نتابع مثل كثيرين هذه الحرب المروّعة في سوريا، بـ»رواياتها» المختلفة ـ ما عدا رواية الشعب السوري التي نكاد لا نسمعها اليوم؛ وكأنّنا نسينا أنّ هناك ثورة خاضها السوريّون ولا يزالون ـ فما يستأثر بالإعلام اليوم إنّما هي الرواية الروسيّة والرواية الأمريكيّة، وما يتخلّلهما من فوضى واضطراب في تصريحات هذا الطرف أو ذاك؛ حتى لكأنّها صورة من رواية «دون كيشوت»، على نحو ما يقدّمها صاحبها سيرفانتس من حيث هي مُؤلَّف كتبه عدة مؤلِّفين. وعند هذا الحدّ يبدو الأمر شبيها بتلك الكرّاسات العتيقة المكتوبة بالعربيّة التي يزعم سيرفانتس أنّه عثر عليها، مصادفة في درب القناة في طليطلة.
ثم أخبره موريسكيّ مستعجم من أصل مغربي أنها مُؤلّف عنوانه «تاريخ دون كيخوته دي لامانشا، كتبه المؤرّخ العربي Cide Hamete Benegeli».
هل أريد لهذه الثورة أن تظل غامضة معلّقة، أو أنّ الرأي استقرّ؛ وإنْ في تردّد على أن يكون محور الصراع «داعش» في الظاهر، والإسلام نفسه في العمق؛ على ما يجسّمه هذا التنظيم المتوحّش من خطر ليس على الدين فحسب، وإنّما على تطلّعات الشعوب ونضالها؟ وأطروحات هؤلاء إنّما تنمّ عن جهل مروّع باللغة والفقه والتاريخ والفلسفة وما إليها ممّا ينبغي أن يتزوّد به المسلم الحديث. وخير دليل على ذلك مواقفهم الموتورة وما يشيع فيها من أوهام وأحكام فاسدة لا يقوم لها سند من نصّ أو اجتهاد. بل إنّ صنيعهم ضرب من كهانة مستحدثة أو من «عودة المكبوت» برغم أنّ الدعوة الإسلاميّة نهضت منذ أوّل حدثانها على مقاومة الكهانة. وواضح أنّه ليس من حقّ أيّ كان أن يعترض على حقّ الفرد في أن يجد في الدين ـ أيّ دين ـ سعادته أو خلاصه أو معنى يضفيه عل حياته، أو أن يصدر عن رغائبه وأمانيه أو عن ميوله وآماله أو عن حاجة ماسّة إلى شيء خارج عنه، كلّما اكتنفه حادث لا رادّ له. فله أن يتحيّز للغيبيّات أو الروحانيّات. وله أن يعتقد في أنّ ما لا يراه أهمّ وأسمى ممّا يراه. فلكلّ في هذا شأن يغنيه.
قد يرى البعض أنّها مؤامرة، والمؤامرة من الأساطير المنتشرة عند كثير من العرب والمسلمين، وربّما عند غيرهم أيضا؛ باعتبارهما قدرا لا يمكن ردّه. وهي صورة نافقة راجت تجارتها وكان من أهمّ أهدافها ترسيخ الانطباع بأنّ ما يواجهه العرب «وحش هائل لا يمكن الوقوف في طريقه»؛ فما بالك بصدّه.
ولهذه الأسطورة بريقها الذي لا يكاد يخفت، حتى يعود أشدّ مضاء وقوّة. وهناك أجهزة «سرّية» تمتلك قدرة فائقة على تحويل الأنظار من قضيّة إلى أخرى، وعلى تشويق متتبعي أخبارها، كلما تداركها فتور أو إخفاق ما، فإذا هي تفكّ أنشوطتها وتجدّد فاعليّتها في إيهام الناس بأسطورة تفوّقها. ولعلّ أبلغ مثال على ذلك وأنمّ، هذه الحرب الضروس على «داعش»، فقد كادت تصرف الأنظار عن ثورة الشعب السوري ومحنته، وعن مطالبه في الحرّية والكرامة.
وقد يبدو مثل هذا الصّنيع طبيعيّا في عصر كعصرنا، تتكفّل فيه الصورة بصنع الحدث وإذاعته. على أن الأخطر في هذا كله إنما هو تكريس حالة العطالة الفكريّة وثقافة الإذعان والانصياع عند قليل أو كثير من «النخب» العربيّة التي تباهي بوقوفها إلى جانب أنظمة تسلّطيّة، أو عند طوائف أخرى من شعوبنا تقنع بأسطورة المؤامرة والغزو الثقافي؛ وما إلى ذلك من مظاهر النكوص الفكري عن حياة العصر إلاّ في مظاهرها الماديّة النفعيّة؛ أو عن أيّ منزع عقلاني يقبل بالتعدديّة الثقافيّة واللغويّة والإثنيّة، سواء في شرق البلاد العربيّة أو غيرها.
نعم قد تكون هناك «مؤامرة» على ثورة الشعب السوري، ولكنّها صارت مكشوفة حتى وإن تقنّعت بألف قناع وقناع. وبين ما نراه وما يقولونه، وبين ما يقولونه وما يصمتون عنه ويحلمون به؛ هناك تحوكُ المؤامرة أفوافها، ولا هي بالهيروغليف المصري ولا هي بالخطّ المسماري! ولكن شتّان بين هذه المؤامرات المكشوفة التي تستهدف ثورات الشعوب وثرواتها، وتلك التي تتسلّل إلى الثقافة بأقلام عربيّة، وقد تكون من شدّة الخفاء وإيقاع الدّلسة في الكلام، فلا يفطن القارئ إليها ولا إلى براعة بهلوانها وهو يلوي بالكلام ويخالف به عن جهتـــه والمقصود من استعماله.
على أنّ في الحديث عن المثقّف العربي بصيغة المفرد، اختزالاً مخلاّ لا ريب. فهو سواء في واقعه وحقيقته أو في متخيّل الناس ووجدانهم، صور متراكبة يصعب أن نحوك أفْوافها أو أن نظهر تواشجها واشتباكها، ولكن يمكن أن نقف على أسباب اختلاف المواقف منه ودوافعه. هذا الاختلاف الذي يبلغ حدّ التباين بالجملة إنّما مردّه إلى التعتيم الذي تمارسه أغلبيّة أجهزة الإعلام والدوائر السياسية العربيّة المتنفّذة على أيّ دور يمكن أن تنهض به الثقافة المستنيرة؛ إن لم يكن تشويهها أو اختزالها في الأغنية والرقص والمسلسلات التليفزيونيّة؛ على تفاوت قيمتها.
ولا يدرك هؤلاء أن القوّة السياسيّة الغاشمة التي لا تستند إلى عقل وثقافة رشيدة، يمكن أن تفقد صوابها، فلا يعود بمقدورها سوى أن تدمّر، لتخلق لها معارضين ومناوئين ومقاومين يخرجون من كلّ الفئات التي تنالها الآثار السلبيّة الناجمة عن استخدام القوة استخداما أعمى.
ما يعنينا هنا هو هذا الزجّ بالإسلام في أتون صراع لا علاقة له به من قريب أو بعيد. وليس أدلّ على ذلك من هذه الصيغة التي ما انفك الإعلام الغربي يبرزها على نحو صارخ، من خلال الجمع بين الإسلام والإرهاب أو استخدام مصطلح «الإسلام المتشدّد»، فيما الأمر يتعلّق بقراءات غير سياقيّة تلوي عنق التاريخ، ولا تعبأ بتحوّلاته وانقلاباته.
وهي صيغة تَنمّ أو هكذا يُراد بِهَا ولَهَا على علاقة ملتبسة بين طرفين: ظاهرة عابرة مثل الإرهاب عرفتها مجتمعات كثيرة، وديانة عظيمة لم ينقطع باقي وشمها حتى في أوروبا نفسها. على أنّ الأمر، فيما يبدو، يتعدّى ذلك إلى ما هو أشدّ خطورة عند هؤلاء الذين يصدرون عن نزعة المركزيّة الأوروبيّة الأمريكيّة ويرون في الآخر «العربيّ» أو «المسلم» عدوّا يجب قهره ودحره.
ومن عجيب المفارقات أن يلتقي هؤلاء بأقرانهم من «الدواعش»على اختلاف أهدافهم. وربّما لا عجب، فأنساق الفكر الإطلاقي كثيرا ما تجمع بين الأشتات وتلحق النّقيض بالنّقيض. بل هم يلتقون في صياغة صورة الإسلام المخيف، مع صموئيل هتنغتون صاحب نظريّة «صِدام الحضارات»، تلك التي تقوم على اعتبار اختلاف الحضارة الغربيّة عن الحضارة الإسلاميّة، حقيقة ثابتة لا تتغيّر، وعلى أنّ الإسلام والغرب يمثّلان أهمّ خطوط المواجهة العالميّة في القرن الحادي والعشرين.
إنّ هذا الصراع الذي يضيق حينا، ويتّسع حينا؛ يطفو اليوم على السطح بشكل غير مسبوق، ليخلط أوراقا كثيرة، ويذكي التعصّب في الضفّتين، ويعلي من من موجة «الإسلاموفوبيا» التي تجتاح العديد من الأوساط الفكريّة والسياسيّة في الغرب، وتقدّم الإسلام في صورة همجيّة تبذر الخوف، بل الفزع والرعب منه. وقد يكون من الطبيعي أن يختلف العرب بشأن هذا «الغرب»، وأن يخشاه بعضهم ويرى فيه فيلا هائجا يدوس كلّ ما يعترضه دون أن يلوي على شيء. وهي خشية لها ما يبرّرها منذ غزو العراق خاصّة وإطلاق يد إسرائيل في فلسطين.
على أنّه مهما يكن من أمر التاريخ وتقلّباته وحوادثه الدامية، فينبغي أن لا ننسى أنّ ثقافة الإسلام جسّدت في أوروبا تلاقي هويّتين: عربيّة وإسبانيّة. وكانت في صورتها الأندلسيّة رمزا حضاريا للتّواصل الحرّ المبنيّ على الإرادة الواعية، التّواصل الذي نتعلّم منه جميعا أن الثقافات يمكن أن تتحاور وأن يخصب بعضها بعضا. فقد تلاقت في الأندلس ثقافات شتى ذات أصول إسلامية ومسيحيّة ويهوديّة؛ في أفق من عالميّة رحبة قائمة على التّنوّع، حتى أنّ بعضنا يجد في الأندلس نواة تاريخيّة ونموذجا مكتملا لثقافة المستقبل وامتدادا للإطار الكونيّ في جذوره الأقدم في فينيقيا واليونان. وهي صورة لعالم رحب، مركزه في كلّ نقطة على سطح الكرة الأرضيّة، ومحيطه في كلّ نقطة على هذا السّطح.
ومع ذلك فقد يكون هؤلاء المتعصّبون المهووسون، منّا ومنهم، يستهدفون المركز والمحيط في ذات الآن. على أنّ السّمات المشتركة التي تصنع وعي البشر وضميرهم ووحدتهم، يظلّ صوتها أعلى؛ أو هكذا يجب أن يكون.
لا أجد أفضل في التعريف بالمثقّف الحرّ الذي يمتلك روحا وثّابة تقتحم المجهول، وتفضّ أغلاق النفوس حتى تسخو بمدّخر قوّتها؛ من قصيدة «عنواني» للشاعرة الهندية أمريتا بريتام:
اليوم أزلتُ رقم منزلي، واقتلعتُ الصفيحة المعدنيّة التي كانت تحمل اسم شارعي،
وكلّ صفائح الشوارع الأخرى/ لكن إذا كنت تصرّ على أن تجدني
إذن في كلّ مكان حيث تـُشرق نفس أبيّة/ اعلمْ أنّ ذاك هو منزلي.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
مقال تأريخي مشوق ولكن لا تنسى يا أستاذ منصف أن لكل فعل ردة فعل قد تتجاوز الفعل نفسه
ولا حول ولا قوة الا بالله
مرةً أُخرى، «داعش» وما أدراك من «داعش»؟
أخي العزيز منصف،
إذا كان لا بدَّ من الحديث عن نظرية المؤامرة، فهذا التنظيم المُسَمَّى تلفيقًا سينمائيًّا بـ«داعش» لا يعدو أن يكون امتدادًا لإسلامٍ سياسيٍ مصنَّعٍ غربيًّا بامتياز، على مدى أكثر من قرن – وخصوصًا على مستوى المدِّ بالمال والسلاح، كمرحلةٍ أولى. وبما أن الغرب الاستعماري له أذناب متمثِّلة كلَّ التمثُّل في الطبقات الحاكمة المستبدة التي تشكلت، أو أُعيد تشكيلُها، بعد نشوء ما يُسَمَّى بـ«حركات التحرُّر الوطني»، فإن هذه الطبقات الحاكمة ساهمت، دونما تردُّدٍ أو تلكُّؤ، في التبلور السريع لهذا التنظيم على مستوى المدِّ بـ«المجاهدين الأشاوس»، وهو المدُّ الأهم، كمرحلةٍ ثانية – وبالأخص حينما أدركت بضعةٌ من هذه الطبقات الحاكمة أن نهايتَها وشيكةٌ، لا محالَ، إن لم تساهم تلك المساهمة أمام الخطر الناجم من الثورة الشعبية في سوريا وأمام الخطر القادم من اتساعها المحتوم إلى ما وراء تلك الحدود التي اندلعت في إطارها منذ أكثر من خمسة أعوام. لهذا السبب، ينقسم عناصر هؤلاء «المجاهدين الأشاوس»، في مرحلة المد تلك، إلى ثلاثة أقسام رئيسية، على أقل تقدير:
أولاً، قسم من الإسلاميين المتطرفين (أو المتشدِّدين)، فعلاً، ومعظمهم من الذين أُفرج عنهم من سجون النظام الأسدي المجرم، تحديدًا.
ثانيًا، قسم من المرتزقة والمأجورين «غير العرب» الذين تمَّ شراؤهم بالمال السياسي من الخارج من أجل التطوُّع في هذا «الجهاد المقدَّس».
ثالثًا، قسم من رجال المخابرات والأمن و«الشبيحة» الذين تمَّ تدريبُهم على حروب الإرهاب في مراكز تدريبية محلية وأجنبية سرية للغاية.
إذن، فإن مهمَّتَي الإدارة والتنفيذ تقعان على عاتق القسم الثالث، أولاً وآخرًا، وبإيعازٍ خفيٍّ مُسْبَقٍ من أزلام النظام الأسدي المافْيَوي الطائفي المجرم في بلاد الشام و/أو من أزلام نظيره الموالي في بلاد العراق.
أما من حيث التعريف بالمثقَّف الحرّ «الذي يمتلك روحًا وثَّابة تقتحمُ المجهول، وتفضُّ أغلاقَ النفوس حتى تسخو بمدَّخر قوَّتها»، كما تفضلتَ في النهاية، فكلنا يعلم أن هذا المثقَّف الحرَّ لم يكن له حضور، ولا حتى وجود، في أية بقعة من بقاع هذا الوطن العربي الحزين الذي يقع بين المحيط والخليج. وهذا هو الدرس الثوري، والثوري بعينه، الذي ينبغي على كل مثقَّفٍ عربي أو غير عربي في هذا الوطن أن يتعلَّمه في هذا الزمن العصيب.
«داعش» وما أدراك من «داعش»؟: «داعش» وما أدراك ما «داعش»؟