مع أواخر ثمانينيات القرن الفائت، شهدت العاصمة الإيرانية طهران اتساعاً كبيراً على مستوى سكانها وأحيائها، كما عانت من سوء مستوى الإدارة والخدمات في ظل سنوات الإرهاق والحرب التي شهدتها البلاد. وأمام هذا المشهد، غدت «مدينة الله» مدينة غريبة (ذكورية، إقصائية) لغالبية الشباب والنساء والطبقة الوسطى، ما دفع الرئيس البراغماتي هاشمي رفسنجاني في عام 1989 ليطلب من غلام حسين كرباشي (طالب اللاهوت الأسبق والمتحول إلى دراسات التخطيط الحضاري) إعادة تنظيم المدينة.
وفي غضون سنوات قليلة شهدت المدينة تحولات على مستوى الإرث البصري للثـــــورة الخميــنية، إذ تم استبدال الغرافيتي الثوري تدريجياً باللوحات التجارية، كما تحولت «حدائق الأحزان» شيئاً فشيئاً إلى مجالات عامة جديدة تمثلت في 600 حديقة عامة وأسواق تجارية، ما أفسح المجال لسياسات مرح جديدة، بدل سياسات الأحزان السابقة التي «حفظت الإسلام حياً» على حد تعبير آية الله الخميني.
وأمام هذا الواقع الجديد، وصف السوسيولوجي آصف بيات (الذي كان يعمل على جلب النشاطية الإسلامية إلى عالم «نظرية الحركات الاجتماعية»)، في مقالة له نشرت عام 1996 هذه التحولات بأنها تعبر عن «قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي في إيران»، إذ شهدت إيران توجهات اجتماعية ودينية جديرة بالانتباه في مرحلة ما بعد الخميني، وهي النزعة التي جسدها التيار الإصلاحي في فترة التسعينيات. ووفقاً لبيات لا تمثل مرحلة ما بعد الإسلاموية توجهاً علمانياً أو معادياً للإسلاميين، بل تمثل محاولة لقلب الاستراتيجية الغرامشية السابقة التي سعى الإسلاميون لتبنيها من أجل بناء هيمنة أخلاقية وسياسية في المجتمع، من خلال التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، والتاريخية بدلاً من النصوص الثابتة. وبالتالي فهي تهدف لإجراء مزاوجة بين الإسلام والاختيار الفردي والحرية، والديمقراطية والحداثة من ناحية أخرى.
ورغم صياغة هذا المفهوم بناء على مقاربة أوضاع الجمهورية الإسلامية في إيران التسعينيات، إلا أنه سرعان ما تبناه عدد من الباحثين الغربيين (راينهارد شولز، جيل كيبل) للإشارة إلى ما اعتبروه تحولاً عاماً وتوجهاً في استراتيجيات الإسلاميين، أو لدراسة تجارب إسلامية أخرى، كالتجربة الإسلامية التركية التي أبدى فيها العديد من الباحثين تأثرهم الواضح برؤية آصف السابقة، ولذلك سعوا للكشف عنها في تركيا الثمانينيات والتسعينيات. فقد اعتبر الإسلاميون الأتراك في تلك الفترة أن الإسلام عقيدة من شأنها أن تنظم المجالات الاجتماعية والسياسية عبر دولة إسلامية، ولكن بنهاية التسعينيات، هجر الإسلاميون هذه الأفكار وبحثوا عن نظام سياسي ديمقراطي. وجسدت حركة الميلي جورش بقيادة نجم الدين أربكان هذه الإسلاموية التركية الجديدة وتجربة الرفاه. ووفقاً لدراسة الباحث التركي إحسان داغي «ما بعد الإسلاموية على الطريقة التركية»، كانت الانتخابات المحلية التركية هي بداية الإعلان عن رؤية ما بعد إسلاموية جديدة بقيادة حزب الرفاه الإسلامي. فبعد الكفاح من أجل بلوغ الحاجز الانتخابي، أدرك الحزب حاجته للوصول إلى فئات جديدة من المصوتين من غير ذوي التوجهات الإسلامية، ولذلك بدأ الحزب يتناول في حملاته الانتخابية قضايا اجتماعية بعيداً عن الثيمات الدينية، ما ساهم في اجتذاب جمهور عريض من الناخبين. وهذا ما تحدثت عنه السوسيولوجية التركية يسيم آرات في كتابها المهم «النساء الإسلاميات في معترك السياسة»، إذ تطرقت إلى هذه السياسات الخطابية الجديدة والمتعددة التي استخدمتها نساء الحزب داخل المجال اليومي للنساء العاديات التركيات (حفلات الشاي والأزياء والجلسات النسائية).
ففي إسطنبول وفي الأحياء الفقيرة التي يقطنها المهاجرون الجدد مثل: حي باغجيلار أو سلطان بلي أو العمرانية ، تحدثت نساء الحزب عن نقص الخدمات والاحتياجات المادية مثل الطرق غير الممهدة والمدارس غير المفتوحة، بينما في المقاطعات الأغنى كمنطقة كاديكوي، قمن بتنظيم عروض للأزياء الإسلامية في أشهر الكازينوهات لجذب النساء غير المهتمات بالحزب، كما طلبن من النساء اللواتي يزرن عائلات علمانية ارتداء حجاب أصغر حجماً ولباس إسلامي حداثوي أقرب للمظهر العلماني، لاختراق الحدود بين الإسلاميين والعلمانيين من خلال أعراف اللباس. وجاءت لاحقاً – وفقاً لهذه السردية – تجربة العدالة والتنمية لتعزز من ملامح التجربة ما بعد الإسلاموية في تركيا، إذ حافظ الحزب على علاقته بالإسلام في المجال الاجتماعي، فيما هجره كبرنامج سياسي.
ولعل المتابع لما نُشر من دراسات أو كتب حول التجربة الإسلامية التركية في الساحة العربية، يرى أن السردية السابقة كانت السردية الأكثر رواجاً، وتُعتبر النموذج الأصل لما بعد الإسلاموية ولدقة نظرية آصف بيات، وهذا ما يرفضه بشدة السوسيولوجي التركي في جامعة (كاليفورنيا، بيركلي) جيهان توغال. إذ نعثر في دراسته «الإسلام وإعادة تجذير المحافظية التركية» المنشورة في كتاب «ما بعد الإسلاموية، تحرير آصف بيات، ترجمة محمد العربي/جداول» على قراءة مغايرة وعميقة، بل جريئة لسردية ما بعد الإسلاموية في تركيا، من خلال بلورته لتصور آخر لتاريخ الإسلام والسياسة في تركيا الحديثة، مما ساهم برأينا في تكوين صورة بديلة عن صورة حزب العدالة والتنمية المشتهاة عربياً.
وتقوم فكرة جيهان على أن المجال السياسي والديني في تركيا مال نحو «الإسلاموية» في فترة السبعينيات ولغاية التسعينيات، بيد أن الإسلاميين لاحقاً لم ينتقلوا إلى مرحلة ما بعد الإسلاموية (كما أشار إحسان داغي وبيات) بل شهد الوسط الإسلامي بقيادة المتمردين الجدد (عبد الله غول، وأردوغان) تحولاً إلى المحافظية (سياسات يمين الوسط كما عُرف في تاريخ الحياة التركية).
والمحافظية تعني قبول التحديث وتخيل الأمة التركية بوصفها حاملة للقيم الإسلامية والتركية الأصيلة، وهي تؤيد الملكية الخاصة وتعادي الاشتراكية، وتؤمن أن الأمة متجانسة للغاية، وبالتالي يجب القضاء على الاختلافات الداخلية والمعارضة الاجتماعية كشرط مسبق للتغير والنمو الصحي. ولشرح هذه النقطة يعود بنا توغال إلى حروب بدايات تأسيس تركيا الحديثة التي قادها مصطفى كمال والتي لم تشكل عامل جاذبية لتحرير الوطن الأم فحسب، ولكن أيضاً للواجب الإسلامي القاضي بضرورة مقاومة الاحتلال الكافر. وباختصار أصبح التركي مرادفا لـ «المسلم» فكان التعريف الكامن للأمة شبه ديني من البداية. وبالتالي من الأفضل –وفقاً لتوغال- النظر إلى العلمنة التركية كصراع مستمر على طبيعة ونمو «الإسلام الرسمي»، وهو ما ظهر في مرحلة الثلاثينيات عندما أيدت القطاعات الحاكمة تحجيم دور الإسلام الرسمي في المجال العام، أما القطاعات التابعة في الكتلة الحاكمة والمتمثلة في عناصر البيروقراطية والطبقة الوسطى ووجهاء الإقليم، اتجهت للدفاع عن مساحة أكبر للدين تحت السيطرة العلمانية، وغالباً ما نجحت في الحصول على تنازلات مهمة من القطاع الحاكم. في تلك الأثناء، شكل حزب الشعب الجمهوري الكمالي القطاع المهيمن من هذه الكتلة، فيما عبرت عن الطبقات الدينية التقليدية أحزاب متنوعة منذ نهاية الخمسينيات مثل حزب عدنان مندريس (الحزب الديمقراطي) وسليمان ديميريل. وبالإضافة إلى هذا الانقسام، كان هناك عامل جديد أثر بشكل كبير على طبيعة العلاقة بين السياسة والإسلام، وقد تمثل بتمييز بعض الجماعات الدينية مواقفها عن مواقف الطرق الصوفية التقليدية، وعمدت هذه الجماعات «ما بعد الصوفية» (النورسيين والسليمانيين) إلى أن تكون أكثر قومية وأكثر تنظيماً مقارنة بالجماعات الصوفية التقليدية. وأضافوا إلى هذا المركب جرعة قوية من خلال إقامة رابط بين الإسلام والقومية التركية. كما لم يعتبروا تطبيق الشريعة أحد أولوياتهم، وبالتالي وفقاً لتوغال فإن تحول جماعات «ما بعد الصوفية» إلى القيم الغربية قد سبق ما سمي لاحقاً بمرحلة ما بعد الإسلاموية.
واستمر هذا الانقسام بين الكمالية والمحافظية حتى مرحلة السبعينيات عندما شكل الإسلاميون تحدياً لكلا الطرفين. ففي ظل استجابة مؤسسات رجال الأعمال والأحزاب العريقة لاحتياجات المشاريع الصغيرة في ظل اقتصاد الإحلال محل الواردات، اندفع رئيس اتحاد الغرف الصناعية نجم الدين أربكان إلى تأسيس حزب النظام الوطني عام 1970. وبدا وعد أربكان بقطاع ثالث للعوام حاجزاً في مواجهة القوى المتصاعدة للأعمال الكبيرة. ومن ثم جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 لتعيد تعريف السياسة الإسلامية باعتبارها نضال المستضعفين الثوري. وشكلت رسالة تحميسية للعمال الفقراء الصغار الذين اندفعوا نحو المدن الكبرى بحثاً عن فرص العمل. ولنزع فتيل الحماسة هذا، أصدر الجيش دستوراً جديداً للبلاد 1982 عرف «النزعة التركية» بالإشارة إلى الإسلام بشكل غير مسبوق في سبيل استيعاب المطالب الشعبية. مع ذلك كان الإسلاميون أول المستفيدين من هذه السياسات الجديدة حيال الإسلام، ثم أبدوا لاحقاً نجاحاً كبيراً على مستوى الانتخابات وإدارة البلديات.
الجديد بحسب توغال ظهر في أعقاب أزمة 1997–1998، إذ سعى الجـــــيل الجديد من الإسلاميين إلى تقليد النموذج المحافظ الأمريكي (الذي كان النمــــوذج المفضل دوماً لدى مؤسسة النخــــبة التركــــية) على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديني، وهذا ما عبر عنه عبد الله غول في زيارته لواشنطن عــــام 2001 بتشبيه عناصر حزب العدالة والتنـــــمية بـ «واسب تركيا» في إشارة إلى جمـــاعة البيض البروتستانت المرتبــــطة باليمين الجمهوري والديني الأمريكي، الذي يعــــتبر أن هذا العنــــصر هو أصل الولايات المتحدة الأمريكية بينما الآخرون مجرد دخلاء.
ولذلك كان من الواضح أن القيادة الجديدة ـ وفقاً لتوغال ـ تريد أن تستصلح أراضي يمين الوسط في السياسة التركية، من أجل أن تعيد تكوين ذلك التحالف الذي هدف القطاع التابع في الكتلة الحاكمة أن يكونه سابقاً، وهذا برأيه سبب انخراط أعداد كبيرة من ساسة يمين الوسط والمثقفين والداعمين في صفوف هذا التحالف. وبذلك عزز حزب العدالة والتنمية التركي من موقعه في إطار المحافظية التركية، كما نجح في دمج إسطنبول في الدوائر الرأسمالية العالمية. كما تحالف في هذا السياق مع جماعات ما بعد الصوفية التي كانت قبيل انقلاب 1997 الأكثر عرضة للهجوم من قبل الإسلاميين، إذ تصوروها حليفة للدولة التركية والولايات المتحدة، بيد أنها تحولت مع بداية الألفية الجديدة إلى حليف وثيق في مواجهة العلمانية القمعية (كما في حال جماعة غولن) التي قامت بالأساس على فهم علمي للإسلام وعلى دعم ليمين الوسط، كما اعتنقت الجماعة إيديولوجية قومية تركية، وتركز المدارس التي تبنيها حول العالم على التتريك أكثر من الأسلمة. وبذلك فإن الرؤية الاندماجية بين العدالة والتنمية وجماعات ما بعد الصوفية لم تعبر عن تحول تدريجي نحو ما بعد الإسلاموية، بل أشارت إلى إعادة تجذير المحافظية التركية. ومن هنا يتوصل توغال إلى استنتاج جريء مفاده أن تجربة حزب العدالة والتنمية لم تكن تعبر عن ازدهار ونضج التجربة ما بعد الاسلاموية في تركيا، بمقدار ما مثلت استيعاب وانزياح للإسلاموية تجاه المشروع المحافظ، خاصة أن النقاشات العامة في الحالة ما بعد الإسلاموية كما طرحها بيات، تدور حول كيفية التوفيق بين الإسلام والحرية، أما في تركيا اليوم، فتدور النقاشات والصراعات السياسية حول كيفية التوفيق بين الثقافة الإسلامية وقيم غربية معينة قائمة بشكل أساسي على نمط المحافظية الأمريكية بدلاً من قيم الحرية الغربية. وعلى الرغم من أن المحافظية الإسلامية التركية هي أكثر تعددية من إسلاموية السبعينيات. مع ذلك هناك إقصاء فعلي للعديد من الفئات في إطار هذه المحافظية الذي يبدو قابلاً للجميع. هذه الفئات تتماثل مع الفئات التي تم إقصاؤها من المشروع الأمريكي المحافظ مثل الطبقة العاملة المنظمة، مع وجود خصوصية تركية تتمثل في إقصاء بعض الأقليات على الرغم من المطالب الواضحة بإدماجهم.
٭ كاتب سوري