بغداد ـ «القدس العربي»: أعاد مؤتمر إعمار العراق في الكويت، إلى الواجهة مرة أخرى، ملف سرطان الفساد المستشري في جسد الدولة العراقية، والذي يعد عائقا جديا ومبررا قويا أمام المجتمع الدولي، للتهرب من تقديم دعم مالي حقيقي لإعادة إعمار المدن المدمرة وتنشيط الاقتصاد العراقي المنهك جراء خوض الحرب ضد الإرهاب والفساد وسوء الإدارة.
وقد تعهدت الدول المشاركة في مؤتمر الكويت لدعم إعمار العراق المنعقد بين 12 ـ 14 من شباط/فبراير الحالي، بتخصيص نحو 30 مليار دولار على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات وليس منحا، لمساعدة العراق في مواجهة آثار حربه ضد تنظيم «الدولة» وما خلفته من دمار هائل، وسط مطالبات المجتمع الدولي للحكومة العراقية باتخاذ الإجراءات لتطمين المستثمرين عبر مواجهة الفساد والمصالحة الوطنية.
وكان العراق أبدى رغبته في الحصول على نحو 88 مليار دولار من الدول المانحة، لإعادة إعمار مدنه المدمّرة بفعل العمليات العسكرية ضد التنظيم الإرهابي.
وسعى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي خلال مشاركته في مؤتمر الكويت، إلى تشجيع الدول والشركات، لدعم العراق عبر بوابات إعادة إعمار المدن المدمرة وعرض فرص الاستثمار المغرية في المجالات الاقتصادية. كما بذل جهودا لتطمين المجتمع الدولي إزاء سرطان الفساد الذي انتشر في كل جسد الدولة، عندما أعلن ان
وفي ضوء نتائج المؤتمر عبر العديد من السياسيين والباحثين عن عدم تفاؤلهم من تحقيق وعود الدعم الدولي، حيث كشف عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي أردلان نور الدين ان «معطيات مؤتمر المانحين المنعقد في الكويت تفرز فشل العراق في الحصول على الدعم الدولي المنشود بسبب الخلافات الداخلية والفساد» ، مشيرا إلى ان «العراق لم يحصل على نسبة المنح التي كان يطمح اليها لإعمار مدنه بسبب الخلافات الداخلية بين المكونات ناهيك عن عدم ثقة المجتمع الدولي بوصول هذه الأموال إلى المشاريع المطلوبة».
وأكد النائب عن ائتلاف دولة القانون، موفق الربيعي، «ان العراق حصل في مؤتمرات سابقة لدول مانحة، على وعود بمبالغ مالية غير إنها لم تنتج عن شيء يذكر، فهي وعود لا نعول عليها، لا في الموازنات ولا في إعادة الإعمار». ويعتقد الربيعي إن جلب الاستثمار الأجنبي إلى العراق يتحقق «عندما يرى العالم جديتنا في محاربة الفساد»، مشدداً على أهمية «أن يعطي العراق رسائل تطمينية تفيد أن المستثمرين الأجانب عندما يأتون للعراق لن يواجهوا الميليشيات ومافيات الفساد».
وقبل بدء أعمال مؤتمر الكويت لدعم إعمار العراق، تصاعدت المطالبات من مختلف القوى العراقية بعدم منح الحكومة العراقية وحكومة الإقليم أي مساعدات مالية بل الاعتماد على تنفيذ الدول والشركات الأجنبية، مشاريع مباشرة لخدمة النازحين وإعادة الإعمار والاستثمار.
وأكد العديد من السياسيين العراقيين المخاوف من عزوف الدول عن تقديم المساعدات إلى العراق خوفا من استحواذ حيتان الفساد عليها. فقد أشار النائب عن التيار المدني الديمقراطي، فائق الشيخ علي، إلى إن «مؤتمر الدول المانحة في الكويت مهم، ويأمل العراق منه خيراً، لكن الدول لا تزال مترددة في الدخول إلى العراق، بعد تكشف أمر الفساد وافتضاح الفاسدين». مبيناً أن «الدول ستتردد ولا تقدم الدعم، وفي حال قدمته فسيكون مشروطا». بينما دعت النائبة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني أشواق الجاف، الدول المانحة المشاركة في المؤتمر، إلى «عدم تقديم أموال نقدية للعراق بل تنفيذ مشاريع للبنى التحتية بدلا من ذلك لضمان عودة النازحين بالسرعة الممكنة، ولأن الأموال ستدخل بعضها أو معظمها إلى جيوب الفاسدين ولن يستفيد منها المواطنون».
الإجراءات الحكومية ضد الفساد
تضم التشكيلات الإدارية والرقابية في العراق، عدة جهات تقوم بمهمة التصدي للفساد المالي والإداري، أبرزها البرلمان وهيئات التفتيش في الوزارات وديوان الرقابة المالية، اضافة إلى هيئة النزاهة، إلا ان نتائج جهود كل هذه الأجهزة كانت محدودة جدا إزاء تغول الفساد وحيتانه ومافياته التي زادت انتشارا في السنوات الأخيرة في كل مفاصل الدولة.
وقد نظم مجلس النواب ضمن دوره الرقابي على الحكومة، استجوابات لمجموعة من الوزراء والمسؤولين حول ملفات فساد وسوء إدارة في المؤسسات الحكومية المسؤولين عنها، وذلك بناء على طلبات تقدم بها بعض النواب، حيث تمت إقالة بعض الوزراء بعد الاستجواب كما حصل سابقا مع وزراء الدفاع والمالية والتجارة وغيرهم. في وقت أعرب المراقبون عن القناعة ان الاستجوابات تتم في إطار الصراع السياسي والتسقيط بين الكتل السياسية أكثر من كونها عملية إصلاح، بدليل ان الإقالات لم تشمل وزراء ومسؤولين كان فسادهم وتقصيرهم في عملهم واضحا إلا انهم كانوا مدعومين بكتل قوية في البرلمان.
اما هيئة النزاهة، فإنها وان تمكنت من كشف مئات ملفات الفساد وإصدارها أوامر القبض بحق مئات المسؤولين لتورطهم في الفساد واختلاس المال العام وعقد الصفقات مع شركات محلية وأجنبية مقابل عمولات إضافة إلى سوء الادارة، إلا ان النفوذ السياسي ودعم الميليشيات المسلحة منع اتخاذ إجراءات قانونية بحق الفاسدين الكبار. وأعلن رئيس هيئة النزاهة حسن الياسري، في مؤتمر الهيئة السنوي، ان «عدد الوزراء ومن هو في درجتهم الذين صدرت بحقهم أوامر استقدام للتحقيق معهم خلال عام 2017 بلغ 35 وزيرا، اضافة إلى 306 مسؤولين آخرين»، مؤكدا ان الأموال التي تم ضبطها أكثر من 51 مليار دينار.
وكشف الكثير من المراقبين والسياسيين، ان أجهزة الرقابة الحكومية والبرلمانية خاضعة للضغوط السياسية مما يعرقل عملها وقدرتها على محاسبة الفاسدين. وفي هذا الإطار أقر المتحدث الرسمي باسم مجلس القضاء الأعلى، عبد الستار بيرقدار، إن قانون العفو الأخير أتاح لـ «فاسدين» الإفلات من العقاب. وأكد في حوار صحافي، أن «هناك فاسدين قد أدينوا بقرارات قضائية وصدرت الأحكام العقابية بحقهم وفق القانون ولكنهم شُملوا بقانون العفو العام الذي شرعه مجلس النواب». كما يقول الناشط حسين النجار، ان من مجموع 6000 حالة استقدام لمسؤولين فاسدين، لم ينجز منها نحو 4000 حالة.
الأمم المتحدة والفساد
وكان رئيس الوزراء، حيدر العبادي، وضمن خطته الإصلاحية، طلب في عام 2016 من الأمم المتحدة مساعدته في الكشف عن مصير 360 مليار دولار مفقودة من موازنات البلاد بين عامي 2004 و2014 فضلاً عن ملفات الفساد ومنها مزاد العملة في البنك المركزي ومصير آلاف المشاريع الفاشلة أو المعطلة والاستثمارات في قطاعات الكهرباء والإسكان والزراعة.
وعقدت الحكومة العراقية اتفاقا خصصت المنظمة الدولية بموجبه 21 خبيرا ومحققا ماليا لمساعدتها في هذا المجال، بعد منحهم الحرية في فحص الملفات والوثائق ومراجعة السجلات في الدوائر الحكومية.
وكشف مقرر لجنة النزاهة النيابية في العراق جمعة الديوان، ان الفريق الدولي توصل خلال عامين من العمل في العراق إلى تورط مسؤولين كبار وسياسيين بارزين بملفات فساد منذ 2003.
آخر ضحايا الفساد
ويهتم الرأي العام هذه الأيام بقضية إصدار محكمة في محافظة المثنى، حكما بسجن الناشط باسم خشان لمدة ست سنوات، رغم جهوده الكبيرة في كشف الفساد والفاسدين، حيث اعتبرت قضيته نموذجا لكيفية التعامل مع الفساد ومنتقديه في العراق.
والناشط باسم خزعل خشان (عراقي الأصل وأمريكي الجنسية) مدير منظمة «عيون على القانون» اعتمد أسلوب كشف الفساد عبر الطرق القانونية، حيث قدم خلال العامين الأخيرين مئات الملفات حول فساد موظفين ومسؤولين إلى هيئة النزاهة ومجلس محافظة المثنى جنوب العراق. وقد كسب بعض الدعاوى في المحاكم ضد العديد من المسؤولين الفاسدين.
