هذه قصائد، من الشاعر الكاريبي الكبير ديريك ولكوت، حامل نوبل الآداب للعام 1992؛ تبدأ من سنة 1948، مع مجموعة «25 قصيدة»، وتنتهي عند سنة 2013، مع قصائد متفرقة. وهي مجموعة شخصية، كما يمكن القول، أو هي مختارات الشاعر الإنكليزي غلين ماكسويل، تمثّل ذائقته أوّلاً، ويترك لها أن تقدّم جمالياتها دون أيّ تدخل أو تصدير أو تقديم، كما جرت العادة في مختارات من هذا الطراز، ولشاعر فذّ مثل ولكوت تحديداً.
وفي محاضرة استلام جائزة نوبل، والتي حملت عنوان «الأنتيل: شظايا ذاكرة ملحمية»، تحدث ولكوت عن الشتات الأفريقي والآسيوي كما تختصره ملحمة «رامايانا» الهندوسية، وعن الذاكرة التوّاقة إلى الالتحاق بمركزها الخاص بها، تَوْق الضلع إلى استذكار الجسد الذي بُتر عنه. ولقد أشار إلى حقّه، كواحد من أبناء هذا الشتات، في الانتماء إلى طبول إفريقيا وعاشوراء الحسين ورقصة التنين الصيني (بعض شظايا الأصيص العبقري الذي كسرته الهيمنة الاستعمارية ـ الإمبريالية)، وذلك قبل، وفي أثناء، وبعد، الانتماء إلى وليم شكسبير!
ومنذ بداياته الشعرية المبكرة أدرك ولكوت جدل التحرّك في منفى اللغة، وانخرط في معضلات ذلك الموقع الحرج بين مطرقة الإحساس بالواجب السياسي الشخصي حيال موطنه وثقافته، وسندان المصير التمثيلي والتعبيري للغة الاستعمارية (الإنكليزية) التي يكتب بها. كذلك ناقش مأزق الشاعر المطالَب بالدفاع عن الوطن (وبالتالي عن حقّه في استخدام لغته القومية)، والشاعر المنفيّ في ذات لا فكاك لها عن جوهر النفي. وهكذا استخدم لغة الـ»باتوا» الكاريبية على نطاق واسع وملموس في مسرحياته، واستخدم إنكليزية أدبية (بريطانية) رفيعة للغاية في أشعاره الأولى، ثم بدا أشبه بمن يحاول تفجير هذه اللغة من داخلها بحثاً عن تلك الطاقات الدلالية الثمينة التي يحتاج إليها في عمليات تجميع شظايا الأصيص التعبيري الجميل الذي كسره قيد الخطاب الاستعماري. وفي قلب هذه السيرورة، كانت ثنائياته تتصالح: الذات الوطنية الكاريبية/ التربية الأدبية البريطانية، آدم العالم الجديد/ أفعى العالم القديم، الجزيرة الدافئة الصغيرة حيث مسقط الرأس/ الجزيرة الباردة الشاسعة حيث الثقافة، «جمعة»/ روبنسون كروزو…
ولد ولكوت سنة 1930 في جزيرة «سانتا لوسيا»، وتفتّح وعيه على التراث الأدبي الإنكليزي، فقرأ و. ب. ييتس، وجوزيف كونراد، وجيمس جويس، وإزرا باوند، وت. س. إليوت، ووالاس ستيفنز، ود. هـ. لورانس، وديلان توماس. لكنه، ومثل جميع أبناء الكاريبي، قرأ بالفرنسية أعمال أرتور رامبو وسان جون ـ بيرس، وبالإسبانية أعمال بابلو نيرودا وسيزار فاييخو. ولقد توجّب أن يطرح سؤالاً كبيراً، وأن يجيب عليه بنفسه: هل يعاني الكاتب الكاريبي من حصار ثقافي يفقده حصانته؟ ولكن هكذا كانت حال ييتس وجويس، وبرهن الكاتبان الكبيران أنّ الثقافة الاستعمارية غير قادرة على منع ولادة أدب وطني فذّ.
وثمة عشرات الأسباب التي تجعل ولكوت أحد أبرز شعراء العالم الأحياء: الجمع بين التعقيد الحداثي في السطح، والوضوح البسيط (والماكر، إذا جاز القول) في تطبيق غنائيات الماضي؛ ترتيب الشكل وتقطيع القصيدة إلى وحدات درامية متوازنة، يساعده على إنجازها ذلك المراس الطويل في الكتابة المسرحية؛ الإحساس بالشكل العضوي، على نحو يذكّر بتنظيرات الشاعر الإنكليزي الرومانتيكي كولردج، وتطبيقاته الشعرية؛ والغريزة العروضية التي تضعه في موقع مدهش بين جون ملتون الكلاسيكي، وجون كيتس الرومانتيكي، أو بين شاعر القرن العشرين و. هـ. أودن، وشاعر القرن السادس عشر إدموند سبنسر؛ العمارة المجازية التي تدمج المحسوس بالمجرّد، والفلسفي بالعاميّ، والرمزي بالتصويري؛ ثمّ الموضوعات التي تحشد أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بأساطيرها وأغنياتها وإيقاعاتها وحكاياتها وتواريخها؛ وأخيراً، هذه اللغة الإنكليزية ـ الكاريبية الفريدة، التي يستخدمها لا كما يستخدمها شاعر إنكليزي على قيد الحياة.
ذاك يقين حوّل ذاكرته إلى أدراج متراصّة يفتحها شاعر كبير بلغت مخيلته حدّ الفيضان الانفجاري، فقرأناه يعبث بالأدراج على هواه، ويطلق محتوياتها في عراء غنيّ، فيختار مسمّيات جديدة لأقاليمه ومشاهده وأصدقائه وأشيائه، عابراً في ذلك حدود الزمان والمكان: إنه اليوم قبالة زيتون غرناطة، الذي ينزّ اللغة العربية ويذرف دموع لوركا؛ وهو غداً في عباب اللغة اللاتينية، التي تلهث مثل كلاب بُنّية في روما؛ ملقياً التحيّة على نهر الغانج في الهند، أو على تلال النمل في مصر؛ منتصباً «مثل إشارة تعجّب في صفحة بيضاء»، واجماً «أمام حباحب لا تكفّ عن إشعال الثقاب»، غامراً «بهيم الفضاءات، ليس بالنجم أو بالجذوة أو بالشهاب، بل بالدموع»…
ومن مجموعة «باونتي»، وكانت الأولى بعد فوز ولكوت بجائزة نوبل للآداب، يختار ماكسويل 18 قصيدة، تعكس بعناية تدشين طور شعري جديد، بدا بمثابة حصيلة مَزْجية مركّبة تستجمع معظم أساليب الماضي دون أن تعيد تكرارها. إنه يقترح خلاصة مركّزة لعقود طويلة من المراس الراسخ في الكتابة الشعرية، سواء لجهة الموضوعات والأغراض، أم لجهة هذه أو تلك من الشعريات التي امتاز بها على الدوام، وأفردته نسيجا وحده وسط المشهد المعقد للشعر المكتوب في اللغة الإنكليزية، خلال مجمل النصف الثاني من القرن العشرين. وأكثر من أي وقت مضى، نحن هنا أمام المزيد من نماذج معادلات ولكوت في عدم التفريق بين اللغة الشعرية واللغة اليومية من جهة؛ وعدم الهبوط بالشعر إلى مستوى العاديّ من جهة ثانية. ومن جديد، نحن أمام ولكوت القياسي، إذا صحّ القول، ذاك الذي لا يبدو قادراً على رؤية الأشياء أو الإحساس بها بمعزل عن تصويرها في مجازات كثيفة غير منتظَرة، وذاك الذي لا يساوم البتة حول ستراتيجيته الأثيرة في تغريب اللغة بعيداً عن أية شفافية تصريحية؛ وفي زجّها ـ وبالتالي زجّ القارىء والدارس، معاً ـ في أغوار سحيقة مدهشة من التجسيدات الاستعارية.
وعلى امتداد 65 سنة من كتابة الشعر والمسرح الشعري الملحمي، وممارسة الرسم، والمحاضرة حول آداب الشعوب؛ تناول ولكوت عشرات الموضوعات، المتعددة والمتشابكة والمتجددة، التي عرّفت فنّه وشخصيته؛ وهذه المختارات هي بين الأفضل، حتى الساعة، للتعبير عن إرث كبير، ما يزال في أوج العطاء والاغتناء.
The Poetry of Derek Walcott 1948-2013.
Selected by Glyn Maxwell
Farrar, Straus & Giroux, New York 2014
617 pages.
صبحي حديدي