ليست آخر أحزان أهل الغوطة الشرقية حكايةُ الشيخ بسام ضفدع، العضو السابق في المكتب الشرعي لـ»فيلق الرحمن» الجهادي، والذي اتضح أنه كان عميلاً للنظام السوري منذ 2011، وأسهمت مجموعته المقاتلة («لجان المصالحة» في تسمية الشيخ العميل لها، و»الضفادع» حسب التسمية الشعبية) في مساعدة قوات النظام على اقتحام كفربطنا والسيطرة عليها. وكان إجراءً مفروغاً منه أن يسجّل ضفدع، فور خروجه، شريطاً خاطب فيه بشار الأسد هكذا: «سيدي الرئيس المناضل الكبير»، و»كنّا نعرف أنكم على الحق، وأنّ النصر سيكون حليفكم»، ومثلكم يا سيدي يكون درع الأمّة وحصناً لها وقائداً ومرشداً وموجهاً وحامياً».
أم لعلّ حكاية هذا العميل الشيخ ليست البتة ضمن أحزان أهل الغوطة الشرقية، أو لا يتوجب أن تكون؛ بالنظر، أوّلاَ، إلى الأهوال الكبرى الأعظم التي حاقت بهم طوال سبع سنوات، نصفها على الأقلّ تحت وطأة أمثال ضفدع من الجهاديين والشرعيين، الذين تباروا مع النظام في ممارسة العسف والتسلط والقمع والقهر والاختطاف. وبالنظر، ثانياً وتالياً، إلى صَغار نفوس هؤلاء «المشايخ» العملاء، ومقدار ما ينطوي عليه سلوكهم من دناءة وخسة وغدر، وتلاعب بمشاعر بسطاء المؤمنين تحت ستار الإسلام والجهاد؟ ثمّ بالنظر، ثالثاً، إلى حقيقة أنّ عمالة غالبية الجهاديين في الغوطة الشرقية كانت قائمة في كلّ حال؛ إنْ لم يكن لصالح الأسد وأجهزته على مستوى الأفراد، فإنها على مستوى المجموعات لصالح هذا الجهاز الخارجي أو ذاك، وهذه العاصمة أو تلك، ولا اختلاف في جوهر التبعية وطبائع الولاء.
في الغوطة الشرقية مئات الحكايات الأخرى، الملحمية بامتياز، والتي واصلت صناعة الحياة في قلب الأنواء المفتوحة على كلّ الويلات، من حصار التجويع والدواء إلى القصف بالأسلحة الكيميائية، ومن طائرات فلاديمير بوتين إلى قذائف علي خامنئي وتابعه حسن نصر الله؛ فضلاً، بالطبع، عن تصارع زعامات الجهاديين والسلفيين، وبينهما تجّار التحكم بحليب الطفل والخبز كفاف اليوم، ورجالات السمسرة والتهريب والتحكم بالأسعار وفرض الأتاوات. سبع سنوات لم يكنّ عجافاً بأي معنى يخص البقاء البشري البسيط، في وجه وحوش الخارج واستطالاتها في الداخل؛ وذلك رغم الأثمان الفادحة التي توجّب أن تسددها مدن الغوطة الشرقية وبلداتها وقراها، شجرها وزرعها وضرعها، وحقولها التي زنّرت بالخضرة تاريخ دمشق العتيقة مثل جغرافيتها.
صحيفة الـ»غارديان» االبريطانية استطابت اقتباس شريط بالعربية، متوفر على «يوتيوب»، لا تتحدث فيه طبيبة الأطفال أماني بلور، مديرة مشفى الغوطة الشرقية، عن المشاق الهائلة التي تواجهها في عملها كطبيبة، فحسب؛ بل تروي، أيضاً، معاناتها مع مواقف اجتماعية ذات صلة بمكانة المرأة في شرط الحصار. تقول بلور (وننقل بالفصحى ما أوردته بالعامية في الشريط): «أنا أسمع الكثير من الأصوات الناقدة، التي تتساءل مثلاً لماذا لا يكون أطباء رجال هم الذين يستلمون إدارة المشفى. ويحدث أحياناً أن يرفض البعض الكلام معي، كوني مديرة أنثى. نحن النساء في الغوطة أكثر عدداً من الرجال بكثير، وقدّمنا تضحيات من أجل الثورة، وأكثر مما قدّم الرجال. حين بدأ العنف ضد الغوطة وضد الناس، القصف والقتل اليومي، اخترت أن أبقى في الغوطة، كان هناك جرحى كثر ومصابون دائماً، ومرضى بحاجة إلى أطباء. هنالك مجتمع لديه نظرة معينة، وسوف يبقى هكذا إذا بقينا خائفين وملتزمين ببيوتنا ونخضع لقرارات المجتمع التي ليست منطقية غالبية الأحيان. ينبغي على المرأة المشاركة في كل هذه المجالات، وأرى أننا نحن اللواتي نستطيع تغيير هذا الواقع».
للمرء أن يرجّح، بادئ ذي بدء، أنّ تحرير الـ»غارديان» وقع تحت جاذبية مفردات الصمود الإنساني والأخلاقي، ثمّ المهني بالطبع، التي ينطوي عليها خطاب طبيبة الأطفال؛ التي تتحدث من قلب الحصار، تحت القصف ساعة بساعة، وفي ظلّ أخطار موت محدقة من كلّ حدب وصوب. ليس للمرء ذاته أن يستبعد احتمال جاذبية أخرى، تنطلق من نبرة التحرر النسوي، الاجتماعي ـ السياسي على نحو أو آخر، التي يتصف بها حديث الطبيبة عن تمكين المرأة؛ وتنطلق كذلك من روحية استنهاض الثورة على المواقف الاجتماعية غير المنطقية، والتشديد على مفاضلة موقع المرأة في سلّم التضحية مع الرجال، بل أكثر منهم أيضاً. ويبقى احتمال ثالث، لعلّ الطبيبة ـ التي ترتدي غطاء الرأس، أو المحجبة بالأحرى ـ قد استثارته في ذهنية تحرير الـ»غارديان»؛ من زوايا لا تنأى كثيراً عن تنميطات الاستشراق الغائرة في الضمائر، ودهشة/ بهجة الغرب في أن تظهر على الملأ، عبر «يوتيوب»، امرأة سورية محجبة، في قلب الغوطة المحاصرة، على هذا القدر من الحسّ الثوري والتفاني الميداني. وكما كان الشيخ العميل، ضفدع، يدرك أنه سوف يلاقي رؤساءه في أجهزة النظام ذات يوم، وسيلقى من إعلام النظام عبارات الترحيب والتهنئة بالسلامة؛ كذلك كانت الطبيبة المحجبة تدرك أنها تخوض معركة يومية ضدّ أشكال الموت المختلفة، وأنّ سلوكها وأعمالها وتصريحاتها سوف تُخزّن لدى أجهزة الرصد التابعة للنظام، وقد تدفع باهظاً ثمن شجاعتها الثورية في أيّ يوم، وشيك أو بعيد. وتلك حال تتجاوز مستوى تحصيل الحاصل المنطقي، في أنها تكشف، أو تساعد على استكشاف، أنماط العلاقة الاجتماعية مع مقدّرات الانتفاضة الشعبية ومتغيراتها وأقدارها؛ ليس قياساً على الموقع المهني (بين الطبيبة الميدانية والشيخ عضو «المكتب الشرعي») فقط، بل قياساً أيضاً على البُعد الأخلاقي من مسائل الدين والتديّن. وليست مبالغة، كما يقول المنطق البسيط، أن يكون الشيخ في طليعة أولئك الذين اعترضوا على تسليم مشفى الغوطة الشرقية إلى طبيبة أنثى، إذْ أنّ هذه وظيفة معلنة مناطة به كـ»شرعيّ» يزعم العلم بالشريعة والفتوى فيها؛ كما أنها وظيفة مضمرة يتوجب أن يمارسها من موقعه كعميل، يتوجب أن يخدم أغراض النظام في افتعال كلّ شقاق كفيل بتأزيم المجتمع.
هي كذلك حال تتجاوز تحصيل الحاصل في أنها تعيد التذكير بالمعضلات الخَلْقية والتكوينية التي اقترنت بصعود التيارات الجهادية، وسيطرتها العسكرية على مناطق واسعة في ريف دمشق، وأشكال الهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية التي مارستها ضدّ مواطني تلك المناطق؛ وصولاً، بالطبع، إلى انهياراتها العسكرية المتعاقبة، وما ترافق معها من صراعات داخلية ومواجهات عسكرية، كان معظمها ينقل المياه إلى طواحين النظام. وإذا كان من نافل القول التشديد على أنّ أرجحية النظام العسكرية صنعها التدخل العسكري الروسي في مستوى عمليات القصف الوحشية غير المسبوقة، وأسهمت فيها كتائب «حزب الله» والميليشيات المذهبية العديدة، دون نكران الدور الخاصّ الذي لعبته «داعش» في اهتزاز الكفّة مراراً؛ فإنّ من نافل القول، على قدم المساواة، تحميل تنظيمات سلفية مثل «جيش الإسلام» و»جبهة النصرة» و»أحرار الشام» و»فيلق الرحمن» و»سرايا الجهاد» وسواها، مسؤولية مباشرة عن المآلات الكارثية التي انتهت إليها خياراتها العسكرية والجهادية ذاتها، إذا وضع المرء جانباً خياراتها الأمنية والبوليسية البغيضة في إدارة ما سًمّي بـ»المناطق المحررة».
وإذْ يُهجّر أمثال الطبيبة المحجبة ضمن حشود أبناء الغوطة الشرقية إلى عراء سوري مفتوح على كلّ المخاطر، طال الزمن أم قصر؛ ويعود أمثال الشيخ العميل إلى أحضان سادته في أجهزة النظام، ضحايا المخاطر ذاتها، شاؤوا أم أبوا؛ فإنّ مجتمع الغوطة الشرقية كان، وهكذا يظلّ، صورة واحدة من عشرات الصور التي تشكّل بانوراما اجتماع سوريا الذي انتفض ضدّ نظام الاستبداد والفساد والوراثة والتبعية؛ والذي لن يرتدّ البتة إلى وراء، وباتت إعادة إنتاجه إلى ما قبل 2011 ضرباً من محال مطلق.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي