ما كتب عن مفهوم الملدنية ونشوئها في الغرب يندر أن نجد ما يماثله في ثقافتنا العربية لأن المينة تتشكل من كيمياء تاريخية تمتزج فيها عناصر عدة وفي مقدمتها التطور في أنماط الإنتاج ونشوء شبكة من العلاقات التي لا تتأسس على الدم والقربى، وفي فرنسا وحدها صدرت عدة كتب عن المدنية ساهم فيها شعراء ومعماريون وأطباء وحذروا من الإفراط في عزلها عن محيطها الطبيعي، بحيث تتحول إلى غابات من الحديد والإسمنت، وهذا ما وصف به سارتر نيويورك عندما زارها، وقال إن الإنسان فيها يضيع على بعد خطوات من منزله ويشعر بالضآلة وهو يقيس طوابق ناطحات السحاب بعينه، وقد تكون دراسة د . طريف الخالد عن تشكل المدينة العربية الإسلامية جديرة بالعودة إليها، وإلى ما تطرحه من تساؤلات وتأملات، فقد وجد الخالدي أن المدينة في تاريخنا ترد أحيانا تحت اسم القرية، بحث تكون أم القرى التي كتب الكواكبي يوتوبياه عنها من خلال الخيال مثالا.
ويرى د. الخالدي في كتابه دراسات في تاريخ الفكر العربي والإسلامي أن لفظة مدينة ترد في القران كمرادف للقرية، والقرية في القرآن منبت فساد وفسق، وغالبا ما تأتي لفظة القرية مُقترنة بالفعل «أهلك» ففي غزوة تبوك يروى عن الرسول أنه حذّر المسلمين من دخول ثمود الفاسدة. ويروى عنه أيضا أنه حين صعد إلى أعلى جبل أحد وأشرف على المدينة أنه قال سيتركها أهلها على أحسنها يوم القيامة، والموقف المتكرر في الأدبيات الإسلامية به ريبة من المدينة وكذلك المؤرخون والأدباء، وللمثال فقط نذكر ما قاله التوحيدي عن المدينة، وهو أن الدناءة والخلابة والخداع والحيلة والمكر تغلب عليهم، لهذا فما كرسة أبرز النقاد العرب في القرن الماضي من اطروحات كتأثر الشاعر العربي الحديث في هجائه وشكواه من المدينة بالشاعر ت . س . اليوت والشاعرة اديث سيتويل يبقى قابلا للنقاش، مادامت هناك مواقف سلبية يعج بها الموروث العربي عن المدينة. ولو عدنا إلى بواكير شعراء الحداثة في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته خصوصا الرواد لوجدنا أن هجاء المدينة قاسم مشترك بين معظمهم، فهي بلا قلب كما قال أحمد عبد المعطي حجازي، وبلا فجر تنام، كما قال صلاح عبد الصبور، والناس فيها ولدوا بوجوه مستعارة، وتولد الفكرة فيها بغيّا ثم تقضي العمر في لفق البكارة كما قال خليل حاوي. وفي حمّى ذلك الهجاء للمدينة تستوقفنا قصيدة للشاعرة والناقدة د . سلمى الخضراء الجيوسي تحاول فيها إنصاف المدن، فهي ليست دائما متجانسة، ولكل مدينة في الكون وجهان وجه ساحر وجاذب وآخر على النقيض من ذلك. وحين أعاد النقاد العرب هذه الظاهرة إلى التأثر باليوت وسيتويل وازرا باوند وآخرين أهملوا هذا البعد التراثي الذي جعل المدينة سيئة السمعة في التراث العربي. ويبدو أن هذه الظاهرة ليست حكرا على التراث لعربي. يقول الكاتب الفرنسي ادوار غاييد: كانت روما القديمة وقرطاجة وبعض مدن الشرق الأقصى عمالقة للتجمع البشري وصادف الإنسان فيها ما تصادفه الجرذان في مستعمرات تجمعها لكن ما استجد في عصرنا هو اتساع المدينة وجبروتها الفولاذي الذي سحق البشر، وقد تكون نيويورك نموذجا، لأن الشعراء الذين هجوها ليسوا فقط من أبنائها كألن غنزبرغ وغريغوري كورسو بل من مختلف القارات والثقافات. ونذكر للمثال فقط قصيدة لوركا الاسباني عن نيويورك وليوبولد سنغور الرئيس السنغالي الأسبق عن قسوتها وعن مفاصلها الحديدية التي تم تشحيمها بلحم البشر وكذلك قصيدة أدونيس وآخرين!
ان إعادة قراءة ما كتب عن المدينة شعرا ونقدا في القرن الماضي ستفضي بالضرورة إلى مراجعات أخرى منها ما أشار إليه الكاتب السوداني محمد عبد الحي عن تراث الاستسقاء عند العرب، وما استخدم من رموز الخصب والانبعاث في الشعر العربي الحديث ليس تأثرا بكتاب الغصن الذهبي لجيمس فريزر أو رموز الخصب وما يقابله من يباب لدى ت . س . اليوت، إنه أيضا يعكس موروثا صحراويا يتعلق بالمطر وما الاستسقاء وطقوسه ألا تعبير عن ذلك!
والمدينة ليست عمرانا مهما ارتفع وأضاء. إن لها عناصر أخرى، منها ما هو تاريخي بقدر ما هو أفراز حضاري لا يقبل حرق المراحل، وقد تكون مدينة تحمل هذا الاسم مجرد عنقود من القرى الملتصقة ببعضها رغم إضاءتها لشخصية وما تعج به من حراكات بشرية.
وحين كتب الناقد محمد النويهي عن تأثر الشعراء العرب الحديثين بشعراء غربيين في الكتابة عن المدن، قال إن المدينة العربية في الخمسينيات من القرن الماضي لم تكن لندن أو باريس، وكانت ضواحيها حقولا تحرثها الثيران والخيول، والنسيج الاجتماعي فيها مرتهن لتقاليد وأعراف ريفية بامتياز.
وما نحتاج إليه الآن وبإلحاح معرفي هو إعادة النظر في إطروحات سادت قبل عقود، ومنها ما ترسخ في الذاكرة وأصبح من البديهيات. وإذا كانت ثقافتنا في القرن العشرين قد عاشت قطيعة مع موروثها لأسباب معروفة منها التماهي مع ثقافة المستعمر فإنها الآن تعيش قطيعة مزدوجة مع موروثها القديم قبل قرون، ومع القرن العشرين بكل ما يشهده من تحولات، مما يتطلب حفريات حادة!
٭ كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي … مقال مهم جدا يصعب التعقيب علي ما جاء فيه إذ يتطلب ذلك وقت وتدقيق في الكلمات والسطور ومفهوم ومضمون المقال .
. احب فقط أن ابدي إعجابي.
المدن العربية عدة أنواع: مدن الملح، مدن العراقة التاريخية والأصالة، مدن العشوائيات، مدن البؤس، مدن الصفيح، مدن الفقر والقهر. فهناك منها ما سيذوب، ومنها من يثور، ومنها من سيدمر بألة القمع العسكرية، ومنها ما سيستمر في بؤسه..