ماذا يعني «تدويل» المثلث والنقب والجليل؟

حجم الخط
0

في ثلاثة أخبار نشرت بتهميش بارز في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قرأنا كيف تضامن «العالم» هذا العام مع قضايا «فلسطينيي الداخل»؛ ففي بلغاريا بادرت سفارة فلسطين بالتعاون مع اتحاد الصحافيين البلغار إلى إقامة ندوة بمناسبة اليوم العالمي لدعم «الأهل في الداخل»، وبعدها بثلاثة أيام، أحيت سفارة فلسطين في بوخارست اليوم العالمي لدعم «حقوق الفلسطينيين في الداخل»، حيث شارك في الندوتين محمد بركة.
أما الجامعة العربية فقد أصدرت بيانًا أكدت فيه أنه «تنفيذًا لقرار مجلس جامعة الدول العربية بالدعوة إلى إحياء يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني تؤكد على دعم صمود فلسطينيي الداخل عام 1948 في أرضهم ودفاعًا عن حقوقهم..» وعلى «جبهة» ثانية أقيم على شرف الاحتفاء بيوم التضامن العالمي «مع جماهير شعبنا في الداخل» مهرجان مركزي في رام الله وبالتزامن معه، أقيمت مهرجانات تضامن في غزة وبيروت وقلنسوة.
ما هو يوم التضامن العالمي هذا؟
قد تعتبر المحاورة التي أجراها الصحافي وديع عواودة مع محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل، ونشرت على صفحات جريدة «القدس العربي» في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير المنصرم، واحدة من المقابلات المهمة التي أعطاها بركة بعد تسلمه موقعه القيادي الجديد، قبل ستة عشر شهرا، لشمولية مواضيعها وما طرحه من مواقف واضحة أحيانًا، ولا أقل أهمية لتغييبه، أحيانًا أخرى، رأيه الصريح إزاء قضايا سئل عنها وآثر إغفالها أو تناولها بترميز يترك القارئ بين منزلتين ليشقى ويحتار على دروب المجاز وعسر التفسير وجنوح الفكر والخيال.
قد يكون تشخيصه لخطورة ظاهرة تسفيه أدوات النضال والطعن في الأطر الوطنية التمثيلية الناشطة بين المواطنين العرب في إسرائيل، واحدًا من المواضيع المهمة المفصلية، لأنه يفضي، كما يجزم بركة، إلى «تجريدنا من كل عناصر التنظيم السياسي الجماهيري» ويساعد من يسعى إلى تفتيت وجودنا الجماعي ودك بنانا الاجتماعية والسياسية، التي بدونها لن تستطيع أقلية قومية الحفاظ على هويتها وتراثها والصمود في وطنها؛ وعلى أهمية ذلك التشخيص يتركنا بركة من غير دليل واضح يرشدنا إلى طريق النجاة، فهو يكتفي بتكرار بعض العناوين العريضة مرفقة بشذرات عما يزمع تنفيذه في المستقبل من دون أن يصرف ذلك في أرصدة معرّفة بزمانها ومكانها وآليات تطبيقها، بينما، بالمقابل، نجده يذكرنا مجددا ببديهية لازمت وجودنا منذ «بُرشتت» إسرائيل في شرقنا وأمعن ساستها في تشتيتنا ودق أسافين الفرقة في كل فخذ بيننا وبطن وظهر لنا، وعلى نثر بذور التشكيك بين الجماهير وقياداتها السياسية في جميع مواقعها الشعبية أو الحزبية أو النقابية، إلا من استقام منهم ومشى على وقع عصا «موسى العظيم».
لن أتناول في مقالتي جميع المحاور التي وردت في تلك المقابلة، لكنني سأقف، علاوة على ما ذكرته، عند قضية «التدويل» التي جاء على ذكرها بركة وشكلت عنوانًا مثيرا ولافتا في مقابلته، كان من المفروض أن يستفز قيادات الجماهير العربية أو على الأقل بعضها وبعض النخب المهتمة والمختصة في التنظير لوسائل النضال التي على جماهيرنا تبنيها في مسيرة كفاحها ضد سياسات القمع والقهر الإسرائيلية، لاسيما في عهد الحكومة الحالية التي تغمد سيوفها في حلوق العرب وترمي، مميطة آخر رقعة من لثام القرصان، الأقمار في سمائنا وتستهويها كالورْق تسقط في رحلات العبث والصيد الجنونية.
في الواقع استحدث بركة ما سماه «اليوم العالمي للتضامن مع فلسطينيي الداخل» بعد انتخابه رئيسا للجنة المتابعة العليا، وفي أعقاب حظر الحركة الإسلامية الشمالية وإعلانها حركة خارجة عن القانون، وقرر أن يكون الاحتفال بهذا اليوم في الثلاثين من يناير من كل عام آت. لم أستوعب شخصيًا ماذا يعني الإعلان عن هذا اليوم؟ وإلى ماذا تهدف لجنة المتابعة العليا من ورائه؟ وما معناه الواقعي؟ وأي خطاب سياسي سيملأ ثناياه؟ وإلى أي ضفة سيأخذنا؟ لكنني تساوقت، وأخال أن كثيرين مثلي، افترضوا أن الفكرة من ورائه هي خلق آلية نضال سياسية يكون مركزها الإعلام وأدواته، وروحها كشف الحقائق من على منصات «عالمية»، ومن خلال تجنيد وسائل إيضاح مهنية ومعطيات موثقة يستعرضها الخبراء والناشطين والقادة (لغاية الآن معظم النشاطات العالمية كانت محصورة بمشاركة رئيس لجنة المتابعة بركة) كي تكشف عن أوضاع الجماهير العربية وتفضح ما تعانيه من تمييز عنصري وسياسات قمعية في جميع ميادين الحياة، وعلى أمل أن «يصحو العالم من كبوته»، ويعبر عن دعمه وتضامنه وإسناده لمطالب الأقلية العربية في العدالة والمساواة، كمواطنين كاملي الحقوق المدنية الإسرائيلية والقومية الأقلياتية الفلسطينية؛ أي أنها خطوة في سبيل استجلاب ضغط العالم الغافي على إسرائيل العنصرية، من أجل تغيير سياساتها القمعية الممارسة بحق خُمس من مواطنيها العرب.
لم أقرأ عن موقف للجنة المتابعة العليا من شأنه أن يضيف مكنونا سياسيا جوهريا يتعدى ما وصفته كمفهوم تعبوي جائز يبرره الإعلان عن يوم التضامن المستحدث؛ مع أن البعض نزع إلى إضفاء بعد «مشفّر» في لجوء محمد بركة، العضو القيادي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إلى وصف ذلك اليوم كتضامن مع «فلسطينيي الداخل» أو مع «جماهيرنا في الداخل»، وهؤلاء فسروا اختياره هذا بابتعاده عن إرثه الشيوعي، وعن مواقف حزبه التقليدية من تعريف مكانة الأقلية العربية وعلاقتها القانونية والسياسية والمواطنية مع إسرائيل. لقد نفى بركة هذه الاحتمالية في مقابلته مع «القدس العربي» وأكد على انتمائه الشيوعي والجبهوي، لكنه، زوّد في المقابلة نفسها المتابعين لممارساته القيادية بما يضعف نفيه أو يفنده، فهو حين يعلن أن يوم التضامن العالمي هو خطوة على طريق «تدويل» قضية الأقلية الفلسطينية يعزز تساؤل من تساءلوا عن وجهة لجنة المتابعة العليا، وإلى أين يبحر معها بركة ومن معه ومعظمهم كانوا هناك وما برحوا مواقعهم ومواقفهم.
فماذا يعني «التدويل» في حالتنا؟ وهل خطر ببال مطلق التسمية مثلًا ما قرره العالم في حالة تدويل القدس وفق القرار 181 وهل يطالب بمصير مشابه؟ أو هل يطالب بالتوجه إلى المحافل الدولية لوضع الأقلية الفلسطينية تحت وصاية العالم؟ وهل ستطالب عندها لجنة المتابعة بتجميد/ بتبديل مكانتنا/ جنسيتنا كمواطنين في دولة إسرائيل ولأي جنسية بديلة، فلسطينيةً مثلًا؟ (تذكروا أن ليبرمان ينتظركم عند المنحنى) يجب توضيح المقاصد فمن الواضح أن هذه ليست الإمكانيات الوحيدة التي يسوغها مطلب التدويل.
ومن غير المقبول ولا المعقول أن تنفخ هذه الشعارات بهذه الطريقة، وتطلق من دون أن تربط للأمان، وترفق بما يبررها ويشرح عن فوائدها وعن أعراضها الجانبية إذا وجدت، وابقاؤها في الهواء الطلق كفقاعات الصابون هو فعل عديم المسؤولية، ورميها في دهاليز السفارات الشقيقة قد لا يضر لكنه لا يكفي؛ بينما يبقى إهمال رأي الشعب وقبول الجماهير للفكرة هو العنصر الأهم، وهو ما قد يفسر عزوف هذه الجماهير عن مساندة المؤسسات القيادية والأحزاب السياسية وابتعادهم عن الانخراط في ما يشبه المشاريع وما يشبه الابتكار.
لقد مر أكثر من عام على انتخاب بركة رئيسا جديدا للجنة المتابعة، وأنا أومن، بخلاف بعض المغرضين ممن يهاجمون مؤسساتنا القيادية والأحزاب وقادتها بهدف التيئيس والتجريح والتفتيت، أنها أهم مؤسسة قيادية قائمة بين الجماهير العربية في إسرائيل، إلا أننا انتظرنا طويلًا لإحداث التغييرات التي وعد بها محمد بركة، لكنه لم يف حتى يومنا بما وعد.
لم يكن انتخاب بركة لرئاسة لجنة المتابعة سهلًا، فلقد احتاج إلى ثلاث جولات وكثير من المناورات لضمان فوزه على منافسيه. قد يكون ما جرى في حينه عائقًا في وجهه وحائلًا دون إقدامه على ما هو يعرف أنه ضروري لإكساب لجنة المتابعة عناصر جديدة تضخ في شرايينها قوة الدفع الضرورية لإقلاعها، فلقد قلت في الماضي إنني وكثيرين مثلي عقدنا أكبر الآمال على انتخابه رئيسًا لأنه قائد مجرب محنك صبور ذكي حكيم، لكنني اليوم أخشى ألا ينجح في الإقلاع في هذه الأنواء، فما «ورثه» من يواطر ما زالت مدلاة من جميع جوانب سفينته الكبرى وتشكل عمليًا كوابح أمامه تعيقه كقبطان وتعرض سفينته/ سفينتنا إلى المخاطر والغرق.
في مقابلته المذكوره عدد بركة ما يكفي من المخاطر التي نواجهها كأقلية عربية في إسرائيل، فعلاوة على عزوف الناس عن السياسة الذي وصفه بـ»الكارثة الإستراتيجية» أقلقه العنف المستشري بيننا والجريمة المعقدة والطائفية والفردانية وغيرها، لقد كان كالنطاسي الحذق المجيد في تشخيص المرض، فهل سيشرع في إعداد الدواء؟ كان الناسك توما يقول: «لو كان الهدف الأعظم للقبطان هو الحفاظ على سفينته من الغرق لأبقاها في الميناء إلى الأبد»، فالسفينة سفينتنا، وبعيدًا عن التباسات «التدويل» ومتاهات « التدوير»، إرفع جميع المراسي واقلع بها، فلقد إئتمنتَ قبطانًا عليها.
كاتب فلسطيني

ماذا يعني «تدويل» المثلث والنقب والجليل؟

جواد بولس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية