مرتزقة العشائر

■ يخوض السياسي في وحل المصالح، وينتقل من معسكر إلى آخر بين ليلة وضحاها بدون حياء.. يحوّل بندقيته من هذا الكتف إلى الكتف الآخر، وقد يعرض نفسه للإيجار أو البيع لمن يدفع أكثر..
يختلط عنده العام بالخاص ولديه الاستعداد لبيع العام من أجل الخاص.. يصف أعداءه بأشنع الاوصاف ثم يتنازل لهم مدعيا أنها مرونة بطولية، على الرغم من أنه وصفهم يوما ما بأنهم شيطان أكبر. أما السلطات المعنوية، شيوخ عشائر ورجال دين، فهم رموز مبادئ، رأسمالهم الوحيد هو القيم التي لا يمكن أن يحيدوا عنها مهما غلت التضحيات.. يأنفون السياسة ودهاليزها وألاعيبها، ويحسبون أنفسهم أعلى قدرا وأرفع منزلة من السياسي لأنه بياع كلام لا رصيد له، بينما هم يقدسون الكلمة ويعتبرونها عملتهم التي رصيدها قيم السماء والارض.
لا يظهرون على المسرح الا في المراحل الوطنية الكبرى وفي معارك المصير، يتقدمون الصفوف بلا عين على منصب أو جاه، فهل ماتت القيم وتضرجت بدمائها بضربات المصالح ؟ أم أن شيوخنا استوحشوا هذا الطريق لقلة سالكيه واستبدلوا القيم بالنفاق والتسكع على أعتاب السياسة؟
ليس غريبا أن نرى هذا الكم الهائل ممن يدّعون المشيخة على الفضائيات العراقية والعربية، وأن نسمعهم يخوضون في وحل السياسة التي لا يفقهون منها شيئا، سوى أنها عدسات تلفاز وفنادق خمسة نجوم وزيارات مدفوعة الثمن إلى عواصم عربية وعالمية، ومؤتمرات أعدت بياناتها الختامية قبل انعقادها في أماكن أخرى. اسألوهم عن عدد من هُجّر وقتل واعتقل، ومن لم يذق الطعام منذ فترة من أبناء قبائلهم وعشائرهم، فلن يجيبوكم لأن المشيخة أتت اليهم بقرار سياسي من المحتل، أو من الحكومات عبر التاريخ وليس اليوم فقط، حتى بات معروفا من هو الذي نصّبه الإنكليز والأمريكان أو السلطات المحلية، أي أن الرمزية بما تمثله من قيم المروءة والنخوة والصدق والتكافل والشجاعة والحسب والنسب، لم تكن عاملا رئيسيا في تولي هذا وذاك لهذا الشرف والمنزلة الاجتماعية المهمة، بل كانت الانتهازية والوصولية وبيع المواقف والاستعداد لذبح الأهل وفتح الثغرات في البناء الاجتماعي، هي العامل الحاسم في وصول البعض إلى تبوّء مقعد الشيخ في هذه العشيرة أو تلك، لذلك رأينا كيف ذبح أحدهم خمسين من الماشية حينما حل عنده المجرم بوش وزبانيته ضيوفا، بينما لم يُطعم من ورث المشيخة من بعده من حل به الجوع من أبناء العشيرة بسبب الأحداث التي تمر بها الأنبار، لانه فضّل سكن فندق الرشيد في المنطقة الخضراء أو غيرها من فنادق الدرجة الاولى في بغداد، كي يكون قريبا من المالكي ورهطه ويكون زعيما لصحوته. كما أن البعض منهم فضّل أن يُقيم هو وعائلته في عاصمة عربية مجاورة، وأن يكتفي بالاتصال الهاتفي بالأقارب لسماع الاخبار التي تخص العشيرة، بعد أن وجد أن لقاء ضباط مخابرات ذلك القطر معه بين فترة وأخرى شرف ما بعده شرف، ودليل أهمية وعلو جناب له، خاصة بعد أن تعوّد هذا المسلك حينما كان يزور العاصمة السورية أو يقيم فيها قبل الاحداث. ولن ننسى البعض الآخر الذي بات يكيل المديح والثناء للبيشمركة الكردية والسلطات المحلية هناك، بعد أن بات مقيما دائما في فنادق أربيل، بينما أهله يُذبحون يوميا. فهل يمكننا أن نتوقع أفعالا بطولية ومواقف تاريخية من قبل هؤلاء، توازي مواقف ضاري المحمود وشعلان أبو الجون في عشرينيات القرن الماضي، إبان الاحتلال البريطاني للعراق؟ يقينا لا يمكننا أن نتحدث عن هذا الاحتمال، لان أولئك الرجال كان يكفيهم الشرف الاجتماعي الذي تضفيه عليهم المشيخة، وكانوا مؤمنين حقا بأن خدمتهم لابناء عشائرهم هي منزلة كبرى لهم، لا تدانيها خدمة حاكم أو محتل مهما بلغت قوته وجبروته، ولأن عشائرهم ودورهم في خدمتها أعطاهم هيبة أكبر من هيبة أي حاكم أو محتل، لذا لم يكونوا يعانون من نقص الهيبة أو المكانة الاجتماعية، كي يذهبوا للبحث عنها في دروب السياسة ودهاليز المخابرات أو في أحضان المحتلين وأعوانهم. استمعوا إلى مرتزقة العشائر لتعرفوا أي دور قذر هذا الذي يمارسونه اليوم، فبعد أن تركوا أشقاءهم وأولاد عمومتهم وأبناء العشيرة هائمين في أعماق صحراء الانبار وفي مخيمات أربيل وكركوك، ها هم يطالبون بقدوم قوات أمريكية كي تستقر في المحافظات التي يدعون أنهم يمثلون سكانها، وآخرون يستنجدون بقاسم سليماني الذي أشار عليهم بالذهاب لزيارة طهران لتقديم فروض الطاعة والولاء قبل أن يمن عليهم بالتسليح، واتجاه ثالث يعدّون العدة للذهاب إلى واشنطن كي يطرحوا مطاليبهم عليهم، وهم الذين قتلوهم واعتقلوا أبناءهم وخربوا ديارهم وسلطوا الطائفية عليهم، فأي هوان وذل هذا الذي يتخبطون فيه، إلى الحد الذي باتوا يبحثون عن جيش سني وأقليم بائس كي يصبحوا فيه وزراء ومديرين، بينما كان أبناء عشائرهم هم أول من قاتل الامريكان ورفضوا دستورهم وأقاليمهم، وقبل كل ذلك تصدوا للايرانيين وهزموهم في حرب الثماني سنوات، أي شيخ هذا الذي يدعو قومه إلى العار ويستمر شيخا على رأس عشيرة تاريخها ناصع وبيرقها مُخضب بدماء الشرفاء؟ أنظروا اليهم وهو يتهافتون لعقد المؤتمرات كي يعلنوا براءتهم مما أهلهم وأبناؤهم بُراء منه وهو الارهاب. هم يعلمون ذاك جيدا لكنهم يفعلونه كي يحصلوا على صك الغفران ممن أيديهم ملطخة بدماء أبنائهم. محّصوا جيدا بالصور التي بثتها الفضائيات عن مؤتمرهم الاخير في أربيل، ستجدون الصف الاول هم شيوخ سُنّة المالكي الذين شاركوه كل موبقاته، مضافا اليهم من غضب عليهم وأصدر بحقهم مذكرات إلقاء قبض فهربوا، بينما كان الصف الثاني هم سُنّة الامريكان الذين تصدروا المشهد أثناء الاحتلال، ثم فقـــــدوا مناصبــهم في لعبة تحريك البيادق على رقعة شطرنج السفير الامريكي في بغداد، ولن يكون غريبا عندما تجدون بأن هنالك حضورا دبلوماسيا أمريكيا وبريطانيا وغيرهم، لان بعض المرتزقة من القوم يُريدون ان يُشهدوا هؤلاء الجناة على براءة أهلهم الابرياء، ليس حبا بهم، بل طمعا في منصب أو جاه أو تزكية قد تفيدهم في قادم الايام، بعد أن تحول موضوع الإرهاب إلى أداة للحصول على التفوق الســياسي، خاصة بعد أن وعد الامريكان كل من يحارب في هذه الجبهة بمنحه شهادة حسن سيرة وسلوك.

٭ باحث سياسي عراقي

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جعفر العاني هولندا:

    نحن من أصدقاء الباحث و الدكتور مثنى عبد الله و نرجو منه الاتصال بنا لأننا فقدنا الاتصال به منذ فترة طويلة

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية