ما ينقص الجزائر سبسي وغنوشي

حجم الخط
2

السوسيولوجية المتشابهة لا تعني بالضرورة السير في المسارات السياسية نفسها. هذا ما يمكن استخلاصه من دروس، ونحن نقارن بين تونس والجزائر القريبتين جغرافيا والمتشابهتين اجتماعيا وثقافيا ودينيا، والمختلفتين في توجهاتهما السياسية وخياراتهما الفكرية.
درس تأكد أكثر من مرة خلال العقود الأخيرة، فقد ثارت تونس في وجه حاكمها في ديسمبر/كانون الأول 2010 في وقت اختارت فيه الجزائر الاستمرارية السياسية والركود. اختارت تونس نموذج تنمية متنوعا أكثر ليبرالية وانفتاحا على الغرب، بعد حصولها على استقلالها الهادئ نسبيا. في حين توجهت الجزائر نحو نموذج تنمية أحادي اعتمد على الدولة والقطاع العام (المحروقات) بعد حرب تحرير طويلة ومكلفة بشريا.
خيارات مختلفة لا تجد تفسيرها بما هو موجود في ثنايا المجتمع، رغم أهمية ما ميز فترة الاستعمار، وحتى بعض خصائص الجغرافيا البشرية، التي تمنح دورا أكبر للمدينة والفضاءات الحضرية في تونس، مقارنة بالجزائر، بقدر ما تجده في اختلاف النخب وخياراتها، بل حتى أدوارها وعلاقاتها بمجتمعها في كل حالة وطنية، فقد نجحت المدينة التونسية وبعض القوى الاجتماعية داخلها في إنتاج نخبة متنوعة تتميز بالكثير من التجانس، هي التي قادت التغيير في تونس في المحطات السياسية الكبرى، سواء تعلق الأمر بمحطة بالاستقلال أو بناء الدولة، أو بطرح مسألة المرأة والحريات كما هو حاصل هذه الأيام.
فقد انتجت تونس بورقيبة المحامي، خريج جامعة السوربون، ليقود فيها مرحلة المطالبة بالاستقلال وبناء الدولة. في وقت كان فيه على رأس الحركة الوطنية في الجزائر مصالي الحاج العامل اليدوي، ابن زاوية درقاوة، الذي لم يتجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم. وصف يمكن تعميمه على أحمد بن بلة وحتى هواري بومدين، ابني الريف الفقراء والمعدمين ثقافيا، اللذين لم يتجاوزا مرحلة التعليم الابتدائي في تعليمهما.
لنكون من خلال هذه الأمثلة لبعض وجوه النخبة السياسية والفكرية، أمام أول اختلاف نوعي بين المجتمعين الجزائري والتونسي. فقد حافظت تونس على مؤسسات إنتاج نخبها الفكرية والسياسية (كالصادقية والزيتونة)، نتيجة نوعية استعمارها المختلف (حماية)، عكس ما عرفته الجزائر من استعمار استيطاني طويل. حماية في تونس حافظت على بعض التوازنات الاجتماعية التي استمرت في إنتاج نخبوي نوعي وكمي مقبول، انكسر في الحالة الجزائرية، فلم تعد الجزائر قادرة على إنتاج نخبة متجانسة بالنوع والسمك المطلوبين. فكان اللجوء إلى إنتاج نخب متعددة، بمشارب وتوجهات مختلفة، غير قادرة على التواصل مع مجتمعها ومن باب أولى قيادته. هي التي ما زالت تصر على التخاطب معه إما بلغة فرنسية قديمة من إرث الخمسينيات أو عربية فصيحة، لم تعد مستعملة حتى في الأزهر الشريف. من هنا نفهم لماذا لا يمكن ان تعرف الجزائر نوع النقاش الحاصل في تونس هذه الأيام، حول التقسيم المتساوي للإرث والحريات الأخرى التي اقترحها الرئيس السبسي، ليس لأن المجتمع الجزائري أكثر تدينا أو أكثر محافظة، بدليل أن أغلبية المؤشرات حاضرة في الحالة التونسية، عندما يتعلق الأمر بمكانة المرأة في العمل والدراسة وغيرها من المؤشرات الديموغرافية، كسن الزواج والإنجاب، هي نفسها تقريبا في الجزائر وقد تكون أحسن ربما في بعض الحالات.
فما ينقص الجزائر ليس التحولات الاجتماعية الموضوعية على أرض الواقع، بقدر ما هو دور أكبر جرأة للنخبة التي تعيش حالة انقسام وشلل في القيام بأدوارها، كما يظهر في المجالين السياسي والفكري. فقد فشلت النخب السياسية حتى الآن جزائريا في الوصول الى التوافق حول مشروع حد أدنى للتغيير، كان يمكن ان يؤدي الى اصلاح نظامها السياسي والخروج به من حالة الركود التي يعيشها. كما يظهر عجز النخب الفكرية في قيادة النقاش الاجتماعي الجاد حول قضايا المجتمع، على غرار قضية المرأة والحريات التي ما زالت معطلة في الحالة الجزائرية بكل ما تنتجه من مآس يومية ونزعة قوية الى الهجرة خارج البلد، رغم بعض النجاحات المنجزة في السنوات الأخيرة، التي تبقى في حاجة إلى قوانين أكثر جرأة تجعل الجزائر أكثر توافقا، مع روح العصر.
فما كان ينقص الجزائر تاريخيا هو من يقوم بدور بورقيبة، الذي اقترح قانون الأحوال الشخصية في 1956، والذي تبين مع الوقت أنه كان في الاتجاه التاريخي الصح. كما ينقصها حاليا من يقوم بدور الرئيس القايد السبسي، الذي بادر بوثيقة الحريات والتقسيم المتساوي للإرث وشريكه راشد الغنوشي، الرجل البراغماتي الذي يتحاور ويتوافق معه في نهاية الأمر، حفاظا على مصالح تونس وتميزها العربي الذي وصلته، اعتمادا على هذا الإرث التاريخي التوافقي الذي يزعج الكثير من القوى المحافظة عربيا. تميز يظهر على شكل مجتمع مدني حاضر وفعال كل مرة، للدفاع عن حداثة تونس وتقدمها، كما حصل هذه الأيام في مظاهرات شارع بورقيبة، التي دافعت عن مقترح الحريات والتقسيم المتساوي للإرث، الذي يبدوا «بدعة» غير مقبولة عربيا، تماما كما كان الحال في عام 1956 مع قانون الأحوال الشخصية. فقدر النخبة الجريئة والقريبة من مجتمعها ان تكون دائما في المواقع الأولى للسير إلى الأمام، حتى إن حوربت وتم التشهير بها، كما يحصل ضد الرئيس السبسي الذي كفرته بعض القوى الفكرية والسياسية الراكدة، عربيا تونسيا وجزائريا.
نخبة تونسية عكس، الجزائرية تماما، تميزت على الدوام بنزعة براغماتية، كانت دائما حاضرة تاريخيا كجزء من الشخصية القاعدية للتونسي، هي التي يعول عليها في نهاية الأمر لكي يحصل مستقبلا ذلك التوافق بين السبسي والغنوشي حول موضوع التقسيم المتساوي للإرث، وموضوع الحريات المرتبط به، الذي ظهرت بوادره في اقتراح السير بسرعتين، في تطبيق توزيع الإرث المتساوي، كما جاء في خطاب الرئيس السبسي، الذي لم يحضره الغنوشي يوم 13 أغسطس/آب الحالي، فقد عارضت الحركة الإسلامية وبعض رموزها قانون الأحوال الشخصية البورقيبي في 56، لكنها عادت وقبلت به رغم تحفظاتها التي خفتت مع الوقت. لدرجة أصبح فيها منع تعدد الزوجات، وما عكسه من مكانة متميزة للمرأة التونسية إلى ثقافة اجتماعية راسخة تميز المجتمع التونسي، كل المجتمع التونسي، الذي سيكون من مصلحتنا كجزائريين ومغاربة أن نلتقي معه في الطريق، لكي نبني معه ذلك الكيان المغاربي الموحد الذي عطلته الوطنيات الضيقة بعد الاستقلال، نعتمد فيه على مكامن القوة الحاضرة في كل مجتمع التي ستكون من بينها بالتأكيد، مكانة المرأة والحريات الفردية والجماعية، التي تفترضها كأرضية مشتركة، زيادة على ما يمكن ان تضيفه عبقرية كل شعب لهذا البناء المغاربي المعطل.
كاتب جزائري

ما ينقص الجزائر سبسي وغنوشي

ناصر جابي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن الجاحظ:

    مقال رائع …يحتكم الى الحقيقة و الموضوعية….. بعيدا عن التعصب أو الحسد……أقول دائما لو حكم مثل بورقيبة الجزائر اثر استقلالها لكانت الجزائر اليوم قوة عظمى بمساحتها و ثرواتها و قاطرة القارة الافريقية ….

  2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    بعد المقالة الرائعة للكاتب المغربي “المعطي منجب” المساواة فى الميراث : ثورة داخل الثورة …هاهى مقالة الكاتب الجزائرى ناصر جابى اتت لتؤكد صحة المسار الأصلاحى التونسي واهمية الاختيارات الاجتماعية و الثقافية التونسية التى تلتصق لتطور المجتمع التونسي و التى أيضا و هذا الاهم تستبق هذا التطور …المساواة فى الميراث تحدث عنها المستنير التونسي الطاهر الحداد فى الثلاثينيات من القرن الماضى اى قرابة 100 سنة و ها نحن نصل إلى حلم الطاهر الحداد …كما سنصل إلى حلم السيدة بشرى بن حميد فى تطبيق كل او اغلب ما جاء فى تقريرها الشامل و الكامل …لكى نضع تونس و نهائيا على سكة الانسانية….شكرا لكل المستنيربن فى شمال إفريقيا و الشرق الأوسط الذين ساندوا و يساندون تونس فى هذه المعركة اللذيذة …..معركة الحرية و المساواة …..تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

إشترك في قائمتنا البريدية