ليس منزع المراجعة مسلكاً جديداً على الذهنيّة العربية الإسلامية إذ اتّضح ذلك منذ بدايات تأسيس التقليد العلمي وتثبيت سننه في البيئة الثقافية العربية الإسلامية منذ القرن الثاني للهجرة (حلقة خالد بن يزيد وحلقة جعفر الصادق)، وبداية من القرن الثالث خاصة (مع الجاحظ والكندي…) ومنذ القرن الرابع الهجري بصفة أخصّ (الفارابي- أبي بكر الرازي…) أو أهل القرن الخامس (ابن الهيثم والبيروني…) ترسيمًا لمستقبل الثقافة العربية الإسلامية ورغبة في تثبيت وظائفها في تحرير الإنسان وفي ترسيخ منزلتها في بناء الثقافة الإنسانية والحية ومسايرة لتطوّر الإنسانية نحو التعبير أكثر فأكثر عن الهويّات الفكرية والحضارية.
وفي مثل هذه البيئة الثقافية كان الخطاب الفلسفي يشتغل بإعادة النظر باستمرار في المقدّمات والأوضاع الحضارية التي ينطلق منها الفيلسوف بما في ذلك ماهية النظر الفلسفي ذاته، وفي الدلالات الأصلية للألفاظ التي تُصاغ منها تلك المقدّمات، والمناهج الصالحة لمعالجة الإشكالات الفلسفية.
ولمّا كانت المذاهب الفكريّة إنّما هي ظواهـر حضارية معبّرة، فإنّ الفلسفة بمعناها الواسع لم تكن منفصلة عن الحياة في البيئة الإسلامية، بل كانت متّصلة بها متفاعلة معها لا تنقطع عن التأثير والتأثّر بها تعبيراً عن الدّوافع والاهتمامات والحاجات والعقائد والأفكار والمثل والقيم السائدة في البيئة الحضارية المتعيّنة بالزمان والمكان، وإعادة تنظيمها من جديد ومراجعة نظامية التجربة الإنسانية بشكل عام كلّما كان ذلك ممكناً. وهي في كلّ ذلك تتأثّر بالبيئة الحاضنة لها في وجهها العقلي السائد وبالعوامل الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية التي تحيط بها . وبمواقف أجيال خلت وأصول أفكار غبرت، وفي ذلك يقول الكندي: «فأمّا أرسطوطاليس مبرّز اليونانيين في الفلسفة، فقال: ينبغي لنا أن نشكر آباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلاً عنهم، إذ هم سبب لهم، وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق- فما أحسن ما قال في ذلك».
ويضيف بأنّه من أوجب الحق ألاّ نذمّ من كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزلية، فكيف بالذين هم أكبر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدّية، فإنّهم وإن قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنساباً وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سبلاً، وآلات مؤدّية إلى علم كثير ممّا قصروا عن نيل حقيقته.
بدا الخطاب الفلسفي بذلك ضروريا أكثر من أي وقت مضى في البيئة الثقافية العربية الإسلامية باعتباره أداة النظر ووسيلة الفهم والاستيعاب والمراجعة، فكانت عقلية الفحص النقدي وقواعد الفهم العلمي والتنبّه إلى مواطن الخلل، ورصد أسباب الخطأ أو السهو أو التساهل في مزاولة الفعل العلمي من خصائص المنهج العلمي ومن مطالب العقلية العلمية. فأصبح الفهم قائماً على مساءلة المادّة المعرفية السّائدة، وأصبحت تلك المساءلة ركناً من أركان الفعل العلمي من جهة فهم يرى أنّ كل معنى تغمض حقيقته وتخفى بالبديهة خواصّه وشابه في بعض أحواله غيره فالشك متسلّط عليه، وللمُعاند والمتشكّك طريق مهيّأ إلى معاندته والطعن فيه وخاصة العلوم العقلية والمعاني البرهانية إذ العقل والتمييز مشترك لجميع الناس، وليس جميعهم متساوي الرتبة فيها وليس يذعن واحد من الناس لغيره فيما يدّعي صحّته بالقياس، ولا تصحّ دعواه في نفسه إلاّ بعد أن يصحّ له ذلك المعنى بقياسه وتمييزه الذي استأنفه هو وتتشّكل صحته في عقله، والعاجز المقصّر الضعيف التمييز ليس تتشكّل صحّة المعنى المعقول في عقله في أوّل تمييزه بل هو في أكثر الأحوال يسرع إليه التشكك في صحّته، ثم إذا طال الفكر والتمييز ظهرت له حقيقته، وربّما لم ينته مع غاية اجتهاده وإطالة الفكر فيه إلى معرفة حقيقته. فأكثر ذوي العقول والتمييز الصحيح فضلاً عمّن هو دونهم إذا مرّ بأحدهم معنى من المعاني اللّطيفة والحقائق الخفية فليس تظهر له تلك الحقيقة بالبديهة، وإذا لم تظهر له الحقيقة فقد عرض له التشكّك، فالتشكّك واقع لأكثر الناس في المعاني الخفية.
كان حينئذ فهم الفلاسفة والعلماء قائماً على أنّه لا قيمة حقيقية لعلم لا يسهم في تحرير الإنسان ومعرفته لنفسه وللعالم الذي يعيش فيه، وكان ذلك المهاد الباني لقواعد الفكر النقدي بجعله يدرك شيئاً من غنى الوجود وتعقيدات المسائل الإنسانية والتي تبقى الإحاطة بها أمراً متعذّراً لمحدودية الإدراك الإنساني فضلاً عن أنّ تحصيل الفعل العلمي يبقى اجتهاداً بشرياً قابلاً للمساءلة والمراجعة والمعارضة والاستدراك والتخطئة والتصويب ترسيماً لقواعد المنهج وآليّات الفهم في ترقية العقلية العلمية وجعلها مكوّناً من مكوّنات البنية الذهنية العربية الإسلامية نظرياً وعمليّاً، وهي جرأة علمية لم تكن دافعة إلى الحطّ من أقدار القدامى والسابقين بل كان استحسان الحق، وتقدير معينه معنى جارياً على ألسنتهم وحاكماً في أنشطتهم الفكرية وموجّهاً لأعمالهم العلمية. ذلك أن الفكر الفلسفي إنّما يتقدّم في مراجعـة دائـمـة لتاريخه ولأفـكاره ، وتقدّمـه كثيرا ما يعـرف التعطّل والانكفاء والانحراف كما يعرف الإصلاح والإكمال والانبعاث وغير ذلك من أشكال التواصل في طلب الحقيقة، وهو يقف موقف من يفحص كلّ شيء ويحكم على كلّ شيء ويشرئب دائماً إلى بلوغ ذروة الوعي وهو المتّهم لظنّه في المعاني الخفية، المتّبع الحجة والبرهان لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلّته بضروب الخلل والنقصان.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي
عنوان رائع، وتحليل أروع رغم اختلافي معه 180، فهو يلخص إشكالية أهل الفلسفة وانتقائية ثقافة الـ أنا في الإصرار على النظر إلى نصف القدح فقط، لكل جانب من الجوانب فيمن تعتبره من ضمن ثقافة الـ أنا أو ضمن ثقافة الـ آخر والعكس، ولذلك لا تكون القراءة صحيحة طالما لم تشمل نصفي القدح أولا، وبالتالي تشخيص المشكلة لن يكون صحيحا ولذلك حتى الحلول الناتجة ستكون جزء من المشكلة رغم المفروض أنها جزء من الحل إن لم تكن الحل نفسه.
بدون ثقافة الـ نحن التي تشمل ثقافة الـ أنا (الرجل) وثقافة الـ آخر (المرأة) لا يمكن تأسيس الأسرة أو الشركة وبالتالي الدولة، ولا يمكن استمرار أي أسرة أو شركة وبالتالي الدولة بدون اقتصاد يعتمد على مصادر للدخل متنوعة، وعقلية أو فلسفة التغيير لأجل التغيير من أجل إثبات وجود ثقافة الـ أنا دون أي سبب يكون ذو عائد اقتصادي، سيكون هو أساس الهدر عندما تكون الإمكانيات محدودة، كما قال جلال الدين ابن الرومي (بيع ذكاءك..وانبهر باستمرار.) فيكون كل منهم سبب إفلاس الإنسان والأسرة والشركة وبالتالي حتى دولة الحداثة، ولو كانت تملك كنوز وحكمة أهل الأرض، كما هو حال الدول ما بين دجلة والنيل عام 2017 وليس فقط أمريكا وفرنسا وبريطانيا عندما طلبت الطلاق من الاتحاد الأوربي بحجة التغيير؟!.
أنا لاحظت العولمة وأدواتها التقنية بسبب اعتمادها مبدأ التوطين في الترجمة بدل النقل الحرفي كما هو حال دولة الحداثة (الديكتاتورية والديمقراطية والبيروقراطية كمثال عملي على ذلك)، بيّنت لنا أنَّ الضبابية اللغوية أساسها الإصرار على عدم التفريق والتمييز من أن الفلسفة شيء والحكمة شيء آخر، أو أن الفكر شيء واللغة شيء آخر، أو أن علم الكلام شيء وعلم اللغة شيء آخر، أو أن نظرة الرجل شيء ونظرة المرأة لنفس الشيء نظرة مختلفة تماما، ولكن من أجل استمرار الإنسانية يجب أن يكون معنى الأسرة أو ثقافة الـ نحن تشمل ثقافة الـ أنا (للرجل) وثقافة الـ آخر (للمرأة)، عكس ما قام به باراك أوباما في أمريكا بقانون في عام 2015 لتغيير معنى الأسرة في لغة الدولة في أمريكا، ليحول الأسرة إلى علاقة ما بين ثقافة الـ أنا والـ أنا بغض النظر كان رجل أو امرأة أو حيوان بل وحتى آلة، أي ضرب معنى المعاني في قواميس لغات الإنسانية والتي خلاصة الحكمة البشرية عرض الحائط، فهل هذا له علاقة بالمنطق أو الموضوعية وبالتالي العلم من قريب أو بعيد؟ أم هي السياسة/الفكر
منطق …