■ اختلّت الثقة في السنوات الأخيرة بصمود وحدة الدولة السورية القائمة، التي زعزعتها تحوّلات الثورة على النظام الأسدي وأودت بها إلى تقاسمٍ متحرّك ما بين هذا النظام وأطراف أخرى، لا يبدو التفاهم بينها محتملاً، لا على اقتسامٍ للبلاد ولا على صيغة مشتركة لحكمها. وكان صمود الوحدة العراقية قد اختلّ كثيراً في العقدين السابقين وتحوّل نظام العراق نحو صيغة فدرالية غير مستقرّة لا يستبعد تطوّرها، بدورها، نحو نوع من التقسيم.
وكانت الحرب اللبنانية قد اجتازت قبل ذلك حقبةً راج فيها شعار التقسيم في جهة من جهتيها ثم عادت الدولة اللبنانية، بعد عقدين انصرما على صيغة الطائف، لتعاني ذواءً وتفتّتاً يتزايدان من سنة إلى سنة… ولا ننسى الإشارة إلى الوحدة المصرية السورية في سنة 1958 ولا إلى القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين في سنة 1947، وقد استعيد مبدأه في «حلّ الدولتين» الذي يبدو متهالكاً في يومنا هذا. ولا ننْسى، أخيراً لا آخراً، إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948 وما كان من أمرها مع حدود الدول المحيطة بها.
على هذه الخلفية المتشابكة المسارح، يكاد لا يمرّ يومٌ لا يذكر فيه اتّفاق سايكس بيكو في المقالات والخطب، وينسب إليه ما فيه وما ليس فيه، ويزعم له تارة دورُ تأسيسِ الدول القائمة في المشرق ورسمِ حدود لها تعدّ أصلاً للبلاء تارةً ويعلن طوراً أنها تضعضعت من جرّاء الأحداث الجارية أو هي توشك أن تتضعضع.
وفي هذا الشهر الجاري يكون قد مضى قرنٌ بتمامه على توقيع هذا الاتّفاق، وهو قد أصبح أوفر حظوةً عند المعلّقين من «وعد بلفور» الذي حصل بعده بسنة وأشهر، ناهيك بمفاوضات ومعاهداتٍ أخرى هي التي أسّست دول المشرق فعلاً ورسمت حدودها ووزّعت مهامّ الانتداب عليها، وبوقائع من قبيل معركة ميسلون، وما تبعها في سوريا ولبنان، وتنصيب فيصل الأوّل ملكاً على العراق في السنة التالية، ومعه تأسيس إمارة شرق الأردن وتسليمها لأخيه عبد الله، وإبقاء فلسطين منطقة انتدابٍ بلا دولة… ولا تَفُتنا المحطّة التاريخية الكبرى التي هي زوال الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الكبرى وإلغاء مؤسسة «الخلافة» الإسلامية في سنة 1924… من بين أحداث ونصوص هذا شأنها وخطرها، يصطفي خطباؤنا ومعلّقونا اتّفاقاً كنَسَت نتائج الحرب معظم بنوده، فلم يطبّق قطّ ولا تشبه الحدود التي رسمها حدود الدول القائمة في شيء، ولا هو لحظ هذه الدول القائمة أصلاً… فما قصّته؟
في الشهر نفسه الذي أرسل فيه المفوّض السامي البريطاني في مصر آرثر هنري مكماهون رسالته الأخيرة إلى شريف مكّة حسين بن علي (مارس/آذار 1916) كان يقرّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ حول مصير سوريا الطبيعيّة وما بين النهرين (العراق).
وكان هذا التفاهم قد تمّ بين مارك سايكس عن بريطانيا وفرنسوا جورج- بيكو عن فرنسا، ثم صدّقه في 15 و16 أيّار/مايو من تلك السنة تبادلُ رسائل بين وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي وسفير فرنسا في لندن بول كامبون. وكانت روسيا معنيّة بمصير المناطق العثمانية المتاخمة لحدودها فمثـّلها وزير الخارجية سيرغي سازُنوف خلال العام السابق في مفاوضات مثلّثة.
قضى التفاهم بشأن سوريا والعراق بإنشاء دولة عربيّة (أو اتّحاد دول) في سوريا «الداخليّة» التي جعلها مشتملة على شطرٍ من عراق اليوم وأملى تقسيم هذه الدولة إلى منطقتين: «أ» و «ب». وقضى بمنح فرنسا أفضلية في ما ينشأ من مشاريع وما تحتاج إليه الدولة من خبراء وموظّفين في المنطقة «أ» وهي الشماليّة وتشتمل على الموصل وحلب وحماه وحمص ودمشق. وقضى بمنح الأفضليّة نفسها لبريطانيا في المنطقة «ب» وهي الجنوبيّة وتشتمل على كركوك وشرق الأردنّ حتى العقبة.
من جهةٍ أخرى، قضى التفاهم بخضوع الساحل من الإسكندرون إلى صور، وهو المنطقة الزرقاء، لحكم فرنسيّ مباشر. وقضى، على الغرار نفسه، بحكم بريطانيّ مباشر للمنطقة الحمراء وهي ولايتا بغداد والبصرة. وجُعلت فلسطين أخيرا منطقة رصاصية تخضع لإدارة دوليّة يتفق عليها الحلفاء والشريف حسين.
كان هذا الاتّفاق مخالفاً لموقف الشريف حسين المتحفّظ عن إدخال فرنسا في المسألة السوريّة أصلا. وكان الاتّفاق يؤوّل الترتيبات الخاصّة بمصالح بريطانيا في ولايتي البصرة وبغداد (وهي ما وافق عليه الشريف) على أنها حكم بريطانيّ مباشر للولايتين. وكان يفرض لفلسطين مصيراً لم يكن قد ذكر أصلاً في مراسلات الحسين – مكماهون…
لم يطبّق اتّفاق سايكس- بيكو الذي بقي سريّاً إلى أن كشفه ليون تروتسكي مفوّض الخارجيّة في حكومة البلاشفة، بُعَيد الثورة البلشفية، في خريف 1917، وانسحاب روسيا من الحرب. ولكن ما طبّق قد يصحّ اعتباره أبعد من الاتّفاق الذي بقي مدّةً من الزمن يعتبر، على نحوٍ ما، قاعدة انطلاق لما تلاه من صيغ تفاهم جديدة بين بريطانيا وفرنسا. ما حصل فعلاً كان إخضاع سوريا ولبنان بتمامهما للانتداب الفرنسيّ وإلغاء التمييز بين منطقتين شرقيّة وغربيّة مع سحق الدولة «الشريفية» في ميسلون ثمّ إنشاء دولة لبنان الكبير. وضمّت ولاية الموصل لاحقاً إلى ولايتي بغداد والبصرة فنشأ من ثلاثتها العراق المعاصر ووضع كلّه تحت الانتداب البريطانيّ. وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ أيضاً من غير منحها وضع الدولة.
وكان وعْدُ وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور للّورد ليونيل والتر روتشيلد (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917) قد أباح لليهود أن ينشئوا فيها وطناً قوميّاً، وكانوا إذ ذاك نحو 11٪ من سكّانها. وتأسّست في شرق الأردنّ وحده من بين مناطق سوريا الطبيعيّة، إمارة تولاها الأمير عبد الله بن الشريف حسين، بعد أن أخرجها ونستون تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، من دائرة وعد بلفور، في مارس 1921.
وفي حزيران/يونيو من السنة نفسها أصبح فيصل، ملك سوريا في العام السابق، ملكاً على العراق، بعد موافقته على الانتداب البريطانيّ.
ما هي دلالات هذه الفوارق الجسيمة بين نصّ الاتّفاق وما صار إليه الواقع التاريخي؟ وما الصورة الإجمالية التي تفضي إليها المقارنة بين هذا وذاك؟ وما الذي يحفز الميل المفرط إلى استدعاء هذا الاتّفاق كلّما اختلّ ميزانٌ في دولةٍ من دول هذه المنطقة؟ نحاول تلمّساً لأجوبةٍ عن هذه الأسئلة في عجالتنا المقبلة.
٭ كاتب لبناني
أحمد بيضون