تحدثت تقارير صحافية عن توقع إنجاز الاتفاق النهائي على تطبيع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، في السادس والعشرين من الشهر الجاري، على أن يتم الإعلان عنه رسمياً في شهر تموز/يوليو المقبل. وقالت المصادر الإسرائيلية إنه تم التوافق بين الطرفين بشأن 95٪ من المسائل التي كانت عالقة، ولم يبق سوى 5٪، وهي في سبيلها إلى الحل.
يمكن القول إن تصريحات موسى أبو مرزوق وإسماعيل هنية التي قال فيها الأول إن إيران أكثر سخاء من جميع الدول العربية، في حين هاجم الثاني ما أسماه بـ»المحور السني» الذي ضم إليه هنية إسرائيل، تشكل أرضية مناسبة لحل نسبة الـ5٪ المتبقية من المشكلات في وجه تطبيع العلاقات التركية – الإسرائيلية. فالفرع الفلسطيني من حركة الإخوان المسلمين يظهر هنا مخلصاً لنهج الباطنية السياسية القادرة دائماً على إعادة التموضع وفقاً للظروف ولمتطلبات العلاقات البراغماتية مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة.
فالمسألة الوحيدة العالقة (أي الـ5٪) إنما هي الطلب الإسرائيلي من أنقرة بشأن إغلاق مكاتب حركة حماس في تركيا. أما الشرط التركي الذي كان يعرقل التطبيع، أي رفع الحصار عن غزة، فقد وافقت إسرائيل على «صيغة مرنة» من إبقاء الحصار، مع فتح باب امتيازي لتركيا لاختراقه تحت الرقابة الإسرائيلية: تستكمل تركيا مستلزمات المستشفى الذي سبق وأنشأته في غزة، من كادر طبي وأجهزة وأدوية، بدون عرقلة من السلطات الإسرائيلية. وتقيم تركيا، منشأة لتحلية مياه البحر، مساهمةً منهما في أزمة مياه الشرب في غزة، ومركزاً لإنتاج الطاقة الكهربائية، بالشراكة مع ألمانيا. كما سيكون مسموحاً لتركيا تزويد القطاع بمواد البناء، على أن تمر بميناء أشدود الإسرائيلي.
وسبق لإسرائيل أن وافقت، في جولات سابقة من المفاوضات، على الاعتذار من تركيا، ودفع تعويضات لذوي ضحايا الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة الزرقاء، بقيمة عشرين مليون دولار، مقابل ضمان الحكومة التركية بعدم رفع دعاوى شخصية من ذوي الضحايا.
إذن من شأن إعادة التموضع الحمساوية المستجدة في صفوف المحور الإيراني، أن يسهِّل على الحكومة التركية التخلص من عبء أنشطة حماس على أراضيها، وذلك بانسحاب طوعي منها، على غرار خروج الإخوانيين المصريين والفلسطينيين من قطر، قبل عامين.
أعلن رئيس الوزراء التركي الجديد بنالي يلدرم أن شعار السياسة الخارجية لحكومته هو «زيادة عدد الأصدقاء، وتقليل عدد الأعداء». وبالنظر إلى طبيعة العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، يمكننا القول إن الشعار المذكور هو التعبير عن انعطافة أردوغانية تم تحميلها ليلدرم، لتفادي حرج الاضطرار للتراجع عن سياسات فشلت بسبب جملة الضغوط التي حاصرتها من الأمريكيين والروس والأوروبيين. ومن المحتمل أن رغبة أردوغان في تسريع التطبيع مع إسرائيل، تعود إلى نظرته إليها بوصفها مفتاحاً لأبواب موسكو وواشنطن المسدودة والمواربة، على التوالي، في وجهه.
ويعود كل من التوتر في العلاقات التركية ـ الروسية، والخلافات المعلنة بين أنقرة وواشنطن، إلى السياسة السورية لأردوغان التي قامت على التدخل الفعال في الصراع السوري بهدف إسقاط نظام بشار الكيماوي. ومنذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا، نهاية أيلول/سبتمبر 2015، اضطر أردوغان إلى الغمغمة بشأن قبول بقاء السفاح السوري خلال «المرحلة الانتقالية» في ختام آخر زيارة له إلى موسكو. ثم جاء تورط تركيا في إسقاط الطائرة الروسية لتصل العلاقات إلى درجة القطيعة التامة. ولم تنفع رسالة التهنئة التي أرسلها أردوغان إلى بوتين في تطبيع العلاقات. وثمة من يقولون إن تغيير السياسة التركية تجاه نظام الأسد هو الشرط غير المعلن لموسكو، إضافة إلى الشروط المعلنة (الاعتذار العلني من أعلى المراجع التركية، ودفع التعويضات، ومعاقبة قاتل الطيار الروسي).
في هذا الإطار تدور الهمسات والتسريبات والتكهنات بصدد تطبيع تركي محتمل مع نظام الأسد الكيماوي نفسه، وإن كان الضغط الروسي المحتمل يتقاطع مع الهواجس الأمنية التركية بشأن إقامة كيان كردي مفترض يمتد على طول الحدود السورية ـ التركية. وهذه هي البوابة المجربة تاريخياً للتوافقات السورية ـ التركية، منذ اتفاق أضنة، في العام 1998، الذي أدى إلى طرد عبد الله أوجالان من دمشق، ثم أسره في تركيا. يقال إن الوساطة الجزائرية التي شاع الحديث عنها، هذه الأيام، لم تؤدِّ إلى نتيجة. ولكن هناك قناة أخرى، غير رسمية، تعمل على التقريب بين أردوغان والأسد، تتمثل بحزب الوطن (حزب العمال التركي سابقاً ذي الإيديولوجيا الماوية) بقيادة دوغو بيرينجك.
فقد صرَّحَ بيرينجك الذي كانت تربطه علاقات طيبة، في الثمانينات، مع أوجالان في مرحلته الدمشقية، وأصبح اليوم أحد أشرس خصوم حزب العمال الكردستاني، أن وفداً من حزبه برئاسة الجنرال المتقاعد من جهاز استخبارات رئاسة الأركان التركية «حقي بكين» قام بزيارات عدة، في العام الحالي، إلى دمشق حيث التقى بمسؤولين في النظام من أعلى المستويات. وأضاف بأنه شخصياً اجتمع مع بشار الأسد، في شهر شباط/فبراير، في لقاء استمر ساعتين ونصف الساعة.
ورداً على سؤال عن الغاية من هذه اللقاءات التي وصفها بـ»المثمرة» قال الزعيم الماوي العتيق: «نحن نؤمن بوجوب حدوث تقارب بين البلدين، من أجل وحدة تركيا وسيادتها». وحين سئل عن علاقة الحكومة التركية بهذه المبادرات، أجاب بيرينجك قائلاً: «بعد كل زيارة، يذهب رفاقنا إلى وزارة الخارجية ويضعونها في صورة المحادثات».
ماذا عن رأي النظام الكيماوي؟
يقول بيرينجك: «يرى الأسد، في الولايات المتحدة، العدو الذي يريد تقسيم سوريا، وفي حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، بيدقاً في يدها. أخبرَنا الأسد بأنه مستعد لإقامة علاقة ودية مع تركيا، إذا توقفت عن تصدير الإرهابيين إلى سوريا».
أخيراً سأل أوزجان تيكيت من صحيفة «خبر ترك» رئيس حزب الوطن: «متى تتحسن العلاقات بين البلدين؟». فأجاب محيلاً إلى نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتلمش الذي قال، قبل أيام، إن هذه العلاقات ستتحسن «بحكم الضرورة»، وأضاف بيرينجيك: «علينا أن نسرع»!
هل يَحتمِل «بريستيج» أردوغان هذا الانقلاب؟ يبدو أن الهاجس الكردي الذي يشكل مكوناً جينياً من مكونات الجمهورية التركية، قادر على فعل الأعاجيب. ألم يقتل حرس الحدود التركي بدم بارد، قبل أيام، عائلة سورية كاملة مؤلفة من 11 شخصاً، معظمهم أطفال ونساء، ذنبهم الوحيد أنهم ارادوا الهرب من الموت؟
٭ كاتب سوري
بكر صدقي