المصادفات أحيانا هي التي تصنع المعجزات أو التكامل الأنطولوجي، أو تنجز الميثولوجيا الواقعية، لشخصين التقيا مصادفة في العراق خلال بحثهما الأسطوري والتاريخي والأركيولوجي في أرض وادي الرافدين، ليصنعا عبر تلك اللحظة اسطورتهما الشخصية، كي تتكامل الصورة بين الخيال والواقع، حيث يقترن الباحث والعالم البريطاني ماكس مالوان مع العبقرية الروائية أغاثا كريستي صاحبة الصيت العالمي الذائع، تلك السيدة الخجول التي أدهشت العالم برواياتها البوليسية التي قرأها الملايين في العالم وما زالت تتصدر المشهد الجمالي لهذا النوع من الكتابة.
تلك الروايات ذات الحبكات المركبة والمدهشة في عوالمها وطريقة حياكة تلك الأجواء المريعة والمبهجة في آن، ذلك العالم الروائي المصحوب بالخفايا والدهاليز والمتاهات والأسرار والألغاز المشوقة، أسرار وألغاز تحوم وتبحث في شؤون القتل الغامض والمشاهد المبهمة والعقد المستعصية، يرافقها المحلل البارع الموجود داخل النسيج الروائي، يحلل ويستقصي ويجمع خيوط الحكاية المتشابكة والملتوية والمتداخلة مشاهدها مع واقع شديد الغموض، ذلك المحلل الذي يستطيع في السطور الأخيرة من الرواية حل العقدة المركبة، والذي يظهر مرة بدور القاضي أو الشرطي السرّي الماهر في كشف القضايا المستعصية لدى أجهزة البوليس.
هذه السيدة البسيطة كما وصفها مالوان بدت امرأة عادية في ملبسها وطبيعتها اليومية ومعيشتها وطراز حياتها، وستصاحب الرجل الذكي والبارع مالوان في كل تفاصيل حياته اليومية وسفراته العلمية، وستساعده في كشف وتحليل بعض القضايا والأمور والمهمات الأركيولوجية.
كتاب ماكس مالوان البريطاني الحاذق والشخصية العلمية، هو مذكراته الباهرة في عالم الاسطورة الرافدنية. نقله إلى العربية بشكل صاف وسليم ومقتدر سمير عبد الرحيم الجلبي، ليتحف المكتبة العربية بهذه الرائعة الأوتو- بيوغرافية، والتي تعد جزءاً ينضاف إلى هذه الحفريات التي سطرها ماكس مالوان مع صحبه وفريق عمله الذي دام قرابة الخمسين عاماً، وهم ينقبون في تلك الأراضي الذهبية، وفي وسط أجواء حارة أو ممطرة أو موحلة وطينية، أجواء لم تكن مريحة في غالبها، في بيئة شبه بدوية وفلاحية، أو أجواء خطرة، تسببها بعض الانهيارات التي تحدث أثناء العمل أو الأخطاء التي تنجم عن العمل المتواصل والمتدفق في تلك الأرض السحرية التي تضم كنوزاً تاريخية وتحفاً، تحدد بداية التكوين الحضري والمديني للطبيعة البشرية هناك، كيف كانت وكيف بدأت، إلى ما آلت اليه الآن من تطور متسارع ومضيء لحياة الإنسان في كل جوانبه ومحطاته اليومية.
من هنا كان ماكس مالوان وفريق المبعوثين من العلماء والاركيولوجيين يجدّون ويعملون ليل نهار في تلك البقاع التي يعدّونها نائية وبعيدة ومقفرة، وبالأخص لأزمنة تلك السنوات من أعوام الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من أيام الملكية في العراق، ثم وصولاً إلى الستينيات والسبعينيات من العَقْد المنصرم للألفية الثانية.
تحت هذا السقف، من تلك الحياة العراقية والسورية البسيطة لتلك الأعوام، عملوا واكتشفوا وأضاءوا عوالم ومدائن مندثرة وممالك جرفها الطوفان والحروب والمعارك، اكشتفوا ألواحاً وأختاماً وتماثيل ومدونات وتعاليم صلصالية وحفريات ولقى وموجودات لا تقدر بثمن، بدأت في سومر وبابل ونينوى ونمرود والأربجية وغيرها من المواقع التي زارها وعمل فيها هؤلاء العلماء الذين عملوا تحت حساب جهات علمية وحكومية بريطانية، وبمساعدة من الدولتين العراقية والسورية والبلدان والمواقع الأخرى التي عمل فيها بالأخص مالوان مثل مصر وليبيا.
شَغَل ماكس مالوان عضوية مجلس أمناء المتحف البريطاني، وهو يتكون من عشرين شخصية، من الرجال والنساء، وينتخبون من حقول متنوعة، دبلوماسية وإدارية وأثارية وفنية وقانونية ومالية ومعمارية وتربوية وعلمية وأدبية، وهؤلاء هم من يقرر سياسة المتحف، كونهم يمثلون الدعامة له، وهم فوق ذلك كله لا يتقاضون أجوراً على عملهم، لكن لهم قدرة إصدار الأوامر بتعيين الموظفين من العلماء والباحثين في الأماكن التي يشاؤون التنقيب فيها.
أما زوجته الشخصية اللامعة والمثيرة في أدبها، فكانت تساعد في التصوير الفوتوغرافي للقى والمكتشفات وصيانتها وترقيمها وترتيبها وفق العمل المناط بها، فضلا عن انصرافها في بعض الأحيان لكتابة رواياتها في تلك الأجواء الشيقة، التي لطالما حلمت بها وتاقت إليها، فسطرتْ العديد من الروايات والكتب والمذكرات في تلك الأماكن التي تعدها سحرية وأسطورية، فكتبت على سبيل المثال لا الحصر رواية «قطار الشرق السريع» و «جريمة في بغداد» و»تعالوا وارووا كيف يعيشون» وغيرها من روايات الإثارة ذات الأبعاد البوليسية.
ينبغي ألا ننسى الشخصية النادرة والمهمة الأخرى، وهي جيترود بيل، والتي كانت تعمل في فريق ماكس مالوان، وهي روائية وكاتبة معروفة ومؤثرة ولا تقل شأناً عن أغاثا كريستي، وقد برزتْ في بعض فصول الكتاب المختصة بمواقع «شكر بازار» و «الحسكة» و»الرقة» وعلى ضفاف نهر الخابور.
كَتَب مالوان مذكراته وهو في منتصف السبعينيات من عمره، وقبيل الانتهاء منها بقليل توفيت أغاثا كريستي، ما ترك فراغاً كبيراً في حياته بعد صحبة امتدت إلى أكثر من خمسين عاماً، فراغاً سيشعر به جمهورها العريض المتوزع في كل قارات العالم، وستخسرها بريطانيا بالتأكيد، فهي علم بارز ومَعْلم واضح مثل معلم بيغ بن وغيره، ولها حضور لا يقل عن حضور الملكات.
يُقسِّم مالوان كتابه المغرق بالمعرفة والمعلومات الأركيولوجية، إلى عدة أقسام، مبتدئاً فصله الأول بسنوات دراسته في أكسفورد، والعِلم الذي ناله من هذه الجامعة الرائدة في رفد الطلبة بالعلوم والدرس والبحث والاستقصاء.
كان مالوان يبدي نوعاً من السعادة وهو في ذلك المكان التاريخي، مستغرقاً في عالم الكتب والفلسفة والأبحاث المنيرة لعالمه الجديد، هائماً بين أصدقائه الطلبة، وجله يتحدّر من عائلات معروفة وبارزة، لا يني مالوان الإشارة اليهم وإلى دورهم في تلك الحقبة التاريخية من الزمن البريطاني .
في القسم الذي يليه يأتي فصل العمل والإرسالية إلى أور، وهو من الفصول الممتعة، والتي تلقي المزيد من الأنوار على تلك المدن الغامضة لحضارات راحلة، وهذا الفصل يعنونه بسنوات «ما قبل الحرب» أي الحرب العالمية الثانية، واصفاً وصوله إلى بغداد، ومن ثم رحيله بالقطار وعبر اثنتي عشرة ساعة، لكي يصل إلى خرائب أور كما يسميها، ومعه رفيقاه باحث أركيولوجي ومهندس معماري، وكانوا كما يصفهم ويصف الرحلة في غاية السعادة، من مطلع عام 1925.
