للقصرين وقع خاص في ذاكرتي. كلما ورد ذكرهذه المدينة الواقعة في الوسط الغربي لتونس، تزاحمت لقطات الطفولة سريعا لا تلوي على شيء. حدث ذلك إبان الثورة التونسية قبل خمسة أعوام، وعاد هذه الأيام أكثر إلحاحا لأن منها انطلقت موجة التحركات الأخيرة إحتجاجا على غياب التنمية والبطالة والفقر.
قبل خمسين عاما، كنت أجلس على كرسيَّ في الصف الأول من التعليم الابتدائي في «المدرسة الشرقية» بهذه المدينة ولم يكن مضى وقتها على استقلال البلاد من المستعمر الفرنسي سوى تسع سنوات. كثير من أهالي المدينة وقتها من الفقراء وكان رفاقي يأتون المدرسة بثياب قليلة لا تقيهم برد شتاء قاس للغاية هناك. أذكر جيدا كيف كانت المساعدات الحكومية توزع أحيانا داخل الفصل وقبل بداية الدروس، لا أذكر منها الآن سوى تلك العلب الحديدية الفضية من الحليب المجفف وعليها شعار المساعدات الأمريكية، وكذلك الأحذية «الكاكي» التي يتسابق الجميع للبحث بينها عن مقاسه تحت أنظار مدرسنا سي العروسي في الصف الأول وسي الدلهومي في الصف الثاني.
أتذكر جيدا كم كنت لحوحا لتسمح لي أمي في المرة المقبلة بالانغماس معهم بحثا عن مقاسي أنا الآخر. كانت تقول إنه من المخجل أن تزاحم على حذاء غيرك أجدر به ألف مرة. كنت لحوحا معها كذلك في أن أكون أيضا من بين أولائك الذين يصطفون أمام دكان صغير قرب بيتنا للحصول على مشروب «الدرع بالحليب» الساخن الذي يوزع في أكواب حديدية على الأطفال الفقراء في تلك الأيام شديدة البرد. كانت تنهرني معظم المرات ولكنها تتسامح عندما أكون برفقة أصدقاء ما كانت ترضى ألا أشاطرهم فرحتهم بذلك. ما كنت أفعله، في غفلة من أبي وأمي، هو استمتاعي في المدرسة بمبادلة معطفي الإفرنجي الرمادي مع «قشّـــابية» بعض زملائي ( لباس تقليدي من الصوف السميك). كانوا هم سعداء بذلك، وأنا أسعد منهم لأنني من خلال تلك «القشابية» كنت أحاول جاهدا أن أكون واحدا منهم. كان شعوري بأن عائلتي ليست أصيلة في هذه المدينة يحرجني أحيانا رغم أنها مسقط رأس الوالد، وجدي من أوائل من حلّ بها تاجرا مع بعض إخوته، ولكن الجميع هناك ما تخلى عن صورة أننا في النهاية نبقى من «الغرباء» القادمين إليها من مدينة صفاقس. لا أدري إن كانت هذه العقلية ما زالت قائمة إلى الآن أم لا فأبناء عمومتي ما زالوا يحتفظون بتجارتهم هناك إلى اليوم.
أغلب رفاقي في الفصل كانوا يعانون طوال فصل الشتاء من لسعة الصقيع في أيديهم وبالكاد يستطيعون مسك القلم للكتابة. تحدث هذه اللسعة عندما تتكون البلُّورات الثَّلجيَّة في الجلد، وفي حالات أكثر قسوة في الأنسجة أسفل الجلد ولا علاج لها إلا باستعادة الدورة الدموية والدفء إلى الأجزاء المُصابة. الرمد كان حاضرا هو الآخر، وكان يزورنا في الفصل بين الفترة والأخرى ممرض يمر علينا جميعا ليضع في أعيننا مرهم «البنسيلين» الأصفر الكريه. كنت الوحيد المحتال بينهم، أقول له في كل مرة : والدي «عم صالح» يقرؤك السلام ويطلب منك ألا تضع لي من هذا المرهم، فيبتسم ويعفيني!!
كان دكان الوالد في قلب المدينة، وكان هو معروفا من الجميع ليس فقط بصفته تلك ولكن أيضا بصفته أحد مناضلي تلك المدينة ضد الاستعمار الفرنسي وأحد من سجنهم لفترة قصيرة. تسلم محل البقالة صغيرا جدا ليصبح العائل الوحيد لأسرته إثر وفاة والده منفيا في أحد السجون الفرنسية بالجزائر بعد أن ضبط جنود الاحتلال في بيته أسلحة مخبأة للثوار المعروفين باسم «الفلاقة». أحب الوالد مسقط رأسه القصرين كثيرا وما كن يظن أن مفارقها يوما ولكنه فعل. نصحه الطبيب بضرورة ترك هذه المدينة لكل الآلام التي ارتبطت بها في حياته وأكثرها وجعا تلك المعروفة بتجربة «التعاضد» في نهاية ستينات القرن الماضي عندما صادرت الدولة دكانه وأدخلته عنوة في نظام التعاونيات مع آخرين ليتحول من تاجر صغير إلى مجرد أجير. لم يتحمل هذا الظلم، مع ظلم كثير غيره، فغادرناها، وأنا في العاشرة، إلى صفاقس التي كان أجداده قد تركوها إلى القصرين قبل بضعة عقود.
وبعد وفاته، لم نشأ الحقيقة أن يبقى لنا ما يربطنا بهذه المدينة بعد أن غيب الموت همزة الوصل الأقوى بيننا وبينها. قمنا ببيع قطعة الأرض التي تركها لنا وسط المدينة، ثم الدكان نفسه، لكن لا شيء من حب هذه المدينة، وأهلها البسطاء وجبل «الشعانبي» الشامخ فيها وآثارها الرومانية التي لا يذكرها أحد وذكريات الطفولة فيها، يــمكن أن يـُـــباع يوما.. أو أن يكون أصلا معروضا للــبيع.
٭ كاتب وإعلامي تونسي
محمد كريشان
كم كان الفقر مؤلما بذاك الزمان
إلا أن المحبة كانت تطغى على الجميع
ولا حول ولا قوة الا بالله
نعم اخي محمد كريشان ان للقصرين وقعها الخاص في ذاكرة كل منا…وان ما ذكرته عنها من مظاهر الفقر وضنك العيش حقيقة لايمكن انكارها ولكنها كانت قاسما مشتركا بين مختلف المدن الداخلية وقتها ….انا تعلقت كثيرا بمكتبة بالقصرين هي “مكتبة كريشان” في الثمانينات حيث كنت اتزود منها ببعض المجلات والجرائد العربية ذات السعر المناسب لتلميذ في الثانوي مثلي ومنها جريدة اسمها “هنا موسكو” كانت تباع ب25مليما…نعم 25 مليما ومنشورات اخرى من الصين وغيرها من دول اوربا الشرية وكنت معجبا بالسيد كريشان صاحب المكتبة لانه كان يفكر في الفقراء امثالي الذين كانوا يشربون “الدرع” صباحا فيي النادي او الحليب المجفف الساخن ويلبسون من مساعدات المدرسة…مكتبة كريشان لا يمكن ان انساها والى اليوم ازورها كلما زرت القصرين لكنها تغيرت كثيرا…..
شكرا لك سي عبد الكريم ، تلك مكتبة عمي نور الدين رحمه الله أما المرحوم الوالد فكان “عطارا” في الشارع القريب منه.
مع تحياتي و مودتي…
سبحان الله يا استاذ كريشان لقد عشت معك مشاهد الطفولة تعرفت شيءا على ما اسميه في دفتر عقلي مغاربيات فانا للاسف الشديد سامحني الله ربما اعرف غن فيتنام ! اكثر من بلاد ما وراء مصر ههههه حظيت بصديقة جزاءرية جميلة هي مووونة مقرانى افهمتني اشياء كثيرة ونسيت اشياء كثيرة !! واستطعت ان افك بعض رموز اللهجة المغاربية (لدينا نحن المشارقة تصنيف عام للهجة المغاربية كانها كلها شيء واحد صعب يحتاج الى تركيز هههه تمرنت قليلا اعترفت لي موونة انها تتحدث معي بجزاءرية خفيغة *بعرفش ازا قررت معاقبتي وتقلت اللهجة المغرب بلاد جميييييلة مليييييءة بالثورة والتراث والتاريخ لا اعرف هكذا اتصور او احلم زاوية فيها خشبيات على السقف زخارف اسلامية وزجاج ملون ونحاس يعني مش عارفة هيك شي متل ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة اناس وجوههم سمراء جميلة وعيونهم كحيلة يلبسون ثوبا طويلا مع طاقية يجلسون في زاوية لديهم مداءح للنبي صلى الله عليه وسلم يقولونها بذوبان لن افهم منها حرفا لكن ساحس !! يطبخون نص فرنسي ونص عربي بزيت الزيتون والاعشاب كما نعشق نحن الفلسطينيون يحبون فلسطين يذوبون فيها انها المساحة الوحيدة التي يلتقي فيها كتف اليمين العلماني المتشدد مع اليمين الاسلامي من المنقبة الى المتفرنسة يحملون لافتات اطفال غزة يبكوننا اكثر منا ! نساؤهم مثقفات ذكيات رفيعات حريصات على الادب الشرقي المراة يجب ان تكون كاملة معذبة وشيء من مسحة غربية لكنها ليست سيءة اسواقهم شيء فيه راءحة التاريخ تكايا تدرس القرءان على لهجة ورش وقالون عن نافع وكمان الفقه المالكي معاصروهم شديدو الاهتمام بفقه المقاصد مفكروهم فلاسفة !
واول صرخة ضمير هزتنا من القدس الى طنجة ومراكش هرمنا ذلك الرجل التوتسي الصادق الذي عبر عن الشعب كطفل جامح كنقاء السماء كانت تللك الصرخة كفرحة مكتومة مكبوتة في قلوب الاف المستضعفين قد لا يجدون بيانا او تعليما للتعبير عنها لكنها غيرت وجه المنطقة المغرب بلاد بعييييدة جميييلة لا اعرف عنها الكثير سوى ثورة المليون شهيد والاشتباك تلذي لم احزره جيدا كلما ذكرت كلمة امازيغي يحدث اشتباك عدواني ينضبط فيه طرفان لكتهما متصارعان بقواعد حتى لا يعد احد غلطة احد بس لهلا مش فاهمة شي عن المشكلة ! المغرب سر رااااااءع من يكتشفه يا ترى فقط اتمنى ان ارى بيتا مغاربيا قديما ثوارا وجووهم نظراتهم كحد السيف القاطع مدن اسماؤها تبدا بسيدي ثم لقب ما كل شي اله قصة المغرب مثل الجنة لا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة اعين صدقني يا استاذ كريشان فرحت جدا جدا الشيء الوحيد الذي اشتركت معك فيه وانا اقرا الدواء الاصفر الكريه الذي يحرق الاغين نسيته انا !! انت ذكرتني به الان ههههه شكرا لقلمك الراااااءع الذي اخذني الى هناك
قارءتك المحبة غادة !
شكرا سيدتي غادة… استمتعت بتعليقك هذا. لكل كل الود
شكرا استاذ كريشان وادام الله قلمك الجميل
استاذ محمد أنت الضيف العزيز علينا في بيوتنا ومنازلنا نتعامل مع شخصكم الكريم كضيف له مكانته ومحبته ولكم منزله عاليه في قلوبنا ونفوسنا لكم كل التحيه والتقدير . عندما تحدثتم عن مدينتكم الجميله وذكرتم الزمان والمكان وترجيديا الطفوله المعذبه ويومياتها الأليمه فهي حقيقهً تتشابه مع كل الأماكن في أقطار أمتنا العربيه من المحيط الى الخليج , في السودان والعراق واليمن منظر ذالك الطابور والأصطفاف من أجل وجبه من الغذاء حتى في أحيانآ كثيره لا تسمن ولا تغني من جوع ذكرتني بتيه ومأساه أبناء شعبي العربي الفلسطيني في أربعينيات القرن الماضي , ويومياته المؤلمه في مخيمات اللجوء والتيه على الرغم من أنني شخصيآ في طفولتي وعلى الرغم من فقداني لبيتنا الجميل في مدينه يافا واصبحت لاجىء وعشت قصه اللجوء لم اعاني ولم أعش هذه الترجيديا ولكنني عايشتها كأنسان بألمها ويومها الحافل بالقصص الحزينه في عيون أطفال وطني وشعبي في غزه وعين والحلوه والبقعه والوحدات وبلاطه وعسكر ومخيم اليرموك أكبر وصمه عار على جبين كل البشر مجتمعون عايشتها في عيون وروح المنفيون الى تيه وشتات الأكوادور وبوليفيا من أبناء شعبي وأنت لأعلامي العربي المطلع على فداحه المأساه . أستاذ محمد ذاكره الأماكن والأزمنه تتواتر وتتشابه لآاعرف هل التاريخ يتجدد ام يعيد نفسه ويستنسخ المكان والزمان من يومين قرأت خبر صدمني وابكاني وأشعرني بخزي وعار امام نفسي في القرن الواحد وعشرون أم وأطفالها الأربعه يموتون جوعآ في في منزلهما في حارة القادسية بجنوب العاصمة اليمنيه صنعاء …
أقول: يخرج الحي من الميت .
يخرج الحي من النتن ومن المتحلل , يخرجه من المتخم والمنهار …. يخرجه من بطون الجائعين ومن صُلب المُتَعيشين على الخبز الحافي ……
دمت حرآ ودام قلمكم أبيآ حرآ عربيآ
العائد الى يافا
لاجىء فلسطييني
الڨصرين خزّان لكل طفولة ستضيء ابداعا ونضالا وعلما ومعرفة…شكرا سي محمد على هذه الكلمات المليئة بالحنين والعرفان بالجميل، المدن التي تبقى سيدة أرواحنا هي المدن التي نتعرف فيها على الحياة، وننطق فيها أولى الكلمات، وأولى الخطوات، وأولى الصباحات..