إن التفكيك التدريجي الذي تتعرض له ثوابت المرجعيات الكبرى، خلال العقود الأخيرة، وفي مختلف القطاعات الفكرية والإبداعية، هو امتداد طبيعي للتفكيك العام، الذي يطول أغلب وأهم الأنساق الثقافية والمجتمعية.
إن هذا التفكيك يساهم في عملية الطي التام لخطابات، كانت من قبل تحظى باهتمام الخاصة، ونسبة غير قليلة من العامة. وبمراعاة الحد الأدنى من الموضوعية، نكاد نسلم بأن هذه المرجعيات، حينما تلح على عدم الاقتناع بضرورة انسحابها الطبيعي والحتمي من رحاب المشهد الثقافي، فمن منطلق احتمائها بحضورها الرمزي، وباستمراريتها الشكلية، خاصة ضمن إطار الأبحاث والدراسات الأكاديمية، وهو الإطار الذي يحرص على بقائه، من خلال تكريسه الدائم لحضور تلك المرجعيات، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف، بالميل الطبيعي لضمان الحق في الوجود، ولو بصفة غير شرعية، حيث يتحول التخوف من خطر التلاشي والانقراض، إلى نوع من التحفيز الذاتي، الذي يستحث المرجعيات الأكاديمية، على توظيف كافة السبل الكفيلة باستمراريتها، بتوخي إضفاء المزيد من الأهمية المفتعلة، على مجموع الوسائل المساهمة في تكريس العمل بها، حيث يتم التركيز على مطلب«الأهمية»، من خلال الإيحاء بإمكانية بقائها، على ضوء تحديث وسائل استعادتها، وأيضا، من خلال الإيحاء بصلاحيتها المستقبلية، وقابليتها الدائمة، للاحتفاظ بقوتها الإجرائية، بالنظر لما تمتلكه من «خصائص علمية ومنهجية» يتعذر يتجاوزها.
كما أن مطلب الأهمية، لا يتورع عن إضفاء هيبة القداسة المتعالية على هذه المرجعيات، كي تظل في مأمن من أي تشكيك محتمل. ومن المؤكد أن هذه الرؤية ذات البعد المَتْحَفِيِّ جد ضرورية، لاستمرارية الخطابات الفكرية والإبداعية، التي تعاني عادة من محنة خمولها المنذر بدنو أجل احتجابها. وكما هو معلوم، فإن الحرص على تكريس هذه المرجعيات، يخدم توجهات الأوصياء على رعاية المتلاشيات المعرفية، التي قد يؤدي أفولها، إلى أفول شموسهم، وشموس من يدور في فلكهم، من أتباع ومشايعين.
إن تحديث وسائل التعامل مع هذه المرجعيات، غالبا ما يكون ذا طبيعة تجريبية بحتة، الغاية منها محاولة اختبار قدرة بعض المعادلات الجديدة، على إعادة تفعيل الإشكاليات المتقادمة، بما يتيح لها فرصة انبعاثها، وتجديد حضورها. وهو تجريب منحرف، وعلى درجة كبيرة من الخطورة، بفعل إشاعته لحالة من الإبهار، التي لا تستند إلى أي سلطة معرفية، عدا سلطة تحفيزك، على تبني خطابات لا علاقة لها بأسئلة المرحلة. وهي ممارسة، تعتمد على استراتيجية، لا تخلو من مكرٍ، قوامه تطويق الإشكالات المتلاشية بمساحة حاجبة، في أفق دمجها لاحقا، ضمن التوجه السائد، والمتمثل في مقولة إعادة إنتاجها، بما ينسجم مع شروط الحداثة والتحديث. وهذه المنهجية تحظى بتزكية شرائح كثيرة من المتعاطفين، الذين يساهمون في إضفاء غير قليل من المصداقية على منهجية سَدَنة المتحف، بفعل ما تعانيه ملكاتهم من فقر، في المقارنة والفهم والتحليل.
إن قوة الإبهار، تعمي التلقي العام والمشترك، وتصرف اهتمامه عن الجوهري، الذي يفقد سلطة تمركزه، فيصبح غير مرئي، وغير معني بالسؤال والمساءلة، وهو ما يؤدي بالتالي، إلى الاستمرارية المنحرفة لحركية الإشكال. وقولنا بحضور هذا الاستمرار المنحرف للمرجعية المتخفية، مبطن بغير قليل من المرارة والألم، ليس بسبب إلحاح موظفي الذاكرة المَتْحَفية على إدامة حياتها، بل لكونهم طرفا مباشرا في إفساد خصوصيتها، بإكراهها على تحقيق استمرارية غير طبيعية، جراء تفاقم ذلك الفقر المعرفي، الذي يساهم في تبئير العناصر المتعمد حجبها، كي تخفي بظلالها، القضايا الجديرة بالتناول.
إن الأفق هنا يفقد توازنه، كي ينقلب تماما، فتصبح تبعا لذلك، ظاهرة وضع اليد على القطعة المتحفية، أكبر وأهَمَّ تعويض معرفي وثقافي، يمكن أن يتوصل إليه أو يحوزه – الباحث. إنها البديل الجاهز سلفا، الذي يعفيك من خوض مكابدة طرح السؤال، كما أنها البديل الذي يمكن أن يوحي حضوره، بتضاؤل أهمية باقي القضايا المعنية بالتساؤل. أيضا، إن ما يضفي وهم المصداقية على التجريب الذي يمارسه «الباحث» من أجل تفعيل المرجعيات المتلاشية عبر توظيفه للآليات الجديدة، هو ركوبه لعبة التنصل من مقاربة الدلالة، التي تسفر عنها العملية التجريبية، حيث سيكون المهم والأساسي، هو إنجاز العملية المختبرية أولا وأخيرا، وليس ما تفضي إليه. في هذا السياق، يكون فضل استعادة المرجعيات المتلاشية، مجسدا في قدرتها العجائبية على الاستجابة للعبة الانبعاث.
إلى جانب الفقر المعرفي الذي يتميز به المختصون في تفعيل المتلاشيات المرجعية، يصطدم تباعا بتلك الحالات، التي يلجأ إليها الخطاب التلفيقي، في ترويجه للأدوات النظرية، الموظفة عادة في استعادة القطع المتحفية، من أجل التأكيد على صلاحيتها، وعلى أهميتها التداولية. في هذه الحالة، لا تكون المغامرة التلفيقية معنية بهول ما تحصده من خسائر، بسبب ما تتعرض له كل من المرجعيات، والإواليات الموظفة في لعبة الاستعادة من أعطاب، بقدر ما تكون معنية بتحقيقها للحد الأدنى من إستراتيجيتها. إن الحد الأدنى- بما هو حد- بقدر ما يوحي ظاهريا، بحضور رؤية عقلانية للإشكال، بقدر ما يتضمن حالة من الدهاء، المسكون بهاجس تجاوز منطقة الخطر، أي المنطقة التي يمكن أن يفتضح فيها أمر هذه المبادرات المختبرية، فتكشف عن بؤسها، وعن إفلاسها، سواء من حيث هي وسائط في ذاتها، أو من حيث هي وسائط، تتهافت على الإعلان عن وجودها، في قلب الأنساق النظرية الأكثر حساسية والأكثر جاذبية.
إن تجاوز منطقة الخطر، هي الخطوة التي تكون حاسمة ومصيرية، وفور تجاوز هذه المنطقة، يبدأ العد التصاعدي في اكتساح مشروعية الاعتراف، وبالتالي، الفوز بالاستعادة الكريهة للمرجعيات المتلاشية. إن تحقيق الاستعادة على ضوء هذا التصور، يضمن تحقيق إجماع إعلامي. والمقصود بالإعلام هنا، الفضاء الذي يخص مجالا ما من مجالات الاستعادة، حيث يتسع ليشمل كلا من الفضاءات العامة والخاصة، التي نعني بها تلك الدوائر السرية، التي لا علم للخاصة التقليدية بها، كما هو الشأن بالنسبة للتكتلات التي تحترف فن تهريب الزمرد من قبو الكلمات، وإفراغه مباشرة في صحائفها الأكثر بياضا من قلب الاحتيال. عموما، وبصرف النظر عن الفضاءات التي يمكن أن ينتهي إليها مطاف هذه المرجعيات المستعادة، فإن تحولات الخطاب المتسارعة ضمن قنوات وسائط التواصل العام، ستؤدي حتما إلى إلقاء حجب ثقيلة بينها وبين المواكبة المنهجية لها. إن مجالات هذه الاستعادة، سوف تضيق أكثر، كما أن أبواب المتاحف المغلقة، ستصبح أكثر سمكا وصمما، كي تتحول المستعادات في نهاية المطاف، إلى عبء على اللحظة التاريخية، وعلى مشهدها الثقافي، انسجاما مع السرعة الجهنمية التي يسري بها دبيب المعلومة، في مختلف الفضاءات الذي يرتادها، إلى جانب القدرة الفائقة، التي يتمتع بها في إخضاع الجميع لغواية المعلومة، وهو ما يفتح المجال على مصراعيه لـ»العابر»، الذي ليس من الضروري أن يترك أثره على أي شبر من أرض الذاكرة. إن البنية الحديثة للمعلومة، تأبى أن تظل حبيسة مدار السيرورة، ولا تعترف بمفهوم الامتداد في الزمن. إن حدود وآلية اشتغالها، يتمحور أساسا حول الآن والهنا، المستقلين عن أوهام الحضور المستقبلي، كما يتمحور أساسا، حول الانفجار الكبير، الذي تحدثه في قلب هذا الهنا والآن، وعلى رقعة موغلة في اتساعها وانتشارها. إن الطاقة التفجيرية للمعلومة الحداثية، بما تحدثه من ارتدادات عنيفة في فضاءاتها، تنهض من صلب المنهجية الفيزيائية، التي تتحدد بها حركيتها، الشيء الذي يعفيها من قوانين الامتداد الخطي، ومن مفهوم الأثر. إن الأثر الارتدادي الذي يحدثه تفجير المعلومة، يؤدي إلى تبديد كل أثر ممكن. كما أن قوتها التفجيرية والانتشارية، في لحظة محددة، وعلى درجة عالية من التركيز، لا تستدعي بالضرورة حضور أي فضاء إضافي، وأي استمرارية ممكنة. بمعنى أنها تحيا بفعل شرط التناسخ اللامتناهي، السريع والآني، في فضاءات ينتهي بها المطاف إلى ما انتهت إليه سابقاتها. هذا الحصار الكبير المعلوماتي، خاصة في شقه البصري، يؤدي تدريجيا إلى خلق ذاكرة جديدة، يطغى عليها الطابع العملي، المتفاعل بشكل سريع مع الآتي، أكثر من انفعالها مع البعد الاسترجاعي، أو التذكري المهووس بالبحث عن الأثر، وعما هو متوار فيه.
إن هذه الذاكرة، لا يمكن أن تنتج، كائنا آخر، بِقِيَمٍ مغايرة، وبهويات ومقصديات جديدة، لا مجال فيها لاستعادة تلك القطع المتْحَفِيَّة، والمُتخَفِّية، كما لا يمكن تحويلها إلى مختبرات لتصنيع أدوات عمل مختلفة، خاصة أنها مدعمة بذلك الفقر المعرفي الكبير، وبنقصان الخبرة، في تحقيق أي تفاعل محتمل مع الأسئلة الجديدة، التي يطرحها الواقع الثقافي الجديد، وهي أسئلة تَعمى عين النظر الشحيح عن رؤيتها، فلا تنتبه إليها، عدا تلك القلة القليلة والنادرة، مادامت الأسئلة الجوهرية، لا تكشف عن حضورها، بتلك البساطة المتوقعة، لمن يفتقر إلى حد الرؤية والرؤيا.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني