ما بعد الغباوة

القصة أكبر مما حظر النائب العام النشر فيه، وهو ما نلتزم بعدم الخوض في تحقيقاته، وإن كان المعلوم بالضرورة يســبق كل تحقيق جرى أو يجري، ومن المعلوم من القانون بالضرورة، أن «الخاص يقيد العام»، وتلك قاعدة بديهية مجردة، يعرفها أي دارس مبتدئ للقانون، ومفادها أن القانون الخاص لنقابة الصحافيين يقيد كل إجراء أكثر عمومية.
والمادة (70) من قانون النقابة قاطعة في ألفاظها ومعانيها، وهي تلزم بحضور عضو من النيابة العامة مع نقيب الصحافيين – أو من يمثله – في حالات الاحتياج إلى تفتيش مبنى لنقابة، وهو شرط لزوم، لم يتوافر أبدا في واقعة اقتحام الأمن مبنى نقابة الصحافيين المركزي، ولم تذكر النيابة العامة في بياناتها أنه حدث، ولا ذكره النائب العام في قراره الذي كان متوقعا بحظر النشر، فقد صار حظر النشر عملا شبه روتيني في قضايا الرأي العام، وإن كان أثره لا يكاد يتحقق، فقد تلتزم به الصحف والإذاعات والتلفزيونات المصرية، لكن غيرها لا يلتزم بالطبيعة، فوق أن وسائط التواصل الاجتماعي الأحدث لا تلتزم بشيء، وهو ما يعني مزيدا من إثارة الرأي العام، وبالقصص الحقيقية أو المفبركة، فالممنوع مرغوب في مطلق الأحوال، وقرارات حظر النشر لم تعد تجدي في دنيا السموات المفتوحة، والثورة الهائلة في وسائل الاتصال.
وبالنشر أو بدونه، لا يصح التهوين من شأن ما جرى، فهذه أول مرة تجري فيها الواقعة المخزية، هذه أول مرة تقتحم فيها قوات الأمن نقابة عامة، وليس من سابقة تدانيها في التاريخ المصري الحديث والمعاصر، وقد كانت نقابة الصحافيين بالذات هدفا لانتهاكات نظم قمع توالت، وكانت كل سلطة تحرص على وجود عضوي لها داخل النقابة، وفي صورة عناصر أمن، يحمل بعضها كارنيه عضوية نقابة الصحافيين، وكانت جماعة الأمن ـ في ثياب الصحافيين ـ تؤدي أدوارها بانضباط مكشوف، وتنسق مع أجهزة أمن خارج مبنى النقابة العريقة، وتستدعيها أحيانا لدورات تحرش على سلالم نقابة الصحافيين الشهيرة، وعلى نحو ما حدث زمن المخلوع مبارك، وفي وقائع لا تحصى، كان أشهرها وقائع التحرش الجنسي وانتهاك أعراض صحافيات في 25 مايو 2005، كانت الاحتجاجات وقتها تقودها حركة «كفاية»، وكان يوم الانتهاكات هو يوم الاستفتاء الصوري الأسود على تعديل عبثي في الدستور، وتكررت الوقائع ذاتها مرات، وتقدمت فيها بلاغات للنيابة العامة، ولم ينته تحقيق فيها إلى غايته، ووضعت كلها في الأدراج المظلمة، وعلى نحو ما قد يتكرر الآن في بلاغات نقيب الصحافيين، فلم نسمع عن قرار للنيابة في بلاغات انتهاكات 25 إبريل 2016، التي كانت صورة طبق الأصل من انتهاكات 25 مايو 2005، ربما مع حذف مقاطع انتهاك الأعراض، وكما قوبلت الانتهاكات القديمة بصمت الرضا المكتوم من جهات التحقيق، فقد كان الصمت الجديد مشجعا على المزيد من الانتهاكات، والوصول بها من درجة انتهاك أعراض الصحافيات إلى انتهاك عرض نقابة الصحافيين ذاتها، والتعامل معها كأنها وكر إجرام، واقتحامها بعشرات من ضباط الأمن، واعتقال صحافي مع صديقه من داخلها، والذهاب بهما إلى حيث ذهبت مئات، بل آلاف مؤلفة من شباب المصريين، وإلى تحقيقات يعرف الكل طبائعها ونتائجها، وإلى ظلام السجون الذي يلف عشرات الألوف من المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب.
وليست القصة في «ريشة» على رأس الصحافيين، وكما تدعي مذكرة غبية سربتها وزارة الداخلية بالقصد أو بالغفلة، فالريشة على رأس القانون، كما يفترض، وليست على رأس ضباط الانتهاكات والتعذيب والرشاوى و«الضرب في المليان»، وقد تعمدت وزارة الداخلية اقتحام نقابة الصحافيين دوساً للقانون، وتصورت أن بوسعها دهس رؤوس الصحافيين، وهو ما لن يحدث أبدا، فنقابة الصحافيين لا تخص الأعضاء والمنتسبين، ونقابة الصحافيين كانت وستظل قلعة الحريات العامة، وما فشلت فيه عصابة مبارك وحبيب العادلي، لن ينجح به أي أحد آخر، مهما تصور أن القمع يدهس الأرواح، فقد لجأ المخلوع مبارك إلى تأميم وتدجين النقابات المهنية منذ أوائل التسعينيات، واستطاعت نقابة الصحافيين كسر الحصار قبل غيرها، وتوالت انتخاباتها الداخلية المنتظمة، وخاضت معركة مشهودة ضد قانون أصدره مبارك أواسط التسعينيات من القرن الفائت، وأرغمته على ابتلاع قانونه الذي أصدره برلمانه المزور، تماما كما انتصر الصحافيون على السادات، وأرغموه على ابتلاع قراره بتحويل نقابتهم إلى ناد اجتماعي، وكان الفضل لإرادة الصحافيين الموحدة، ولدعم هائل حصل عليه الصحافيون من نقابات الطبقة الوسطى، ومن كافة القوى الحية في مصر، وهو الدعم ذاته الذي تلقاه النقابة الآن، ويعينها في حرب الحرية ضد سلطان القمع والانتهاك وجريمة الاقتحام الأمني، فلن يكون نصيب المقلدين لجرائم حبيب العادلي بأفضل من مصيره، حتى إن بدت فرص الإعادة والتكرار مغرية للظالمين، فهم لا يدركون مغزى ودور نقابة الصحافيين في حوادث مصر المعاصرة، فقد كانت سلالمها الشهيرة مهدا لثورات خلعت الرؤوس، وكانت ترمومترا صادقا دقيقا لحرارة غضب الشعب، وويل للذين تغضب عليهم السلالم، فليس لهم من مصير يرتجى، سوى أن تهوي بهم الأقدار من حالق إلى الفالق. نعم، لا خوف على نقابة الصحافيين، فليس لها سوى أن تنتصر، وعار الاقتحام الأمني لا يأخذ من قوة نقابة الصحافيين، بل أمدها بطاقة تماسك وحيوية كانت في أشد الاحتياج إليها، وأحرقت مراكب «جماعة الأمن» من حملة كارنيه عضوية نقابة الصحافيين، فليس من صحافي، يستحق الصفة، يوافق أو يسكت على ما جرى، والذين يوافقون ويهللون صارت أسماؤهم معروفة مكشوفة، لجأ بعضهم إلى التخفي، واعتصم آخرون بالوقاحة، وكشفوا عن أولوية انتسابهم لجهاز الأمن، وفضحتهم مذكرة التعليمات الغبية الموجهة إليهم من ضباط الإعلام الأمني، وسقطت عنهم أوراق التوت، وتصوروا أن السند الباقي هو وزير الداخلية، وسوف يسقط وزير الداخلية اللواء مجدي عبد الغفار، كما سقط قبله أحمد الزند وزير العدل المطرود، ولاحظوا ـ من فضلكم ـ أمارات وجوههم الكالحة، فالوجوه التي شاركت في حفلة تطبيل للزند، هي الوجوه ذاتها التي حضرت «حفلة زار» وزارة الداخلية، ودافعت وتدافع عن عبد الغفار، وعن غباوة الاقتحام الهمجي لنقابة الصحافيين، فليس بوسع نظام أن يتحمل «غباوات» وزير الداخلية الحالي، وسواء كانت الرئاسة تعلم أو تجهل واقعة الاقتحام قبل حصولها، فإنها ـ على ما نظن ـ تركت عبد الغفار لمصيره، حتى إن تأخرت مواعيد إقالته قليلا أو كثيرا، ولو كانت لدى عبد الغفار لمسة من كرامة شخصية ومهنية، لاستقال الرجل من منصبه حتى قبل واقعة الاقتحام، فقد تعرض لتوبيخ علني غير مسبوق من الرئيس السيسي، والواقعة مشهورة ومذاعة في افتتاح المبنى الجديد لوزارة الداخلية بأكاديمية الشرطة، وسأله فيها الرئيس عن احتياطات حماية المبنى الجديد، وبدا أن عبد الغفار قد ابتلع لسانه، فقد كلف الآلاف من الضباط والجنود بحماية مقر إقامة سيادته، وبتكاليف تصل إلى عشرات الملايين من الجنيهات، وهو ما كان موضع غضب واستنكار ساخر من السيسي، الذي أنبأه ـ علنا ـ بطرق حماية تكنولوجية تكلف أقل، وتكفل له مراقبة أدق لما يجرى في وزارته، ومغزى الواقعة ظاهر، فهو قرار إقالة بالقلم الرصاص، ربما لا ينقصه سوى صدور قرار جمهوري لاحق بختم النسر، فقد صارت وزارة الداخلية بممارساتها عبئا فوق طاقة تحمل الرئيس، واستنفد عبد الغفار فرصته، وفشل في تطهير جهاز الأمن، وفي تطوير كفاءته، وفي ردع انفلات أعداد متزايدة من الضباط وأمناء الشرطة، توالت فيها جرائم قتل المواطنين بالسلاح «الميري»، وتكشفت شبكات فساد لكبار الضباط، وعلى طريقة ضباط «عصابة الدكش»، الذين اعترفت عليهم الداخلية نفسها في بياناتها الرسمية، وكشفت عن تلقيهم رواتب شهرية ثابتة من عصابات البلطجة. وقد لا يجادل أحد في احتياج المصريين إلى الأمن، ولا في الإشادة بتضحيات الشهداء في الحرب ضد جماعات الإرهاب، لكن مواجهة الإرهاب لا تعني دوس حريات الناس، ولا غلق سبل السياسة السلمية، والحرية وحدها هي التي تكفل كشف العيوب والثغرات والاختراقات، وتطوير جهاز الأمن وتنقيته وتطهيره، فستر «عورات» جهاز الأمن لا يخدم أحدا، ولا يفيد في حفظ أمن المواطنين، ولا حتى في حفظ أمن النظام، وما من بديل سوى ردع انفلات الجهاز الأمني، ووقف صراعات الأجهزة التي تستنزف قوة النظام، ويتحالف بعضها مع جماعات البيزنس والنهب العام، وتدير المؤامرات والخيانات الداخلية، وحرق الاقتصاد، وتدمير جسور السياسة، وتريد أن تحتوي الرئيس، وتورطه في صدام مع الشعب، وعلى طريقة الاقتحام الوقح لمبنى نقابة الصحافيين المصريين.
وعند أول صدام، تكشفت «الخيبة الثقيلة» للجنرال مجدي عبدالغفار، الذي دخل التاريخ بصفته «الوزير العفريتة» أو «الوزير النيجاتيف»، فقد أراد الرجل مفرط البؤس، أن يلبس جلباب حبيب العادلي، ونسى شيئاً بسيطاً جداً، وهو أن شعب حبيب العادلي لم يعد له وجود، فقد تفتح وعي ملايين المصريين مع الموجات المتلاحقة للثورة، ولم يبق للوزير البائس سوى حشد عشرات من «المواطنين الشرفاء» بالتعبير المصري الساخر، وتوزيع أطعمة وأشربة ونقود، وتوفير «أوتوبيسات مواشىي لنقلهم إلى ميدان حصار نقابة الصحافيين، وكانت الهزيمة مدوية لسلطة القمع، وبدلالة الحشد الكثيف الهائل للصحافيين المصريين، فقد اجتمعوا كما لم يجتمعوا أبداً في مقر نقابتهم، وكانت قراراتهم حاسمة مدوية وهزموا الطغيان «عشرة/صفر» في مباراة الحرية، والحقيقة أن ما جرى من الداخلية كان ذروة الغباوة، أو قل إنها «ما بعد الغباوة» جرياً على معانى «ما بعد الحداثة» و«ما بعد التاريخ».
لكنها «الغـــــباوة» المشكورة على أي حال، فشكراً للغباوة التي منحت قبلة الحياة لكفاح الصحافيين المصريين، والشعور بالخطر يصنع التحدى.

