إذا كانت للجوائز الأدبية العربية أي دلالة خاصة في تثمين الفائزات أو الفائزين بها، فإنّ طريق جائزة العويس إلى الروائية اللبنانية هدى بركات قد تعرّج كثيرا قبل أن يبلغها، في يقيني الشخصي، ولستُ هنا أقصد إقامة مفاضلات أو أحكام قيمة مع اللواتي والذين فازوا بالجائزة، إذْ أنّ معظمهم يستحقها غنيّ عن القول. وصلت الجائزة، إذن، وقالت لجنة التحكيم إنّ أعمال بركات «طافحة بالفقد والخسران والتيه والعنف والبحث عن معنى في الفوضى العارمة حولها، حيث تكتب بلغة عالية عن الشخصيات والتواريخ، وتنوع في رواياتها بين فنون الكتابة الذاتية والسردية».
وإذا كانت روايتها الأخيرة «بريد الليل» مغامرة جسورة، في معمار الشكل وتجزئة الأصوات الساردة وتقاطع الشخوص والمصائر، وكانت «ملكوت هذه الأرض»، 2012، ذروة عالية في تسخير فنّ الرواية لتكثيف معضلات الوجود البشري تحت وطأة زمان حاشد ومكان طاحن وتاريخ كابوسي، فإنّ «أهل الهوى»، 1993، هي الرواية التي شهدت أقصى البراعة في ممارسة ألعاب الرواية، الحديثة والحداثية، من خلال الموت بوصفه خطّ اللعب الموازي. وعلى سبيل تهنئة الروائية الكبيرة، أجدني أعود إلى «أهل الهوى» تحديدا، ليس دون إعراب عن انحيازي إلى كتلة أعمال تميزت على الفور، منذ عام 1985، فوضعت بركات في مصافّ أفضل ما ارتقت إليه الرواية العربية المعاصرة.
ولقد سبق لي، في تعليق على هذه الرواية البديعة، أن افترضت أننا لم نعد في حاجة إلى إقلاق عظام منظّر فذّ مثل جورج لوكاش، لكي نتيقن من أنّ مسقط رأس الرواية هو الفرد الأعزل، المعزول عن أيّ عزاء، والعاجز عن تقديم العزاء للآخرين. أو، في صدد ما تتناوله هذه السطور، لكي نباغت بركات (الروائية من رأسها حتى أخمص قدميها) متلبسة بألعاب العزلة إياها، حيث صناعة المعنى بوسيلة الفخاخ اللغوية هي التعويض الوحيد عن «القصّ» و«سرد الحكاية» و«رسم الشخصية» و«بناء الحبكة»… تلك الأقانيم الجليلة، التي شهدت سقوطا تاريخيا مدويا في النماذج المعاصرة من نوع أدبي بدأ على هيئة «ملحمة البرجوازية»، ويستوطن اليوم مجاهل «نثر الروح» في سرديات قصيدة النثر.
أولى الألعاب أنّ الرواية لا تدور حول الهوى، رغم أنها تسرّبه ابتداء من الصفحة الثانية: «إنّ من لم يعرف الهوى، والغرام مكتملا كشمس، لا يعرف مكتملا الغرام كفطر نووي عملاق لانفجار واحد وأبدي وثابت، لا يعرف. لا يعرف أن بذرة الموت تنزل في رطوبة الظلمة الملائمة، حين نوقن من اللمسة الأولى أنه هو نفسه، ذلك الجلد بحرارته الملائمة المضبوطة استثنائيا ونهائيا من أجل حرارة جلدنا، بذرة القتل»، ورغم ما تعلنه في آخر سطر: «… أتأمل في فراغي منها، قبل الفجر بقليل، ككلّ أهل الهوى. يا ليل». ولكنّ الهوى وأهله أجزاء متقطعة مبعثرة، رُشقت على مساحة أخرى هي النسيج المحوري الأسفل الذي يشدّ عوامل المقولة المركزية (الفرد الأعزل)، ويغلّف تلك العوالم لكي يتمزق تحت ثقلها، وينفجر بها ويفجرها، مثل… فطر نووي عملاق!
