على تل كبير كان اسمه «تل الأسود» يحوي في داخله كنوزا من الآثار السومرية التي لم يكشف عنها حتى الآن، بنيت مدينة في القرن الثامن عشر بأمر من أمير قبلي، انتعشت وانتقل إليها الحرفيون والتجار من المناطق المحيطة بها. بل حتى من بغداد جاء من سكن وعمل فيها لتبنى مدينة وتصبح عاصمة إمارة آل السعدون التي عرفت باسم «المنتفك» وليصبح اسم المدينة الجديدة «سوق الشيوخ» لان زعيم آل السعدون كان يسمى شيخ مشايخ «المنتفك» وهو التجمع القبلي الذي حكموه.
بروفايل المدينة
سوق الشيوخ مدينة عراقية تبعد حوالي 300 كم جنوب غرب بغداد، وهي مدينة من مدن الجنوب الّتي يقطنها حوالي 200 ألف نسمة من مختلف القبائل منهم عشيرة آل عليوي، وآل عثمان، والحجام، والنواشي، وعشيرة السادة المشعشع وغيرهم. مدينة تحتضن نهر الفرات وتنام على حافة الهور من جهة وعلى حافة الصحراء من ناحيتها الثانية، مدينة بنيت على ضفتي الفرات بالرغم من ان المدينة القديمة كانت مبنية بشكل رئيسي على الضفة الغربية من النهر فقط، وذلك لتكون أقرب إلى البادية، وذلك لتسهيل ارتباطها كسوق قبلية بحركة القبائل البدوية في بادية السماوة، لكن ومع تجمع الحرفين القادمين من نواح مختلفة، سكن الضفة الشرقية من نهر الفرات مهاجرون صابئة انتقلوا من نواحي محافظة ميسان الجنوبية والأهوار للسكن على بشل منفصل على الضفة الشرقية للمدينة ليتكون منهم بعد ذلك ما عرف بحي «الصبة» الصابئة، ويربط بين طرفيها جسر يوصل الضفة الشرقية بالغربية، وهي مركز قضاء تقع ضمن حدود محافظة ذي قار جنوب العراق.
وبما ان المدينة تكونت من تجمع مهاجرين من مناطق وقبائل ومدن وأديان وطوائف مختلفة، لذلك نرى انعكاس ذلك على أحيائها. فالضفة الغربية توزعت على أربعة أحياء رئيسية، هي حي البغادة وواضح انه تجمع للقادمين من بغداد وحي النجادة للقادمين من نجد وكذلك محلة الحويزه للذين هاجروا من الأحواز وما جاورها. وقد كانت تعيش في سوق الشيوخ جالية إيرانية يبدو ان لها تأثيرا اقتصاديا حتى استوجب وجود قنصل إيراني في المدينة. أما محلة الحضر فأن سكانها خليط من الذين جاءوا من مدن متفرقة وبعض الأرياف المجاورة للمدينة. وكانت هذه المحلات الأربع متجاورة تتوزع مساحة التل الأثري الذي اقيمت المدينة عليه، وقد احيطت بسور له أبواب تفتح وتغلق في مواعيد وفقا للنظام السائد في تخطيط المدن في تلك الفترة. وكانت وظيفة الأسوار هي حماية المدن وبشكل خاص تلك التي تكون على تماس مع حركة القبائل البدوية في الصحراء.
