بغداد ـ «القدس العربي»: غطت أخبار الصراعات المحلية والإقليمية على ثروات كركوك النفطية الطائلة، على حقيقة هذه المدينة التي تتميز بتاريخ عريق ومواقع أثرية وثروات زراعية واقتصادية متنوعة، وتمثل في مكوناتها وأعراقها، عراقا مصغرا منسجما على مدى التاريخ.
ومحافظة كركوك «أو التأميم» التي تقع 240 كلم شمال العراق، يسكنها خليط من العرب والكرد والتركمان والآشوريين منذ أمد بعيد. وتنعم المدينة بإرث تاريخي عريق وثقافات دينية متنوعة، إضافة إلى أهميتها الاقتصادية بوجود حقول نفطية غنية.
وتسارع عدد سكان المحافظة في النمو في السنوات الأخيرة، حيث تضاعف من 752 ألف نسمة عام 1997 إلى مليون ونصف المليون حسب تقديرات وزارة التخطيط لعام 2015. ويتغير عدد السكان في المحافظة بين آونة وأخرى لأسباب سياسية وإدارية واقتصادية، بسبب تغير حدودها الإدارية، اضافة إلى ان اكتشاف النفط في كركوك أدى إلى حركة نزوح كبيرة إليها من القرى والأرياف وحتى من المحافظات الأخرى لغرض العمل في شركة نفط العراق، وتم استحداث مناطق سكنية حديثة في أطرافها.
القلعة
تشير المصادر التاريخية، إلى ان كركوك يمتد تاريخها إلى العصر الســـومري، وان أقـــدم ذكـــر لها يرجــع إلى عهد الحضارة السومرية «عصر فجر السلالات» 2600ق.م.
وتذكر بعض المصادر ان كركوك قد تميزت في العهد السومري بعدة أسماء منها أربخا، وكرخ سلوخ، ومنيس، وكرخيني، وأسماء أخرى وردت على صفحات التاريخ. وفي عصر دولة «الخروف الأسود» من سنة 1410-1467 سميت البلدة كركوك.
وتضم المحافظة نحو 700 موقع أثري حسب دائرة الآثار، أبرزها قلعة كركوك وسط المدينة، التي يعود تأريخها إلى 2600 عام قبل الميلاد أي إلى عصر فجر السلالات السومرية، وتقع القلعة في مركز المدينة وتعتبر من أقدم أجزائها، ويبلغ ارتفاعها 18 مترا ومساحتها 247500 متر مربع، وقد بنيت في الأصل على تل مدور ذي أربع زوايا، يرتفع عن السهول المحيطة به ويشرف على وادي نهر صغير ذي مياه قليلة يفيض عادة في الفصول الماطرة ويعرف بنهر الخاصة. وشهدت القلعة عدة حضارات ومر بها ملوك وقادة بارزون في التاريخ. ويعتقد بعض المؤرخين ان القلعة بنيت في عهد الملك الآشوري آشور ناصر بال الثاني بين عامي 850 و884 قبل الميلاد، حيث جعلها الملك أحد مراكز جيوشه. كما ان الملك سلوخ من بعده بنى حائطا دفاعيا قويا حول القلعة وشيد 72 برجا حولها. وكذلك قام القائد المغولي تيمورلنك بزيارة القلعة عام 1393 أثناء غزوه العراق.
وتضم القلعة العديد من الآثار منها أضرحة ثلاثة أنبياء هم دانيال وحُنين وعزير، كما توجد في القلعة القبة الزرقاء، وهي ضريح للأميرة بوغداي خاتون السلجوقية وتم انشاؤها سنة 762هـ. اضافة إلى بعض الكنائس مثل كنيسة مار دانيال ونماز ايوي وهما اللتان بنيتا قديما في القرن الثالث الميلادي ثم تحولتا إلى جامع.
ويشير كتاب «المرشد إلى مواطن الآثار» للكاتبين طه باقر وفؤاد سفر، إلى ان كركوك «كانت مدينة محصورة في القلعة في مطلع القرن الثامن عشر للميلاد وبدأ الناس بعد ذلك يبنون البيوت في السهل خارج بدن القلعة، وشكلها العام دائري تقريبا وترتفع عن مستوى سطح الأرض المجاور لها 18مترا وللقلعة أربعة مداخل رئيسية».
واضافة إلى قلعة كركوك، توجد العديد من المواقع التراثية في المدينة مثل قشلة كركوك وهو مركز الحكومة في العهد العثماني، والبناء تراثي ضخم يقع في الجانب الثاني من كركوك ووسط المدينة، واجهته تشكل قبة فنية ومعمارية نادرة، وأعمدته الحجرية قصيرة جداً ومحجلة وفيها أقواس نصف دائرية، وتتكون من طابقين كبيرين يضمان العديد من الغرف والقاعات، ويعود تاريخ بنائها إلى سنة 1291هـ /1874م من قبل والي كركوك آنذاك نافذ باشا.
ومن المعالم البارزة الأخرى في المدينة، جامع النبي دانيال، المعروف بمئذنته المشهورة التي يــعــود تاريخ بنائها إلى عهد نبوخذ نصــر عام 586 ق. م. ويمتاز بنــاؤه بالعقادات والأقواس الجميلة الفــنــية التي تقوم على قاعدة مثــمـنة، وفيه مراقد لثلاثة أنبياء هم، دانيال وعزير وحنين، وجــدد بناءها جعفر باشا متصرف لواء كركوك عام 1058هـ/1648م.
ومن الكنائس المهمة في المدينة الكلدانية أم الأحزان، التي بنيت على أنقاض كاتدرائية قديمة، وهي مشيدة بالحجر والجص وتقوم سقوفها وأروقتها على أقواس وأعمدة مرمرية وتعتبر بتيجانها فخمة في نمط البناء المعماري، ويعود تاريخ بنائها الأول إلى سنة 1862 م.
سوق القيصرية
وفي وسط المدينة يقع سوق قيصرية كركوك، وهو أحد الأسواق التراثية على مستوى العراق، ويعود تاريخه إلى منتصف القرن الثامن عشر، ويتميز بعمارته وألغازه الفلكية اضافة إلى العديد من الخانات التراثية كالسوق الكبير الواقع في الصوب الكبير من المركز.
ومؤخرا تم العثور في منطقة طوبزاوة، 25 كم شمال كركوك، على موقع آثاري يحتوي على قبور أثرية وأوان وقطع فخارية، ويقع ضمن منطقة تشمل مواقع مهمة لم ينقب عنها منذ وقت طويل.
وأشارت السلطات في المحافظة أن «هناك مواقع أثرية في مناطق داقوق وتل قرجة هي عرضة للسرقة والنبش من قبل سراق ومهربي الآثار».
كما شكلت مفتشية آثار كركوك فريق عمل لإجراء كشف موقعي على المواقع الأثرية التي تعرضت للتخريب والهدم من قبل تنظيم «داعش» الإرهابي أثناء سيطرته على بعض مناطق المحافظة منذ عام 2014 ولغاية 2017.
حقول النفط
في محافظة كركوك، التي أصبح اسمها محافظة التأميم بعد تأميم النفط عام 1973 ستة حقول نفطية أكبرها في مدينة كركوك ويبلغ المخزون النفطي حوالي 13 مليار برميل اضافة إلى حقول للغاز الطبيعي. ويتم تصدير النفط من شمال العراق عن طريق أنبوب إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. ويمثل الاحتياطي النفطي في كركوك نحو 12 في المئة من مجموع الاحتياطي النفطي العراقي، وكان أول استخراج تجاري للنفط فيها من قبل شركة تركية عام 1912.
ويعد حقل كركوك خامس أكبر حقل في العالم من حيث السعة ويبلغ طوله حوالي 96 كم وعرضه حوالي أربعة كم. ويتراوح عمق آبار حقل كركوك بين 450 مترا إلى تسعمئة متر، بينما يبلغ مقدار الإنتاج اليومي بين 750 ألف ومليون برميل وبمعدل إنتاج البئر الواحدة 35 ألف برميل يوميا.
وعند بداية استغلال حقل كركوك في العهد الملكي العراقي كان عدد آباره 44 وبعد تأميم النفط في سنة 1973 كان الحقل يضم 47 بئرا منتجة و88 للمراقبة والاستكشاف. ويحتوي حقل كركوك الآن على أكثر من 330 بئرا منتجة وعددها في ازدياد، وأبرزها حــقـول باي حسن وجمبور وخباز.
وأعلنت وزارة النفط العراقية مؤخرا أنها قامت بطرح أربعة مصافي نفطية للاستثمار، ودعت الشركات المؤهلة فنيا وماليا إلى الاستثمار فيها، ومن بينها مصفاة كركوك بطاقة 150ألف برميل في اليوم.
