لم يكن التفجير الانتحاري المزدوج الذي نفذه انتحاريان، السبت الماضي 10 تشرين الأول/اكتوبر2015، عملاً جنائياً عادياً أو «إرهاباً أعمى» كما يحلو لإيديولوجيا «مكافحة الإرهاب» أن تصور الجرائم المماثلة، بل جريمة سياسية لها وظائف محددة. وتشير تقديرات المحققين بقوة إلى الخلايا التركية النائمة لتنظيم داعش كفاعل محتمل لهذه الجريمة، كما صرح بذلك رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان. في حين كان التصريح الأول لرئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو تعميمياً تجهيلياً حين اتهم كل ما تعتبره الدولة التركية «منظمات إرهابية» بدءا بحزب العمال الكردستاني ومنظمة «جيش التحرير الشعبي» اليسارية ذات الثقل العلوي وانتهاءً بداعش، معبراً بذلك عن «العقيدة العميقة» للدولة التركية التي تعتبر الكرد عدواً داخلياً، سواء تعلق الأمر بتنظيم مسلح كالكردستاني أو حزب سياسي ممثل في البرلمان كحزب الشعوب الديمقراطي الذي كان هو المستهدف بالهجوم الإرهابي.
وهكذا كان من طبيعة الأمور أن يتحول التفجير الانتحاري الذي أودى بحياة نحو مئة مواطن تركي شاركوا في اجتماع جماهيري في ساحة المحطة في العاصمة ليطالبوا بإحلال السلام الداخلي ووقف الحرب المشتعلة بين الدولة وحزب العمال الكردستاني، إلى مادة للتجاذبات السياسية بين الحكم والمعارضة. وأجمعت أحزاب المعارضة الثلاثة، كل بدوافع مختلفة، على اتهام الحكومة بالتقصير في اتخاذ التدابير الأمنية، في أحسن الأحوال، أو باعتبار الحزب الحاكم مستفيداً من العملية الإرهابية أو الأجهزة الأمنية والاستخبارية متواطئة وغاضة النظر، في أسوئها. وطالب كل من حزب الشعب الجمهوري الذي فقد في التفجير الانتحاري أحد عشر ناشطاً من منظمته الشبابية، وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) عشرات من أعضائه وأنصاره ـ بمن فيهم أحد نوابه في البرلمان- باستقالة وزيري الداخلية والعدل، فاكتفت الحكومة بإقالة مدير أمن أنقرة وعدد من مسؤولي الشرطة الآخرين في العاصمة.
ازداد موقف الحكومة حرجاً مع التقدم في التحقيقات، حين تم التعرف على شخص أحد الانتحاريين بواسطة فحص الـ DNA، ليتبين أنه كان خاضعاً لمراقبة جهاز الاستخبارات القومي منذ فترة طويلة، بين آخرين من مجموعة آضي يمان المعروفة بـ»النساجين». وهي المجموعة التي قام أحد أفرادها بتفجير قنبلة في اجتماع جماهيري مماثل في مدينة ديار بكر، في الخامس من حزيران/يونيو 2015، في إطار الحملة الانتخابية لحزب الشعوب الديمقراطي، وتم القاء القبض عليه بعد أيام، لكن محاكمته تتم بشكل سري بعيداً عن علم الرأي العام. ومجموعة النساجين هذه (نسبةً لكنية منفذ عملية ديار بكر المذكورة) كانت تجتمع في مقهى في مدينة آضي يمان المعروفة بنفوذ السلفيين القوي فيها، حيث يتم تجنيد شبان صغار السن للقتال في صفوف داعش في سوريا.
وكشفت الصحف التركية عن أن أم الجهادي التركي الشاب قامت بإبلاغ أجهزة الأمن عن النشاطات السرية لابنها وعن اختفائه حين سافر إلى سوريا، لكن أجهزة الأمن لم تحرك ساكناً. لكنها اضطرت، بعد تفجير ديار بكر، إلى وضع قائمة بواحد وعشرين مشتبهاً بهم تحت المراقبة اللصيقة، تمكن انتحاري أنقرة من الإفلات منها وتنفيذ عمليته صباح السبت في قلب العاصمة.
وكانت دول الاتحاد الأوروبي حذرت سفاراتها في العاصمة التركية من عمل إرهابي محتمل لداعش في أنقرة، قبل موعد الانتخابات المكررة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر القادم، بناء على معلومات استخبارية بحوزتها، فقامت بعض تلك السفارات بتشديد إجراءاتها الأمنية في مبانيها. بالمقابل لم تتخذ الأجهزة الأمنية التركية أي إجراءات احترازية لحماية مظاهرة السلام المعلن عن مكانها وزمانها منذ أسابيع، وجاء آلاف المواطنين والناشطين من مختلف المدن التركية للمشاركة فيها. مع العلم أن الاجتماعات الجماهيرية المماثلة مما يتم في إطار الحملات الانتخابية، تخضع عادةً لحماية أمنية دقيقة بما في ذلك تفتيش كل الداخلين إلى ساحة الاجتماع. هذا ما عاينتُه بنفسي في مدينة غازي عنتاب، مرتين، في إطار الحملة الانتخابية التي سبقت انتخابات 7 حزيران/يونيو، حيث كانت الشرطة تصادر حتى قداحات الغاز مخافة إشعال النار بواسطتها، ويتعرض كل داخل إلى ساحة الاجتماع للتفتيش بواسطة الأجهزة الكاشفة للمعادن.
يأتي التفجير الانتحاري المزدوج في أنقرة، وهو الأكبر في تاريخ تركيا من حيث عدد الضحايا، في نسق واحد مع تفجيري ديار بكر وسروج، من حيث الجهة المستهدفة (حزب الشعوب الديمقراطي الذي تسبب بدخول نوابه البرلمان بفقدان حزب العدالة والتنمية الغالبية المطلقة في البرلمان) ومن حيث أسلوب العمل الإرهابي (زرع قنبلة وتفجير انتحاري) وغايته (إيقاع أكبر عدد من القتلى والجرحى بغرض إرهاب الناخبين والأنصار) والجهة المنفذة (مجموعة النساجين).
في الوقت الذي أعلن فيه حزب العمال الكردستاني وقف عملياته القتالية ضد الجيش والشرطة، باستثناء حالات الدفاع عن النفس، لنزع ذرائع الحكومة وتأمين بيئة آمنة للانتخابات، أراد رئيس الوزراء داوود أوغلو التنصل من المسؤولية فقال هذا الكلام الغريب: «هذه ليست حكومة حزب العدالة والتنمية، بل حكومة مؤقتة مهمتها التحضير للانتخابات»!
٭ كاتب سوري
بكر صدقي