المكان الأمثل لإقامة الأسواق الموسمية
على تل ذو مساحة واسعة كان يعرف باللغة السومرية حسب الآثاريين باسم «سوك مارو» أي سوق الحكيم، بنيت مدينة سوق الشيوخ، وكان هذا المكان المرتفع المحاط بالمياه من كل أطرافه وبشكل خاص في موسم الفيضان حيث تتمدد الأهوار المحيطة بالمنطقة، فيكون هذا المرتفع المكان الأمثل لإقامة الأسواق الموسمية للتبادل التجاري بين سكان الأهوار وسكان البادية، حيث تتبادل القبائل المختلفة منتجاتها في هذا السوق. وقد اقيمت المدينة بناء على أوامر الأمير ثويني بن عبد الله السعدون عام 1761م لتكون عاصمة لإمارته بدلا من العاصمة السابقة وهي مدينة العرجا، وبقيت السوق المركز الأهم وعاصمة الائتلاف القبلي قرابة المئة عام حتى عهد مشيخة ناصر باشا السعدون، أيام الحكم العثماني، حيث أمر ببناء مدينة الناصرية التي سميت على اسمه عام 1869 إبان عهد الوالي مدحت باشا الذي حاول جاهدا نشر التحضر والاستقرار بين القبائل المرتحلة في جنوب وغرب العراق وذلك بإنشاء المراكز الحضرية التي ستقود إلى استقرار القبائل أولا وبالتالي دفع الضرائب عن الأراضي الزراعية وتوفير المحاربين في حال الحاجة لهم في حروب الدولة العثمانية. ومع تأسيس مدينة الناصرية انتقلت الأهمية الإدارية والاقتصادية من سوق الشيوخ إلى المدينة الجديدة، وأضحت عاصمة الإمارة القديمة تابعة للمدينة الجديدة.
في كتب الرحالة والمؤرخين
يذكر يعقوب سركيس في مباحث عراقية ان «سوق الشيوخ لم تشد إلا بعد سنة 1781 م» أي انها أصبحت مركزا ثابتا لمهمات الشيوخ المذكورين، ومخزنا لذخيرتهم، وملجأ حصينا يلوذون إليه عند الحاجة، وخطط لهذا الغرض عمارة على الضفة الغربية من الفرات في موضع يبعد عن الناصرية غربا 35 كيلومترا.
كما يذكر المدينة الرحالة الانكليزي جاكسون في رحلته للعراق عام 1797 م وذلك بعد مروره بها قادما من البصرة ومتجها إلى بغداد عن طريق الفرات، في كتاب «مشاهدات بريطاني عن العراق» سنة 1797 حيث يذكر «وسوق الشيوخ مدينة واسعة ومأهولة جدا بالسكان وهي مقر (الشيخ ثويني) وهو من أمراء العرب الأقوياء الذي تخضع لحكمه الضفة اليمنى من نهر الفرات من الحلة حتى البصرة. ولقد ثار في إحدى المرات علانية ضد الحكومة العثمانية واستولى على مدينة البصرة ذاتها».
ويذكر الكولونيل والسياسي، والكاتب الأنثروبولوجي البريطاني هارولد ريتشارد ديكسون الذي عمل حاكما عسكريا لسوق الشيوخ إبان الحرب العالمية الأولى. ويقول في كتابه «الكويت وجاراتها» في فصل تحت عنوان (انا أدير سوق الشيوخ ) «وبعد ان احتلّ الجنرال نورمنغ، الناصرية في تموز/يوليو سنة 1915م ارسلت كضابط استخبارات إلى سوق الشيوخ، المدينة العربية الصغيرة على الفرات في وسط قبائل المنتفك، ولم تكن القوانين تسري هناك حتى في أيام الأتراك قبل سنة 1914 م، فقبائل المنتفك عنيدة متمردة وكانت في حالة من الفوضى بحيث اضطرتني إلى حث الدائرة السياسية، التي يرأسها السير برسي كوكس، الذي كان ينظم الإدارة المدنية في جنوب العراق على إرسال ضباط لإدارة المنطقة. وكم كانت دهشتي عندما تلقيت برقية عينني فيها السير برسي كوكس مساعد ضابط سياسيا، بالإضافة إلى واجباتي الأخرى في سوق الشيوخ».
آثار سومرية
«أم العباس» هو إيشان سومري، والإيشان في اللغة السومرية يعني تل، يعود تاريخه إلى سنة 2100 ق، أيام سلالة أور الثالثة، حيث توجد أطلال مدينة عامرة هي «كوتالا» التي سقطت على أيدي العيلاميين سنة 2000 ق وبقاياها اليوم تعرف بـ «تل صفر». كما توجد بالقرب منها إيشانات تعود إلى مدينة سوق الشيوخ مثل أم الحلفة «سكيكه» وأم الودع وهو إيشان كبير فيه ضريح السيد نعمة الرضوي وإيشان مارو، الذي أنشأت عليه مدينة سوق الشيوخ، وإيشان كيسيكا «تل اللحم» وتل الجديدة. وربما كانت خطوة افتتاح كلية الآثار في مدينة سوق الشيوخ مؤخرا خطوة مهمة جدا، كونها أول كلية متخصصة بالآثار في العراق وهي تتبع إداريا إلى جامعة ذي قار، هذه الخطوة سترسخ ثقافة التعامل المجتمعي مع الآثار في مدينة تطفو على كنوز أثرية، كما انها ستعيد للمدينة بعض أهميتها التي فقدتها.
ايكولوجيا وأسواق
يصف أياد علي الحسني في كتابه «سوق الشيوخ تاريخها وعشائرها» إيكولوجيا المدينة فيقول «ومن شمال المدينة تبدأ البساتين في غرب الفرات، حيث تمر خلالها ثلاثة أنهار أو قنوات يغذيها الفرات، أولها الرزاقية وتقع جنوب المدينة وقد سميت على إسم قائمقام المدينة حينذاك وهو عبد الرزاق حلمي، أما القناة الثانية فهي قناة الدكسنية والتي تقع شمال المدينة وقد سميت على اسم الحاكم البريطاني للمدينة الميجور ديكسون، وقد طمرت هاتان القناتان مع مرور الوقت نتيجة الإهمال. وإلى شمال الدكسنية تقع القناة الثالثة التي تعرف بالبدعي، والقناة الأبعد هي القناة الرابعة والتي تسمى قناة علثة، التي تسير من الفرات إلى جانب ساتر ترابي ينتهي عند طريق السوق حتى يصل مدينة الناصرية مرورا بأم العباس فالفضلية ثم الحضر.
أما إلى الغرب من المدينة فهناك بركة واسعة من الماء المنحسر من الفيضانات نسميها البركة وهي مرتع لقطعان الجاموس، حيث يسكن أصحابها مربو الجاموس بالقرب منها، أما أسواق سوق الشيوخ فانها تكاد تكون صورة مشابهة أو مطابقة لأسواق مدن جنوب العراق من حيث المهن أو نمط البناء أو توزيع الأسواق إلى مجموعات من الخدمات المتجاورة، فنجد في أسواق مدينة سوق الشيوخ حسب اياد علي الحسني «أسواق المدينة شريان حياتها ومركز الحركة الاقتصادية فيها. مالك السوق الرئيسي في المدينة كان رجلا يهوديا من أهل الناصرية، وهو أحد المهاجرين من بغداد واسمه دانيال، وقام الناس بتحريف الاسم فكانوا يسمون السوق بـ «سوق دانيار». ويضيف الحسني في كتابه «يمتد السوق الذي يستدير بزاوية حادة ليضم محلات البزٌازين باعة الأقمشة ويتفرع منه إلى اليمين سوق الخياطين إلى أن يصل إلى نقطة إلى اليمين منه فتجد سوقا صغيرأ للخرٌازين، أي من يتعاملون بالجلود، ويؤدي إلى محلة البغادة. واستمراره إلى الشمال يدخل منطقة باعة التبوغ ثم يؤدي إلى دائرة البريد المطلة على نهر الفرات».
ويكمل الحسني وصف الأسواق بقوله «يخرج فرع إلى اليسار من السوق الرئيسي يضم سوق الصاغة للذهب والفضة، وفي آخره بعض الحدادين ثم سوق القصابين. وينتهي السوق المسقوف بساحة واسعة مكشوفة هي الصفاة، حيث يتواجد البقالون ومحلات بيع الخضروات والفواكه في دكاكين غير ثابتة. فتجد القرويات يبعن منتجات الحليب من زبدة وجبن ولبن، وفي طرف الصفاة هذه وقفة واسعة للحيوانات، وأكثر هذه الحيوانات من الحمير أو الجمال أو الغنم والماعز والدواجن وهي إما أن تكون معروضة للبيع أو أنها في انتظار أصحابها للعودة بهم إلى مناطقهم».
سوق الشيوخ التي كانت على مدى قرن كامل عاصمة إمارة آل السعدون الذين حكموا جنوب العراق الغربي، تعاني اليوم من الإهمال والنسيان وقلة الخدمات، لكنها وبفضل جهود أبنائها تحاول ان تسعيد بعض بهائها القديم.
صادق الطائي
صادق الشمري كاتب متميز ورائع شكرا لمتابعة كتاباتنا