وعقب فرض قوات الحكومة الاتحادية سيطرتها على كركوك في أواخر 2017 وانسحاب قوات البيشمركه منها، بدأت الحكومة تنفيذ مشروع لنقل النفط الخام من كركوك إلى إيران عبر الشاحنات والتخطيط لمد خط أنابيب لهذا الغرض.
الزراعة
وتتمتع المحافظة بامكانيات اقتصادية أخرى منها الأراضي الزراعية الخصبة الواسعة التي تزيد عن مليوني دونم. وأبرز المحاصيل الصيفية والشتوية وخاصة الاستراتيجية منها، هي الحنطة والشعير والقطن وزهرة الشمس والذرة الصفراء. كما تنتشر على أراضيها الغابات الطبيعية والاصطناعية والمراعي الطبيعية. وتهتم السلطات المحلية أيضا بمشاريع الثروة الحيوانية وتأدية الخدمات الضرورية لتنمية هذه الثروة في المحافظة.
وتواجه الزراعة في المحافظة مشاكل عديدة من أبرزها انتشار ظاهرة التصحر وشحة المياه، وهي ظواهر تعاني منها معظم المحافظات العراقية.
التغيير الديموغرافي
تنطبق مقولة «النفط يكون أحيانا نقمة وليس نعمة» على كركوك منذ اكتشاف الثروة النفطية الهائلة فيها عام 1912 حيث ان المنطقة رغم امتلاكها مخزونا هائلا من الثروة النفطية، اضافة إلى ثروات اقتصادية أخرى، إلا ان سكانها عانوا من مؤامرات وصراع مستمر بين القوى السياسية المحلية، من العرب والكرد والتركمان، من جهة وصراع مصالح دول الجوار، تركيا وإيران، سعيا وراء ثرواتها النفطية.
وقد تعرضت كركوك إلى حملات تعريب من حكومات بغداد ما قبل الاحتلال، وتكريد من حكومات إقليم كردستان بعد 2003 حيث تم لتحقيق هذه الغاية نقل مئات الآلاف من العرب والكرد من مناطق أخرى إليها. وبدلا من الحفاظ على الانسجام بين مكونات المنطقة الذي ساد عبر تاريخ طويل، اندفعت القوى السياسية والرسمية لتنفيذ مشاريعها التي تركزت على الهيمنة على الثروة النفطية عبر ضرب النسيج الاجتماعي فيها وتنفيذ إجراءات للتغيير الديموغرافي فيها.
ولعل أبرز محطات التغيير السكاني وقعت بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 عندما أخذت القوى السياسية تتحرك بقوة وبتأثير من قوى خارجية، في مساع محمومة لكسب المكونات وتشكيل الأحزاب والجماعات المسلحة منها، وتحريكها في المنطقة وفق الظروف لفرض هيمنتها على المحافظة. وساهم الاحتلال الأمريكي في فرض مقومات التجزئة من خلال دس مواد في الدستور الجديد مثل «المناطق المتنازع عليها» التي شجعت على بث الخلافات والصراع بين القوى السياسية والمكونات.
وتمكنت القوى الكردية من فرض سيطرتها على كركوك بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وأعلن الزعيم الكردي مسعود بارزاني ان كركوك هي القدس بالنسبة للكرد ولن يتخلَى عنها، مستغلا الخلافات بين العرب السنة والشيعة وعزوف العرب السنة عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، حيث تمكنت حكومة الإقليم من استغلال الفراغ السياسي والأمني جراء غياب بغداد عن كركوك وفرضت سيطرتها على كافة دوائر المحافظة المدنية والعسكرية، ووصلت إلى حد دفع مجلس المحافظة ذو الأغلبية الكردية إلى طلب الانضمام إلى الإقليم والمشاركة في الاستفتاء على الانفصال عن العراق ورفع علم الإقليم على دوائرها. وهو الأمر الذي أثار حكومة بغداد التي قامت بإرسال الجيش العراقي في 16/10/2017 وأعادت سيطرتها عليها وعلى حقولها النفطية.
وتعتبر محافظة كركوك، التي لها 12 مقعدا في مجلس النواب الاتحادي، من أبرز المناطق «المتنازع عليها» حسب المادة 140 من الدستور العراقي.
ويتفق العراقيون والمتابعون على ان كركوك يمكن ان تكون عراقا مصغرا لجميع العراقيين بكل مكوناتهم عبر ضمان مصالح الجميع، أو ان تكون برميل البارود الذي سيؤدي انفجاره إلى تدمير العراق.
مصطفى العبيدي