للمجتمع وأفكاره البالية. والأزمات التي عانى منها المجتمع كانت ضرورية لتحديد موقف مفكري وفناني الجماعة.
بداية من فكرة الثورة الاجتماعية في الأساس، بخلاف التغيير من أعلى. ففي أحد أعداد مجلة «التطور» لسان حال السيريالية المصرية جاء موضوع مُفصّل عن كيفية ما يُسمى بالـ«الإصلاح الزراعي» كاشفاً نسبة مُلاك الأراضي، ومجتمع النصف في المئة. وبالتالي كيفية حل هذه الأزمة، وهو ما تبناه انقلاب يوليو/تموز 1952، ولكن بكيفية وآلية مغايرة تماماً عن رؤية الفن والحرية. هذا بدوره ينفي المقولات المُتهافتة التي روّجت لفكرة عزلة الجماعة عن القضايا الوطنية المصيرية.
محمد عبد الرحيم