وقد فوجئ العراقيون مؤخرا بصدور أحكام من محكمة الجنايات في المثنى، بسجن الناشط والمدون باسم خشان، 6 سنوات وفق المادة 226 من قانون العقوبات بتهمة إهانة المؤسسات الحكومية. وجاء الحكم بناء على دعاوى من مجلس محافظة المثنى وهيئة النزاهة بعد ان اتهمها الناشط على حسابه في شبكة التواصل الاجتماعي بـ»الفساد وعدم تأدية واجبها بشكل صحيح، وعدم أخذها بالوثائق التي قدمها ضد المسؤولين».
وتعليقا على الحكم، أكد الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب ضياء السعدي، لـ»القدس العربي» ان حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل مكفولة من الدولة حسب الفقرة 38 من الدستور العراقي وهي تدخل في باب الحريات الأساسية التي ينبغي ان يتمتع بها كل عراقي.
وذكر السعدي ان من ضمن حرية التعبير إبداء الرأي وممارسة النقد من قبل المنظمات الجماهيرية والنشطاء الحقوقيين والاجتماعيين عندما يتصدون لحالات الانحراف والفساد المالي والإداري وسرقة المال العام والرشوة بوسائل الاحتجاجات كالاجتماعات والتظاهرات السلمية وإصدار البيانات، وهي الممارسات التي لا يمكن إدراجها تحت عنوان الجرائم الماسة بالهيئات الحكومية وفق المادة 226 من قانون العقوبات لأنها لا تشكل جريمة إهانة للسلطات العامة.
وأكد السعدي وهو نقيب المحامين السابق، ان النص القانوني الذي لجأت إليه المحكمة التي عاقبت الناشط المذكور يتعارض مع القواعد الدستورية وعلى المحكمة ان تلتزم بالقانون العلوي الأعلى، ومن واجب القضاء ضمان علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات للأفراد، وان المادة التي لجأت إليها المحكمة تختلف عن النقد الذي قام به الناشط لأداء محافظ أو مسؤول لقيامه بالرشوة أو الفساد.
واستغرب السعدي ان تكون الدعوى ضد الناشط مرفوعة من قبل هيئة النزاهة المعنية بمكافحة الفساد في الوقت الذي أعلن فيه رئيس الوزراء العبادي خوض حملة ضد الفساد، محذرا ان هذه القضية هي سابقة قد تؤدي إلى حالة نكوص وكم الأفواه وإنهاء دور منظمات المجتمع المدني والناشطين في العراق.
ودعا عضو مفوضية حقوق الإنسان فاضل الغراوي، إلى «الافراج الفوري عن الناشط المدني باسم خشان وكفالة حرية التعبير عن الرأي لكل المواطنين والناشطين والابتعاد عن سياسة تكميم الأفواه خاصةً إذا كانت المطالبات تتعلق بمكافحة الفساد وتوفير الخدمات». مضيفا ان «المفوضية أشرت في الفترة الأخيرة إلى ازدياد ملحوظ في الانتهاكات الموجهة ضد حرية الرأي والتعبير وبشكل يتقاطع مع الحقوق الدستورية للمواطنين والبعد الديمقراطي التي تمثلها هذه الحقوق» مؤكدا ان وجود الناشطين ومنظمات المجتمع المدني والمدافعين حلقة لتصحيح مسار حقوق الإنسان في العراق.
وضمن السياق أعلن نقيب المحامين العراقيين في محافظة المثنى صالح العبساوي عن تشكيل فريق من 40 محاميا للدفاع عن خشان، وتشكيل خلية أزمة تضم أكثر من 30 منظمة مجتمع مدني. في وقت اعتبر المراقبون ان باسم خشان مثال لكيفية سحق المواطن الذي يتجرأ على كشف مافيات الفساد إذا لم يكن مسنودا بميليشيات أو حزب متنفذ.
ويذكر ان بغداد والمدن العراقية تشهد اسبوعيا ومنذ سنوات، تظاهرات جماهيرية واسعة تدعو إلى كشف الفساد ومحاسبة الفاسدين الذين استباحوا مؤسسات ودوائر الدولة العراقية وتسببوا في الكثير من المشاكل الأمنية والاقتصادية للشعب والبلد، حيث يحتل العراق المرتبة
ونبه الجابري في لقاء تلفزيوني، إلى ان الحكومة والهيئات المعنية بالفساد تركز على الفساد المالي والإداري، والحقيقة ان الخطورة تكمن في الفساد السياسي الذي يوفر الغطاء للفساد المالي، ويجعله ظاهرة شائعة وممارسة جماعية مقبولة سياسيا واجتماعيا، واصفا الفساد السياسي في العراق بانه «أم الفساد المالي والإداري».
مصطفى العبيدي