اللعبة الثانية هي أنّ تلك المساحة ليست سوى الذاكرة، المفتوحة مع ذلك على «نسيانات» بطل بركات وليس على استذكاراته، وعلى انخراط القارئ في لعبة الواقعة التي وقعت/ لم تقع (القتل، الهوى، الخطف، الجنون…). وكذلك على قوانين اللعبة الأمّ الأخطر، في تحويل العمل الروائي إلى أحجية ذهنية، ومتاهة رغبات غير قابلة للتحقق، وحين ينقلب نظيرُه، اللعب اللغوي ـ على يد ناثرة ذكية مثل بركات ـ إلى ما يسمّيه جاك دريدا «حقل الإبدالات اللانهائية»، المفتوحة أبدا على احتمالات جديدة.
لعبة ثالثة تتمثل في أنّ المساحة إياها ــ التي تنبسط على امتداد ذاكرة مفتوحة، قوامها نسيانات متكررة، على خلفية امتزاج ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية مع هلوسات غرام جامح مثقل بويلات وطن ــ إنما تعيد، من النافذة الضيقة، إدخال حسّ الملحمة إلى عمل روائي حداثي يُفترض أنه طرد الملحمية من البوابة العريضة! لهذا فإنّ سرد بركات لا يبدو حكائيا صرفا، بل هو متحالف مع القصة القصيرة، والشريط السينمائي، ومجاميع المسرح (الذي تمرست فيه بركات، كما يتوجب التذكير)، والمشهد التشكيلي، والمعطى الإخباري… وعند خلائط مثل هذه تنشطر «الوحدة العضوية» و«الموضوع» و«صوت السرد» وسواها من قواعد التدوين الروائي، إلى قطبين اثنين لا يلوح أنّ ثالثا يتدخل بينهما: التذكّر، وهو سمة الرواية بامتياز، والاسترجاع، وهو سمة القصّ بامتياز مماثل.
فهل تباغت بركات استرسال قارئها في هذه الألعاب، كلها أو بعضها (وثمة في النصّ ما يدعو، حقا، إلى الانشداد والانجرار والاستغراق)؟ أم أنه هو الذي يباغتها، حين يكون استقباله لتلك الألعاب بمثابة تعاقد مع الفنّ الروائي، ذاته؟ في عبارة أخرى، أليست غاية بركات من اجتراح هذه الألعاب، وسواها، هي اجتذاب القارئ إلى مساحة مشتركة بين مؤلف مرسِل بارع يتعمد التركيب، وقارئ مستقبِل متدرب يستطيب التورط في تفكيك التركيب؟ أليس بين أفضل عناصر الإمتاع، في الأدب الحداثي تحديدا، ذاك الذي يقيم علاقة تبادلية وتفاعلية بين مؤلف تخفى في إهاب قارئ، وقارئ فضح التخفي فاستولى على موقع المؤلف؟
صبحي حديدي
ان هدى بركات انسانة خرجت من الحرب اللبنانية بجرح عميق، وعملها كصحافية في البدء جعلها تغوص في ملمات التيه العربي عموما واللبناني خصوصا، هذا الجرح العميق ترجمته في روايتها الاولى حجر الضحك واستكملته في سلسلة الروايات الأخرى، وكمناضلة يسارية بقيت محافظة على رؤيتها من خلال هذا المنظار. وبغض النظر عن فنها الراقي في العملية السردية للعمل الروائي فهي صحافية وكاتبة رقيقة مبدعة صادقة بأحاسيسها، عفوية في مخاطبتها، بسيطة في عيشها. بعيدة كل البعد عن الفكر الطائفي، ولاشك بوجهة نظري انها تستحق اكثر من جائزة،
شكرا لك يا أم ديمة
صديق وزميل قديم