كالحكمة، لا تتكلّم مدينة تونس العتيقة عن تاريخها وإنما هي تسمع التاريخ وهو يحكي سيرتَها الذائبة بين أزقّتها الضيّقة المتعرّجة الهاربة من غزو مبان وأحياء عصرية تُحاصرها وتفتكّ منها حاضرَها. هي ثابتةٌ منذ تأسيسها عام 698 ميلادي وما حولها يتحرّك، ثابتةٌ كما لو كانت رأسَ الحقيقةِ وما حولها هلوسات. ربما هي ثابتة لأنها تعرف أنّ المدن الكبيرة حقائقُ والناس فيها كيانات عابرة كالأسرارِ.
نصٌّ كتومٌ
تقع مدينة تونس خارج نَصِّ المدينة الحديثة، أيْ خارج كمية الأوهام التي تُعرَضُ على الناس في فيترينات نظيفة من الحلم، أو تُعرض على أرصفة شوارع إسفلتية مزدانة بنَوَّار اصطناعيّ ومكتظّة بالابتسامات الصفراء والمكر المتبادَل، مدائننا العصرية فضاءات لتصنيع المكر وتوزيعه بين الناس توزيعا عادِلا وبالمجّانِ. غير أن مدينة تونس العتيقة لا تمكر بزوّارها، إنها نصٌّ حَيِيٌّ مكتوبٌ بإيقاعات أصيلة، نصٌّ كتومٌ لا يُقرأ إلا بشرطِ أن يُعاشُ بامتلاء، فلكلّ مفردة منها حكايةٌ لها صدى يتردّد بين حيطان مبانيها كأنه ترانيمُ الإيمان، وفي كلّ زقاق سيرةُ جسد مّا تمشّى فيه ملفوفا بالحياء ومكتنزا بالغِلال، ولكلّ مشرفيّة من مشرفيات بيوتها تاريخٌ من الهمسِ والترقّب، وخلف كلّ باب تموج روائح العنبر والبخور والحِنّاء موجا ناعما، وتحت كلّ قنديل أثرٌ لحُبّ توهَّج مرّة وأضاءَ أعماقَ عاشِق كان يقف هناك مأخوذا بحكمةِ «نحن قوم إذا عشقوا ماتوا».
مدينة في التاريخ
جاء في منشورات معهد التراث في تونس أن مِن المؤرخين من استند إلى معطيات بربريّة لإقامة الدليل على أن تسمية «تيناس» قد تحوّلت إلى تونس بعد حدوث تغيير طفيف عليها خلال الحضارة اللوبية. كما أن الجذور الثلاثة (ت.ن.س) التي نجدها في أسماء أماكن أخرى في شمال افريقيا تعني بالبربريّة «استراحة» و «مخيّم» و «إقامة في مخيّم»، وعلى ما يبدو فإنه قد قُدِّر لهذه المدينة أن تلعب دورا اقتصاديا واستراتيجيا هامّا باعتبارها تمثل ممرّا للقوافل التجارية، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن المدينة قد تأسست على يد سكانها الأصليين. لكن هذا الاعتقاد يطرح علينا سؤالا جديدا: هل كانت تونس أقدم من قرطاج؟ الثابت أن تواجد تونس يعود إلى بداية القرن الرابع قبل الميلاد. وفي الواقع يبين لنا المؤرخ اليوناني ديدور الصقلي (عاش بين 90 ق.م و 200 ق.م) أنه بعد هزيمة الجيش القرطاجي على يد دونيس الأكبر السراقوزي سنة 395 ق.م استولى على تونس ما يقارب المئتي ألف لوبي، وكان أغلبهم من المتمرِّدين على النفوذ القرطاجي، وهو ما يسمح لنا بالقول إنّ الأدّلة الأولى تعود إلى الحقبة التي كانت فيها قرطاج البونية مدينة كبيرة.
مدينة الأبواب
لمدينة تونس العتيقة استعداد ثقافيّ وجغرافيّ لتَفْتح أبوابَها على الخارج، وتسعى إليه، إنها من أكثر المدن العربية القديمة استعدادا للتواصل مع محيطها الخارجي، فهي وإن امتدّت على ما يقارب ثلاثة كيلومترات فإن بها 24 بابا مثّلت كلّها سبيلَها إلى ربط علائق تجارية يومية مع الناس من خارج المقيمين فيها. وكانت تلك الأبواب تُفتح في النهار وتُغلق في الليل حماية للسكّان من هجمات اللصوص ومن تسرّب البدوِ الرحّل إليها. ولعلّ من أشهر أبوابها التي ما تزال ماثلة إلى اليوم مثل باب البحر الذي تمّ بناؤه في عهد الأغالبة ويفتح في اتجاه البحر ويصلها بشارع بورقيبة. وباب الجديد الذي بُني في عهد السلطان يحي الحفصي، وباب الخضراء وباب سعدون الذي سُمّيَ نسبة إلى اسم رجل صالح كان يعيش بجواره يدعى بو سعدون. وباب العسل الذي تمّ بناؤه في العهد العثماني، إضافة إلى أبواب أخرى اندثرت ولكن تسميتها انسحبت على مناطق عمرانية في المدينة مثل باب البنات الذي سمّي بذلك لأنّ السلطان أبا زكريا الحفصي استبنى بنات عدوه يحي بن غانية الثلاث وربّاهن في قصر بالقرب من هذا الباب. وباب منارة وباب عليوة وباب الأقواس وباب الجزيرة وغيرها. وهي أبوابٌ تؤدّي جميعها إلى جامع الزيتونة الذي يمثّل مركزا دينيا وثقافيا تحيط به مجموعة من الأسواق على شكل دوائر لعلّ من أشهرها سوق العطارين حيث تباع عطور الياسمين والورد والعنبر والقماري والحناء، وسوق البلاغجية وقد تخصصت منذ نشأتها في صنع البلغة والكنطرة وباقي الملابس التقليدية و»سوق الباي» التي تتمّ فيها تجارة السجاد والأقمشة الحريرية. وسوق البركة وقد اختصّت بتجارة المجوهرات والمعادن الثمينة. وسوق القرانة وكان يبيع فيها المسلمون الذين طردوا من اسبانيا المنتوجات الزراعية والحيوانية والمصنوعات التقليدية كالأغطية والشاشية والمواد المتأتية من القوافل الصحراوية مثل ريش النعام والعاج والتبر والأقمشة الرفيعة والقصدير والسكر والتوابل. وسوق البلاط وتختص ببيع الأعشاب الطبية. وسوق الكُتْبِية التي أسست في العهد الحفصي وتباع فيها الكتب. وسوق النحاس وتختصّ بتصنيع الأواني النحاسية.
فاكهةٌ اللَّيل
إن كثرة أسواق مدينة تونس العتيقة قد تُحيل لوهلة على انصباب أنشطة الناس فيها على التجارة والصناعة وكلّ ما له صلة بالجانب الاقتصادي، غير أن في تاريخها وفي ما بقي من أثره الماديّ ما لا يُخفي وجود فضاءات أخرى مخصّصة لإنجاز أنشطة أدبية وفكريّة كان لها دور هام في تأصيل الإبداع في تونس والانفتاح به على الرائج من الثقافات العربية والأجنبية. من ذلك أنّ «مقهى تحت السور» الذي يوجد بالقرب من «باب سويقة» مثّل فضاء أشعّت منه أسماء أدبية تونسية كبيرة على غرار رائد القصة التونسية علي الدوعاجي صاحب كتاب «سهرتُ منه الليالي». وكان نادي «الخلدونية» مركزا ثقافيا يؤُمّه مُتَنَوِّرو تونس زمن الاستعمار الفرنسي لقراءة قصائدهم ونصوصهم ومناقشة المستجدِّ من فنون الكتابة من مثل الشاعر أبي القاسم الشابي الذي ألقى فيه محاضرته الموسومة بـ»الخيال الشعري عند العرب» والشيخ العربي الكبادي الذي كانت له أيضا حلقة أدبية في نادي «تربة الباي» يجتمع فيها تلامذته ليسمعوا منه فصولا من أمّهات الكتب التراثية العربية في اللغة والشعر والمقامات والأخبار.
ولعلّ وجود جامع الزيتونة في قلب مدينة تونس العتيقة بكلّ رمزيته الدينية قد جعل من مقاهيها فضاءات رمضانية للسهر وإقامة السهرات الفنية والفكرية، إذْ ما إن يُقبل شهر الصوم حتى تتجهّز له المدينة العتيقة بقناديلها المعلّقة في رؤوس الأنهج، وبشميم الصَّندل والعنبر محمولا في أبخرة تشيع بين الأزقة كما لو أنها تهدي السالكين إلى أماكن سهرهم، وباللِّباس التقليديّ الذي يمكّن الجسدَ الساهرَ من التخلّص من ضيق أعباء النهار. وكلّما تجاوز المترجّل جامع الزيتونة حتى يستقبله مقهى «المرابط» ومقهى «العنبة» ومقهى «سوق الشّواشيّة» حيث أباريق الشاي الأخضر بالنَّعْناع واللوز محفوفة بكؤوس يرقص لمعانُها على إيقاعات النارجيلة، وحيث القهوة «العربي» تفوح من فناجينها روائحُ البُنِّ و»الزَّهْر» والعِطْرِشاء كأنما هي فاكهةٌ سريّةٌ، يشربها الناس ممزوجة بأحاديث ليلية دافئةِ المُتونِ، مستمعين إلى أغاني تونسية قديمة بأصوات الفنان خميّس ترنان والفنانة صليحة وغيرهما ممن كانوا نجوم السهر في ليالي مدينة تونس في بداية القرن الماضي.
وإذا كان التونسيّون منبهرين بحياة الأحياء الجديدة في أغلب أشهر السنة نظرا لما فيها من فرص ممكنة للعمل والمتعة فلا يزورون المدينة العتيقة إلا في «مهرجان المدينة» خلال شهر رمضان، فإنّ السيّاح الأجانب لا يفوِّتون فرصة التمشي في أزقتها منجذبين إلى التاريخ وهو يحكي سيرة تونس خلال أزمنتها القديمة والحديثة من الفينيقيين إلى الفرنسيين مرورا بالرومان والوندال والعرب والنورمان والإسبان والعثمانيين، ومستمتعين فيها بما يسمعونه من عبارات الترغيب من قبل باعة التُّحف الواقفين أمام أبواب محلّاتهم يقولونها بجميع لغات الأرض وبأساليب بلاغية قولا مصحوبا بابتسامات لا يملك معها هؤلاء السياح إلا الخضوع لها ودخول تلك المحلات أو ربما هم يدخلون لعبتها التجارية فلا يخرجون منها إلا وقد علقت بأيديهم تحفٌ وبضائعُ أخرى.
عبدالدائم السلامي