يباشر مالوان العمل حال وصوله، والعمل يبدأ عادة منذ شروق الشمس وينتهي وقت الغروب، وكان وولي وهو رئيس البعثة ومديرها، يسهر على كشوفاته الأثرية في مكتبه وعلى أبحاثة حتى ساعة متأخرة من الليل.
أن وولي هذا، كان باحثاً متمكناً، وكان ينتوي التوصّل إلى سرّ النبي ابراهيم الذي يرد ذكره في سفر التكوين المقطع رقم عشرة من التوراة، ومن ثم هجرته إلى فلسطين عن بلاد سومر أو بلاد بابل التي كانت تسمى هكذا فيما بعد.
من هنا انحصر هذا القسم، وهو الأول من فصول الكتاب الضخم، بسومر، التي هي الآن محافظة الناصرية جنوب العراق، وبابل التي هي محافظة الحلة جنوب غرب العراق، ومن ثم التوكيد على الكتابة المسمارية التي تم الكشف عنها، تلك الكتابة التي كانت تكتب بصيغة مثلثة الشكل، وهي حسب مالوان واستاذه وولي أحد أهم الاختراعات الرئيسية في العالم، والتي تمخّضت فيما بعد عن أول أبجدية وضعها الفينيقيون بعد 1400 عام من ذلك التاريخ.
ثم يستطرد مالوان ليتحدث عن زقورة أور التي بناها وجددها بالآجر المفخور الملك أور ـ نمّو ، مؤسس سلالة أور الثالثة، وعن الملوك الذي توالوا على حكمها، في تلك الأمبراطورية الواسعة في أرض وادي الرافدين.
في الظن، أن هذا القسم هو الأهم في الكتاب، كونه يتحدث عن جلّ التنقيبات التي جرتْ هناك، فهو يستحوذ على أهم فصول الكتاب، وهي : الفصل الثاني ـ أور مقدمة إلى علم الآثار، الفصل الثالث – أور التنقيبات، الفصل الرابع ـ نينوى، الفصل الخامس ـ الأربجية ، الفصل الخامس ـ مسح منطقة الخابور، الفصل السابع ـ شكر بازار، الفصل الثامن ـ التنقيبات في تل براك، الفصل التاسع ـ التنقيبات في وادي البليخ.
أما القسم الثالث من الكتاب فهو يختص بمجمل حياة زوجته أغاثا كريستي، منيراً بحكمته العلمية والأدبية والأركيولوجية فصولاً مهمة من حياتها اللافتة والأخاذة، وهي تدورحول أربعة محاور كتبها مالوان بأسلوب أدبي جذاب ومتقن. فهو يتحدث في محوره الأول عن أغاثا الإنسانة، وفي الثاني عن كتبها، وفي الثالث عن رواية « قطارالشرق السريع « التي سبقت الإشارة إليها.
بينما القسم الرابع والأخير فقد احتوى على أهم الكشوفات الأثرية، وعلى أبرز الحفريات واللقى التي تم العثور عليها في نمرود وهي: معهد الآثار ـ نمرود الحصن ـ نمرود قلعة شلمنصر ـ المؤسسات الاكاديمية والعاملون فيها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية هذا الكتاب اللامع، وهو يكشف لك بسرد مضيء ومتمكن، التفاصيل الصغيرة والكبيرة، عن عوالم تلك الأيام المنصرمة من تاريخ الحياة في بلدك، يتحدث مالوان بقلب مترع بالبهجة عن جمال تلك الأيام وعن القوانين والأمن والسلام والمباذل والمناسك العراقية والسورية، وهو يعتبر تلك الأيام من أجمل سِنِي حياته الشخصية.
«مذكرات مالوان» ماكس مالوان:
ترجمة سمير عبد الرحيم الجلبي
منشورات الجمل، بيروت 2014
416 صفحة
هاشم شفيق