٭ كاتب مصري

ما بعد الغباوة

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لا كرامة لمن أضاع الكرامة
    حيث سلم من يدعون الثقافة البلد لمجموعة فاشلين مثلهم
    اللهم فك أسر أسد الأمة الدكتور مرسي ليضع حد لكل هذه التجاوزات ممن إغتصب البلد
    القادم هو ثورة حقيقية وليست كالتي سبقتها وستكون محاكم ثورية تبدأ أولا بمحاكمة القضاة الفاسدين والإعلاميين المضللين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    عنوان المقال ، ما بعد الغباوة ؟!
    الجواب هو :

    المزيد منها !

    لكن السؤال من الذي صنع هذه الغباوة ؟!
    انه هذا العهد الذي ايده من ايده بمنتهى الغباوة ايضاً فكان هذا نتاجها !

    فمن يزرع الريح عليه ان يعلم انه سيحصد العواصف !

    و لله الأمر من قبل و من بعد !

  3. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة ! ...لابد لليل ان ينجلى:

    (( فقد صارت وزارة الداخلية بممارساتها عبئاً فوق طاقة تحمل الدكر )) !!
    فى نفس مقال اليوم اتهم الكاتب وهو مُحِق اتهم حسنى الحرام والعادلى البلطجى بتكوين عصابة والمُلاحظ انة لم يتهم حبيب العادلى وزير البلطجية بمفردة وانما اتهم حسى الحرامى!!!
    وكذلك فى كل كتاباتة السابقة دائماً مااتهم الكاتب الدكتور مرسى رئيس الجمهورية المختطف من الجيش دائماً مااتهمة بالمسؤلية عن انتهاكات وزراة البلطجية !!! بالرغم من ان الرجل كان محاصر فى قصر الرئاسة بتواطؤ من كل اجهزة الدولة ( جيش وشرطة ومخابرات عامة ومخابرات حربية وامن دولة وقضاء وإعلام وبلطجية طبعاً البلطجية جهاز من اجهزة الدولة ))
    لماذا إذاً الآن وفى اسوأ عصور الظلم والظلام والانحطاط يريد لنا الكاتب ان يبيع لنا الوهم مُعَبأ فى زجاجات وإن الدكر كالعادة كويس وكل اللى حوالية وحشين !! وان الدكر طيب وكل اللى حوالية اشرار!!
    كفاية بقى مللنا من الاسطوانة المشروخة دى !!!
    كفايانا بقى نسيب الحمار ونمسك فى البردعة !!
    وياريت حد من الكفتجية يبقى يسلم لنا على اهل الشر !!!

إشترك في قائمتنا البريدية