يعد مانويل كاستلز واحداً من أهم علماء الاجتماع الذين انشغلوا في العقود الماضية بدراسة دور أدوات الاتصال الحديثة في خلق حركات اجتماعية جديدة. وقد صدر له في هذا السياق عدد من الكتب، كان آخرها كتابه «شبكات الأمل والغضب: الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت» الذي تولّدت فكرته بعيد الانتفاضات العربية.
وقد حاول من خلال هذه الكتاب أن ينطلق من فكرة سابقة كان قد طرحها في كتابه «سلطة الاتصال»، وهي فكرة ترى أن علاقات السلطة تؤسّس المجتمع، لأن أولئك الذين يملكون السلطة يبنون مؤسسات المجتمع، وفقاً لقيمهم ومصالحهم بالإكراه، أو عبر آليات رمزية، لكن وكما يرى فوكو فإن السلطة عادة ما تفرض ولادة سلطة (مقاومة) مضادة، إلا أن ما يميز هذه المقاومة في عصرنا هذا، وفقاً لكاستلز، هو أنها أخذت تتشكل من خلال التحول في وسائل الاتصال.
ففي السنوات الأخيرة، كان التغيير الجوهري في مجال التواصل هو تزايد استخدام الإنترنت والشبكات اللاسلكية منصات للتواصل الرقمي، وهي شبكات يصعب إلى حد كبير على الحكومات أو المؤسسات السيطرة عليها؛ الأمر الذي أفسح المجال أمام الشبكات الاجتماعية أو «شبكات الغضب والأمل» للتشكل والاحتجاج.
الانترنت والحراك الاجتماعي
خلاصة فكرة كاستلز هنا أن الإنترنت هو من بات يلعب دوراً كبيراً في الحراك الاجتماعي، رغم إشارته هنا إلى أن الانترنت ليس بإمكانه أن يكون مصدراً للسببية الاجتماعية، لأن الحركات الاجتماعية تنشأ من التناقضات والصراعات الاجتماعية، وتعبّر عن ثورات الشعب ومشروعاته الناتجة من تجربته المتعددة الأبعاد.
ومع ذلك وفي الوقت نفسه لا بد من تأكيد الدور الحاسم للتواصل في تشكيل وممارسات الحركات الاجتماعية في الوقت الحاضر، كونه يحمي الحركة من القمع، ويضمن التواصل بين الأفراد داخل الحركة ومع المجتمع ككل. ولتأكيد رؤيته هذه، حاول كاستلز أن يدعم نظريته من خلال دراسة تأثير الإنترنت في ولادة حركات اجتماعية في البرازيل وإسبانيا وآيسلندا، كما أنه أولى أهمية خاصة، في فترة صدور الطبعة الأولى للكتاب 2012، لدراسة الحركات الاجتماعية العربية بعيد 2011.
وفي الحالة المصرية يؤكد كاستلز على أنه مع عام 2009 اشترك ربع عدد السكان في مصر في الإنترنت لكن النسبة كانت أعلى بكثير بين من تراوحت أعمارهم من 20 إلى 35 عاماً للمجموعات السكانية في القاهرة والإسكندرية، وبعض المدن الأخرى، وبالتالي لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في الثورة المصرية، وقام المتظاهرون بتوثيق الحوادث بوساطة هواتفهم المحمولة، وبثوا الفيديوهات التي صوروها إلى الناس في أرجاء البلاد وفي الخارج أيضاً عبر فيسبوك ويوتيوب، مع بث مباشر في كثير من الأحيان، ولذلك فإن الناشطين قاموا بتخطيط الاحتجاجات على فيسبوك ونسقوها عبر تويتر، ونشروها بوساطة رسائل الهواتف المحمولة النصية.
نقد أطروحة كاستلز في سوريا
لعل ما دعانا إلى إعادة التعريف برؤية كاستلز، هو صدور الترجمة العربية لكتابه «شبكات الغضب والأمل» عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو ما يعد فرصة مناسبة للقارئ العربي، لتتكون لديه خلفية أفضل عن رؤية كاستلز التي باتت من السرديات الأكثر شيوعاً بين الباحثين الدارسين للبواكير الأولى للانتفاضات العربية؛ كما أن صدور الطبعة العربية قد تكون مناسبة جيدة لإعادة النظر من جديد في هذه السردية خاصة في عالمنا العربي، الذي لم يشهد مراجعات وقراءات جديدة لموجة الاحتجاجات مقارنة بالحفريات الميدانية التي قام بها بعض الباحثين الغربيين في السنوات الماضية، التي أعادت النظر في بعض السرديات التي قرأت بداية الاحتجاجات بوصفها تعبر عن ثورات شبابية لا عنفية، أبطالها مواقع التواصل الاجتماعي، بينما هُمِّش دور الشبكات التقليدية في الحشد لهذه الاحتجاجات.
وللمقارنة بين رؤية كاستلز وبعض الرؤى الأخرى التي حاولت إعادة النظر في سرديته، يمكن أن نشير، في السياق السوري بالأخص، إلى دراستين:
الأولى هي الدراسة التي اعدها رايناود ليندرز وستيفن هايدمان حول «شبكات المنتفضين المبكرة في سوريا». أما الثانية فهي للباحثة التركية بايلر أصلان عن عملية تعبئة الناشطين السوريين وتقنيات الاتصال الحديثة.
في الدراسة الأولى يبين كلا الباحثين من خلال دراستيهما لبداية تشكل شبكات الاحتجاج في مدينة درعا، أن الدور الأساسي لبنائها لا يعود الفضل فيه إلى شبكة الإنترنت، بل لثلاث شبكات تقليدية (القبلية، العمالة، وشبكات الجريمة) إذ توفر العشائر مصدراً أساسياً للتكافل والهوية والتكيف أو البقاء الاقتصادي والاجتماعي. ففي أوقات الأزمات المالية، يعتمد أفراد العشيرة على الدعم المادي، كما أن العمالة المهاجرة (الدائرية) والمتوجهة إلى الخارج من درعا، غالباً ما كانت منظمة عبر شبكات اجتماعية واسعة، تقوم أحياناً على الانتماء العشائري، لكنها تقوم أيضاً على مدينة أو قرية الأصل، أو كلاهما. ومع غياب مكاتب عمالة مؤسساتية وفّرت هذه الشبكات للعمال المهاجرين موارد حيوية ساعدتهم على البقاء والعمل، والأهم من هذا، فقد وفّرت الشبكات الاجتماعية صلات مع مستخدِمين محتملين، وملجأ أو منزلاً، مما جعل الدرعاويين يمضون فترات طويلة من حياتهم خارج البلاد في رفقة درعاويين آخرين. كما ساعدت الإقامة الطويلة في الخارج على صياغة توقعات عما يجب أن تكون عليه سوريا، وخلقت سخطاً بخصوص ما تقدمه سوريا في الواقع وتجعلهم عرضة لعوالم مختلفة من الروابط والدلالات التي تنشر بذور الاستياء. هنا نجد أن الشبكات التقليدية وليس شبكة الإنترنت هي التي وفّرت القاعدة الأساسية للحشد الاجتماعي في المدينة مع انطلاق الاحتجاجات.
في السياق ذاته الباحث عن رؤية بديلة عن سردية الإنترنت، حاولت الباحثة التركية من خلال مقابلات أجرتها مع مسؤولي صفحة الثورة السورية 2011، أن تدرس دور ناشطي الإنترنت في قيادة الاحتجاجات على الأرض؛ أو صياغة قاعدة ومَنّصة يمكن لقوى المعارضة الالتقاء عليه في هيئة جبهة معارضة سياسية موحدة.
وقد بدا للباحثة من خلال المقابلات أن هؤلاء الناشطين لم يكونوا قادرين على التأسيس لعلاقة ثقة مع باقي الناشطين عبر الإنترنت، ولذلك لم يجدوا أمام هذا الواقع سوى الاعتماد على أدوات الاتصال القديمة، عبر التواصل مع الناشطين الذين تربطهم بهم علاقات صداقة أو قرابة، ما يبني بشكل سريع وفعال علاقات الثقة بين المشاركين في الاحتجاجات. كما تبنوا آليات تقليدية في التواصل من خلال الحديث مع الناشطين وجهاً لوجه، عبر تشكيل مجموعات صغيرة على هيئة دوائر؛ تتألف كل دائرة من خمسة أشخاص، وتسعى كل دائرة إلى تعبئة عدد مُعتَبر من الناس. وبعد النجاح في الوصول إلى عدد كبير من الناس فإنهم كانوا يحتشدون في المساجد، حيث آليات السلطة تكون أقل قدرة على الضبط مقارنة بباقي المجالات الأخرى.
نصل من خلال دراسة بايلر أصلان إلى أن الشبكات والأماكن الاجتماعية التقليدية (المسجد) هي التي شكلت القاعدة الأساسية لحشد المنتفضين ضد النظام، لأن النشاطات الإعلامية عبر الإنترنت لم تكن قادرة على خلق حالة من الثقة لإقناع أعداد كبيرة من الناس للانخراط في الفعل الاحتجاجي اليومي، وهي خلاصة تتعارض مع التعميمات التي طرحها كاستلز في كتابه الأخير.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو