في مطلع الفيلم تطيل كاميرا ماهر أبي سمرا الوقوفَ على مشهد البنايات المتلاصقة، لكن من واجهاتها الخلفية. لا شيء يتحرّك في ذلك المشهد الذي انتظرنا، في اللحظات الأخيرة لثباته على الشاشة، أن يرتفع صوت في الصالة يتساءل إن كان ذلك عائدا إلى خطأ تقني. لكننا، في الآن نفسه، كنا نفكّر في استخلاص المعنى من وراء التركيز على مشهد عادي، نموذجي ومتكرّر حتى ليبدو الطابع المميز لعمارة بيروت. لا شيء يتحرّك وراء تلك النوافذ، كما وراء الشرفات التي تحوّلت إلى نوافذ عريضة، بعد أن أقفلت بألواح زجاج لتصير، من الداخل، غرفا صغيرة.
قبل توقّف الكاميرا شاهدنا واحدة من تلك الغرف، ضيّقة، لكن يمكن أن تتسع لسرير الخادمة، ولمساحة إضافية تتيح لقدميها الوقوف عند خروجها من السرير أو عودتها إليه. هنا، في هذه البيوت، لم يلحظ مهندسو الأبنية تخصيص غرف للخدم، إذ كان في حسبانهم أن من سيقيمون هنا هم من غير القادرين على ذلك الرفاه. لكن شيئا ما جرى في خارج بعيد، في بلدان آسيوية تتردّد أسماؤها في الفيلم، أتاح ذلك وجعله ممكنا.
ولم تظهر أيّ من الخادمات عند أيّ من تلك النوافذ، ليحدث المشهد الذي نعرفه من محاورة تبدأ بين خادمتين ظهرتا معا، صدفة أو اتفاقا، لنسمع لغتهما تصدح بين هنا وهناك. ذلك المشهد الصامت، أقصد الواجهات الخلفية للأبنية، ذكّرنا الفيلم، أو أظهر لنا، أنه لهنّ. في تلك المساحة القليلة بين الواجهات المتقابلة يمكن لهن أن يظهرن على الخارج، الذي هو داخل في الآن نفسه ما دام أنه يحصل في تلك المساحة التي باتت حيّزهن. كما أنهنّ، في بيوت مثل هذه، وبين عائلات تنتسب إلى شرائح طبقة هي أدنى مما تعنيه عبارة الطبقة الوسطى، سيكون صعبا الالتزام بما ذكر في الفيلم عن أن ظهور الخادمة، أو وجودها، ينبغي أن يكون معدوما. فهنا، في العائلات الكبيرة، حيث تضيق البيوت عن اتساع العائلات، سيكون الاختفاء صعبا، ثم أن العائلات، التي قُدّر لها بالصدفة أن تكون مخدومة، تميل إلى التخفيف من فصل الخادمات عن مجرى عيشها. لا يحتاج الأمر إلا إلى بعض تذكّر حتى يرى فرد العائلة أنه، في ماضيه، لم يكن بعيدا عمن يستخدمها الآن.
لهذا يدخل صوت ماهر أبي سمرا، مخرج الفيلم، ذاكرا كيف أنه، في ما يتعلّق بعلاقته بخادمة أهله، يشعر بالذنب، بل بالعار، لمجرّد أنها هنا. وهذا هو حال بعض من صوّرهم الفيلم آتين إلى «المكتب» إما ليختاروا خادمة من بين فتيات الصور المعروضة لهم، أو ليستبدلوا واحدة بواحدة، أو ليوصوا على أخرى بعد أن انقضت مدّة سابقتها، بحسب العقد. واحدة من هؤلاء الأخيرات، وهي امرأة في نحو الستين لم يمض وقت طويل على نزولها من ضيعتها، راحت تصف من كانت عندها بأحسن الأوصاف مطلقة عليها، مرّة بعد مرّة، كلمة «حبيبتي»، مؤكّدة هكذا على أن لا صلة لها بالثقافة المعيّنة للفارق الضخم الذي يصعب تضييق هوّته بين الخادمين والمخدومين، وهذا ما جعلها ترى خادمتها قريبة مثل «أي واحد من العائلة» كما يقول كثيرون من ساكني مثل تلك الأبنية.
لكن ليس هذا حال جميع المخدومين الذين أتوا إلى ذلك المكتب الذي صُوّر فيه أكثر الفيلم. كان مدير المكتب، زين، كأنه يدير مؤسّسة في أوج نجاحها العملي. لا يتوقّف هاتفه، ولا هاتف الموظفة مساعدتُه، عن الرنين. كما أنه دائم التنقّل، والتدخين أيضا، بين غرف المكتب، مصرّفا أعمال المكتب ومجيبا على الأسئلة التي يطرحها عليه الفيلم.
وحدهم المخدومون هم من نرى ومن نسمع. الخادمات لا يظهرن. هن هناك وراء البوابة التي فُصلت عن المكتب ببوابة زجاجية محجّرة لا تحجب خيالاتهن حين يقتربن منها. كما أننا شاهدنا كتف واحدة منهن، من الخلف، وقد سمعنا صوت إحداهنّ مرّة أو مرّتين، لكن للضرورة ما دام أن المخرج أراد إقصاءهنّ أو إخفاءهن لكي لا يطغين على الفيلم، لمجرّد ظهورهنّ فيه.
لقد أُبقين في الظلال، وفي الإيحاء المتولّد من غيابهن، ابتداء من مشهد واجهات الأبنية الخلفية، ومن ذلك السرير الضيق، في مطلع الفيلم، الذي لم نرَ صاحبته. لكنهن حاضرات، بل طاغيات الحضور طالما أن الآخرين، أولئك الذين أعطاهم الفيلم عنوانه، لم يستطعن الحضور بالقدر الذي يمكنهم من أن يكونوا موضوعه. ربما لأنهم عاديون أكثر مما ينبغي، أو حقيقيون أكثر مما ينبغي. ثم أنهم لن يستطيعوا، رغم كثرة نماذجهم واختلاف واحدهم، أو واحدتهم، عن سواه/سواها، أن يظهروا كفريق أو أن تكون لهم قضية، لذلك كان عليهم أن يستعينوا بالمخرج ليتدخل، بصوته، منظما ذلك الدخول والخروج إلى المكتب، ومذكّرا بأن هناك معنى وراء ذلك التطلّب المفاجئ بسهولة تحقيقه.
*الفيلم الوثائقي «مخدومين» لماهر أبي سمرا حاز جائزة السلام في مهرجان برلين السينمائي وجائزة أفضل فيلم في مهرجان بوينس أيرس، وجائزة VICTOR DOC horizon award في مهرجان ميونيخ، كما حاز جائزة المهر في مهرجان دبي. الفيلم سيعرض في صالة متروبوليس في بيروت في التاسع من شباط/ فبراير الحالي.
٭ روائي لبناني
حسن داوود